السبت، 21 أبريل 2012

بطء اللاوعي البصري


I

جلستُ على الأرض أدخّن حتّى سالت المادة الصفراء على قدمي. جلست بوعي كلب، وحرفة ميكانيكيّ. جلستُ ونسيت أصبعي يختير ويصفرّ إظفره. 
جلستُ في الخطوة الثالثة ما قبل الشرفة التي كنت أحاول القفز عنها. هنا، حيث الشمس تختير ويصفرّ خاتمها.
هنا، وصفت حياتي بمربّعات، وحبست كل أصبع بمربّع، وقتلت كل قطٍّ وقع في مدخنتي. لأخرج هكذا: شاحباً، رماديّاً: كل الدم في البصاق أحمر، وكل القطط التي ربيتها في حياتي جائعة، وكل الأيدي التي وقعت عن التماثيل، وكل صمتٍ سقط في الجنس.

ثم هانت عليّ نفسي ووقفت أمام الشمس.
وجلستُ أفكّر في مكان مناسب لصورتها على الحائط وأنا أضيف البندورة إلى المادة اللزجة التي تبقبق على النار.

II

لصورتها ثلاثة أقسام يغطّي طرف كل منها الآخر، (من اليمين): الخلفيّة، الوجه، الشّعَر.
قالت أنها تحبّ هذه الصورة، وتهديني إيّاها. 
أحببت الصورة أيضاً، لكنني جلست أفكّر فيها. وعندما أغلق اللابتوب، تنقسم إلى ثلاثة أقسام في خلفيّة ذهني ببطء.
وبينما كنت أفكّر في الصورة قالت لي بأنها ليست مكرّسة للقضايا الكبرى: الأمر الوحيد الذي أعرف التصرّف فيه والإيمان بقدرتي على القيام به هو مرتبط بذاتي. أؤمن بذاتي كفرد لا يمتلك شعوراً بالانتماء. الأمر يشبه الانتماء إلى لحظات بعينها، إلى أمر آنيّ. وهذا ما يجعلك [هنا تنفصل عن ذاتها وتبدأ بالكلام عنها بصيغة الشخص الثالث] من الصعب أن تسيطر على عواطفك. يجعلك تدرك هشاشة وجودك.
صمتت قليلاً لتقول: أنا أتعرّض لحالات من الذعر تأتي من الفراغ. وما يفزعني هو التفكير فيما أستطيع تحقيقه قبل أن أختفي. اعتقدتُّ بأن مشاكلي مع الموت انتهت، لكن عندما تصبح الحياة مثيرة، وعندما أتعلّق بالناس، أكتشف بأنني أفزع.
الآن، تقول، لدي ما يحرّرني من كل الالتزامات. أريد أن أشتغل على حياتي، أريد أن أتعامل مع وجودي على أنه تجربة. أشعر بأنني الآن منفتحة على كل الاحتمالات، والآن سأبدأ بالحديث عن نفسي. هل قمت بطباعة الصورة؟

قلت لها: لا، لكنني وجدت المكان المناسب لوضعها.

وكنت وجدت البقعة المناسبة بالفعل. لكنني كنت أفكّر في الصورة، ولا أريد أن أعلّقها قبل أن أحتفظ بها في ذهني كما أتلقاها بصريّاً.
كنت أبحث عن النقطة التي تكثّفت فيها هذه الثلاثة أقسام لتصبح لحظةً واحدة، وتصبح، في الوقت نفسه أيضاً، عدّة أزمان.
يقول فالتر بينيامين: "الطبيعة التي تخاطب آلة التصوير الفوتوغرافي هي طبيعة أخرى غير تلك التي تخاطب العين".
أي أنها تفكّك ما نعرفه بصريّاً بالسرعة المعتادة إلى جزيئات مرتبطة باللاوعي البصري. لأننا لسنا قادرين على الاحتفاظ بصور دقيقة عن هيئة الآخرين.
نحن نحبّ صوراً لنا ونمقت أخرى لأن هيئتنا مرتبطة بفكرتنا عن أنفسنا. وهذا غير مرتبط بالشكل في أغلب الأحيان.

وبينما كنت أفكّر في بطء الوعي البصريّ، اكتشفت لماذا تحبّ صورتها. هي ببساطة أحبتها لأنها تشبه فكرتها عن نفسها: البطء، الفردانيّة، والهشاشة التي تتباين بين الضوء والعتمة.

ففي القسم الأول تكمن الهشاشة: خلفيّة باهتة ومشوّشة يظهر منها طرف باب: بهتان يُرَى، مُتّفقٌ على أنه موجود، لكن مختلف على تأثيره. وهي تميل برأسها إلى هذه الخلفيّة، لكنها لا تراها. تعرف أنها موجودة، لكنها تفضّل أن تطمئن على وجودها كي تتناساها. الماضي يعشّش في هذا البهتان. والماضي هو الذي يغذّي "هشاشة وجودها" التي تتكلّم عنها.

