السبت، 21 أبريل 2012

بطء اللاوعي البصري


I

جلستُ على الأرض أدخّن حتّى سالت المادة الصفراء على قدمي. جلست بوعي كلب، وحرفة ميكانيكيّ. جلستُ ونسيت أصبعي يختير ويصفرّ إظفره. 
جلستُ في الخطوة الثالثة ما قبل الشرفة التي كنت أحاول القفز عنها. هنا، حيث الشمس تختير ويصفرّ خاتمها.
هنا، وصفت حياتي بمربّعات، وحبست كل أصبع بمربّع، وقتلت كل قطٍّ وقع في مدخنتي. لأخرج هكذا: شاحباً، رماديّاً: كل الدم في البصاق أحمر، وكل القطط التي ربيتها في حياتي جائعة، وكل الأيدي التي وقعت عن التماثيل، وكل صمتٍ سقط في الجنس.

ثم هانت عليّ نفسي ووقفت أمام الشمس.
وجلستُ أفكّر في مكان مناسب لصورتها على الحائط وأنا أضيف البندورة إلى المادة اللزجة التي تبقبق على النار.

II

لصورتها ثلاثة أقسام يغطّي طرف كل منها الآخر، (من اليمين): الخلفيّة، الوجه، الشّعَر.
قالت أنها تحبّ هذه الصورة، وتهديني إيّاها. 
أحببت الصورة أيضاً، لكنني جلست أفكّر فيها. وعندما أغلق اللابتوب، تنقسم إلى ثلاثة أقسام في خلفيّة ذهني ببطء.
وبينما كنت أفكّر في الصورة قالت لي بأنها ليست مكرّسة للقضايا الكبرى: الأمر الوحيد الذي أعرف التصرّف فيه والإيمان بقدرتي على القيام به هو مرتبط بذاتي. أؤمن بذاتي كفرد لا يمتلك شعوراً بالانتماء. الأمر يشبه الانتماء إلى لحظات بعينها، إلى أمر آنيّ. وهذا ما يجعلك [هنا تنفصل عن ذاتها وتبدأ بالكلام عنها بصيغة الشخص الثالث] من الصعب أن تسيطر على عواطفك. يجعلك تدرك هشاشة وجودك.
صمتت قليلاً لتقول: أنا أتعرّض لحالات من الذعر تأتي من الفراغ. وما يفزعني هو التفكير فيما أستطيع تحقيقه قبل أن أختفي. اعتقدتُّ بأن مشاكلي مع الموت انتهت، لكن عندما تصبح الحياة مثيرة، وعندما أتعلّق بالناس، أكتشف بأنني أفزع.
الآن، تقول، لدي ما يحرّرني من كل الالتزامات. أريد أن أشتغل على حياتي، أريد أن أتعامل مع وجودي على أنه تجربة. أشعر بأنني الآن منفتحة على كل الاحتمالات، والآن سأبدأ بالحديث عن نفسي. هل قمت بطباعة الصورة؟

قلت لها: لا، لكنني وجدت المكان المناسب لوضعها.

وكنت وجدت البقعة المناسبة بالفعل. لكنني كنت أفكّر في الصورة، ولا أريد أن أعلّقها قبل أن أحتفظ بها في ذهني كما أتلقاها بصريّاً.
كنت أبحث عن النقطة التي تكثّفت فيها هذه الثلاثة أقسام لتصبح لحظةً واحدة، وتصبح، في الوقت نفسه أيضاً، عدّة أزمان.
يقول فالتر بينيامين: "الطبيعة التي تخاطب آلة التصوير الفوتوغرافي هي طبيعة أخرى غير تلك التي تخاطب العين".
أي أنها تفكّك ما نعرفه بصريّاً بالسرعة المعتادة إلى جزيئات مرتبطة باللاوعي البصري. لأننا لسنا قادرين على الاحتفاظ بصور دقيقة عن هيئة الآخرين.
نحن نحبّ صوراً لنا ونمقت أخرى لأن هيئتنا مرتبطة بفكرتنا عن أنفسنا. وهذا غير مرتبط بالشكل في أغلب الأحيان.

وبينما كنت أفكّر في بطء الوعي البصريّ، اكتشفت لماذا تحبّ صورتها. هي ببساطة أحبتها لأنها تشبه فكرتها عن نفسها: البطء، الفردانيّة، والهشاشة التي تتباين بين الضوء والعتمة.

ففي القسم الأول تكمن الهشاشة: خلفيّة باهتة ومشوّشة يظهر منها طرف باب: بهتان يُرَى، مُتّفقٌ على أنه موجود، لكن مختلف على تأثيره. وهي تميل برأسها إلى هذه الخلفيّة، لكنها لا تراها. تعرف أنها موجودة، لكنها تفضّل أن تطمئن على وجودها كي تتناساها. الماضي يعشّش في هذا البهتان. والماضي هو الذي يغذّي "هشاشة وجودها" التي تتكلّم عنها.

الهشاشة موجودة أيضاً في القسم الثاني. هنا يسقط عمود ضوء على وجهها وهي مغيّبة: الكاميرا تلتقط هذه اللحظة في الوقت ذاته الذي تغمض فيها عينيها، وتنقبض شفتاها ببطء، وتتحرّك عضلات وجنتيها لتشكّل، في ذروتها، نتوءان يحيطان بالطرف الأيسر من شفتيها. 
لا يبدو أن ملامحها منهكة من الضوء. وفي نفس الوقت، لا يبدو أنها تمانع ألا يكون الضوء موجوداً بهذه الكثافة. هي تستقبله وتتكيّف معه، بدون أن تكون معنيّة بوجوده من عدمه. وهي تفعل ذلك ببطء بينما يغطي شعرها معظم مساحة عينها اليمنى. 
وهذه اللحظة الآنيّة هي فكرتها عن نفسها: هذه اللحظة حيث تتولى كل روبوطات العالم حياكة كنزة من الصوف: بميكانيكيّتها العذبة وغير المرنة، بالوقت الذي يلزم لالتقاط كرة صوف تحت الصوفا، بعفويّة سقوط الضوء على الأيدي المعدنيّة الممسكة بعصي الحياكة.
وهي تبدو كما لو أنها تنظر إلى مشهد كذلك: خالقةً الفراغ الذي يلزم لإدراك بطئها، وفردانيّتها.

هنا يقع القسم الثالث على يمينها: يبدأ من شعرها، ويزداد قتامة إلى أن يصبح أسود خالصاً. وهي، بفعل الضوء، تغمض العين الأقرب إلى هذه المساحة التي تبتلع ثلث الصورة ولا تخلّف إحساساً بشيء: لا بليل، ولا بغموض، ولا سحر ولا كآبة. إنها فقط مساحة فارغة من فرط ما كان يشغلها أشخاص، أو لحظات أو أماكن. لحظة ميّتة في المستقبل. نجمة ميّتة تفكّر في ماضيها. 
المستقبل لديها ليس موجوداً فعليّاً إلا في الحاضر. والحاضر لديها آنيّ يسهل التفلّت منه. والماضي موجود في الخلفيّة يتم التشويش عليه بالضوء.
وهي كذلك.