الهشاشة موجودة أيضاً في القسم الثاني. هنا يسقط عمود ضوء على وجهها وهي مغيّبة: الكاميرا تلتقط هذه اللحظة في الوقت ذاته الذي تغمض فيها عينيها، وتنقبض شفتاها ببطء، وتتحرّك عضلات وجنتيها لتشكّل، في ذروتها، نتوءان يحيطان بالطرف الأيسر من شفتيها. 
لا يبدو أن ملامحها منهكة من الضوء. وفي نفس الوقت، لا يبدو أنها تمانع ألا يكون الضوء موجوداً بهذه الكثافة. هي تستقبله وتتكيّف معه، بدون أن تكون معنيّة بوجوده من عدمه. وهي تفعل ذلك ببطء بينما يغطي شعرها معظم مساحة عينها اليمنى. 
وهذه اللحظة الآنيّة هي فكرتها عن نفسها: هذه اللحظة حيث تتولى كل روبوطات العالم حياكة كنزة من الصوف: بميكانيكيّتها العذبة وغير المرنة، بالوقت الذي يلزم لالتقاط كرة صوف تحت الصوفا، بعفويّة سقوط الضوء على الأيدي المعدنيّة الممسكة بعصي الحياكة.
وهي تبدو كما لو أنها تنظر إلى مشهد كذلك: خالقةً الفراغ الذي يلزم لإدراك بطئها، وفردانيّتها.

هنا يقع القسم الثالث على يمينها: يبدأ من شعرها، ويزداد قتامة إلى أن يصبح أسود خالصاً. وهي، بفعل الضوء، تغمض العين الأقرب إلى هذه المساحة التي تبتلع ثلث الصورة ولا تخلّف إحساساً بشيء: لا بليل، ولا بغموض، ولا سحر ولا كآبة. إنها فقط مساحة فارغة من فرط ما كان يشغلها أشخاص، أو لحظات أو أماكن. لحظة ميّتة في المستقبل. نجمة ميّتة تفكّر في ماضيها. 
المستقبل لديها ليس موجوداً فعليّاً إلا في الحاضر. والحاضر لديها آنيّ يسهل التفلّت منه. والماضي موجود في الخلفيّة يتم التشويش عليه بالضوء.
وهي كذلك.

الأحد، 25 مارس 2012


لم أقتل قطاً.
اعتقدت بأنني خوّفته ليهرب إلى المدخنة ويسقط.
اعتقدت بأنني سمعت سقوطاً. أو تخيّلت معاندةً 
أو يداً تسقط عن جبين

قتلت قطاً.
لم أكن أقصد؛ كان خائفاً وهرب إلى المدخنة فسقط.
سمعت سقوطاً، لكنني خضضتُ ماءً بفمي ونزلت على الدرج.
شربت قهوةً، دخّنت سيجارة، وأجهزت على زواج سابق.
قلت لصبية تعتقد بأنني أصبحت أجمل أن صديقتها أصبحت أجمل.
جلست إلى جوار أجمل صبية
ورميت الواقي الذكري وراءها.
كانت ترتدي قناع أحمد، وكنت أرتدي قناع أحمد.
دخلت إلى غرفة النوم، وتبعني إليوت: أشار إلى حذائي، وقادني إلى السرير:
وضعت حذائي على الباب، ونمت، وصرت جاهزاً للحياة.

الأربعاء، 8 فبراير 2012

قناع أحمد

قتلت قطاً.
لم أكن أقصد؛ كان خائفاً وهرب إلى المدخنة فسقط.
سمعت سقوطاً، لكنني خضضتُ ماءً بفمي ونزلت على الدرج.
شربت قهوةً، دخّنت سيجارة، وأجهزت على زواج سابق.
قلت لصبية تعتقد بأنني أصبحت أجمل أن صديقتها أصبحت أجمل.
جلست إلى جوار أجمل صبية
ورميت الواقي الذكري وراءها.
كانت ترتدي قناع أحمد، وكنت أرتدي قناع أحمد.
دخلت إلى غرفة النوم، وتبعني إليوت: أشار إلى حذائي، وقادني إلى السرير:
وضعت حذائي على الباب، ونمت، وصرت جاهزاً للحياة.

الأحد، 22 يناير 2012

إخواني البشر


إخواني البشر by Latakon




النادلات الكهلات رماديات الشعر

في ليل المقاهي

استسلمن،

وبينما أعبر أرصفة

الضوء وأنظر إلى نوافذ

الحاضنات

أرى أنها لم تعد معهم.


أرى بشراً يجلسون على مقاعد الحدائق

وأستطيع أن أرى من طريقة

جلوسهم ونظراتهم

أنها غادرتهم.


أرى بشراً يقودون السيارات

وأرى من طريقة

قيادتهم السيارات

أنهم لا يحِبّون

ولا يحَبّون

ولا يفكّرون في

الجنس. كله منسيّ

كفيلم قديم.


أرى بشراً في المتاجر

والسوبرماركيتات

يسيرون عبر الممرات

يبتاعون أشياء

وأرى من طريقة ملاءمة ثيابهم

لهم ومن طريقة سيرهم

ومن وجوههم وعيونهم

أنهم لا يبالون بشيء

ولا شيء يبالي

بهم.


يمكن أن أرى مئة شخص في اليوم

استسلموا

كلياً.

إذا ذهبت إلى حلبة سباق

أو إلى حدث رياضي

أرى الآلاف

ممن لا يكنّون شعوراً لشيء

أو أحد

ولا يتلقّون شعوراً

في المقابل.


في كل مكان أرى أولئك الذين

لا يتوسّلون شيئاً سوى

الطعام والمأوى

والثياب؛ يركّزون

على ذلك،

بلا أحلام.


لا أفهم لمَ لا يختفي أولئك

البشر

لا أفهم لمَ لا تنتهي

مدّتهم

لمَ لا تقتلهم

الغيوم

أو لمَ لا تقتلهم

الكلاب

أو لمَ لا تقتلهم

الزهور والأطفال،


لا أفهم.

أفترض أنهم مقتولون

لكنني لا أستطيع التكيّف

مع واقعهم

لأنهم كثيرون

جداً.


كل يوم،

كل ليلة،

تزداد أعدادهم

في قطارات الأنفاق وفي

المباني وفي

الحدائق

لا يشعرون برعب

أنهم لا يحِبُّون

أو لا

يحَبَّون


الكثير الكثير الكثير

من إخواني

البشر.




تشارلز بوكوفسكي

الأربعاء، 18 يناير 2012

وينظر إلى قدميه اللتان تلمعان الآن في عمود الضوء. وينظر إلى قدميه اللتان تلمعان الآن في عمود الضوء.

غرفة مستطيلة بشبّاكين: أحدهما في الجهة الغربيّة، والآخر في الجنوبيّة الغربيّة. الشّمس الآن تقطع المسافة بين الشبّاكين، إلا أن طرفها لا يزال يستعمل الشبّاك الجنوبيّ الغربيّ. 
يقع عمود من الضوء الباهت على طرف صوفا زرقاء كالحة ليمسّ طرف جينز  داكن [بأزرار] ملقى هناك.
ثمّة جينز آخر فاتح [بسحّاب] خارج عمود الضوء. البنطالان ملقيان فوق بعضهما، ويظهران، من اتسّاع خصرهما، حوضاً ممتلئاً لصحابهما.
ثمّة قميص صيفيّ كحلي مخطّط بالأبيض، ألقي فوقه جاكيت بدلة أسود لا تظهر تفاصيل قصّته.
على الطرف الآخر من الصوفا معطف حمّام أصفر نصف مبلول [بدليل اتجاه الوبر]، ملقى إلى جانب منشفة خضراء فاقعة. فوقهما كومة ملابس يتدلى من جانبها طرف معطف أنيق، وكمّ قميص كاروهات صغيرة جداً.
يكاد طرف المعطف أن يلمس فردة حذاء لا تزال أشرطته مربوطة. أما معطف الحمّام فيغطّي طرفه مقدمّة بوط بعنق متوسطة. مقدّمة الحذاءان تتجه إلى الجدار الذي رسم على منتصفه، بقلم رصاص، خط يتلطّخ ليترك بقع رماديّة.
مؤخرة الحذائين تتجه إلى مدفأة غاز مضاءة على شعلتين. وعلى سطح المدفأة الملطّخ فوطة صفراء عليها مفتاح غاز، وسكّين كبير يشير نصله إلى ثلاث صور معلّقة على الجدار المقابل لتوم وايتس، فرانسوا ساغان، ومارلين مونرو.
توم وايتس يحمل عصا المايكروفون بالتوازي مع رجله اليمنى. قبعته تكاد تختفي وراء يده اليمنى المرفوعة لتحمل المايكروفون، وجهه يتدلّى إلى الأسفل مغمض العينين.
ساغان مستلقية على بطنها في غرفة من الأربعينيّات، بشعر قصير وملامح تمنح الشعور بأنها لا تزال في السادسة عشرة، ترتدي تنورة كاروهات وبلوزة مقلّمة. تنظر مباشرة إلى الكاميرا وهي تضع أصبعها الأوسط على الآلة الكاتبة.
مونرو تلفّ نفسها بشرشف أبيض. لا يظهر من جسدها شيئاً إلا يديها التي تكسر بيضة في كأس حليب موضوع بصينيّة على طرفها الأيسر، ورجلها كاملة: من زاوية الحوض إلى أصابع قدمها التي تستند إليها.
مقابل جدار الصور يجلس "أ. ز"، وهو يكتب على اللابتوب، على صوفا زرقاء أقل بهتةً، قدماه مرفوعتان على طاولة صغيرة عليها فنجان أبيض متوسط الحجم موضوع على قطعة ورق مقوّى مرسوم عليها غاندي. ومطفأة تحتوي على تسع سجائر عكفت فلاترهم بنفس الطريقة، ملقط حواجب، ولاعتان: خضراء شفافة، وزرقاء صغيرة. وعلبة سجائر "كنت" عليها ولاعة صفراء.
يداه الاثنتان على اللابتوب، حاملاً سيجارة يكاد رمادها أن يسقط على الكيبورد. يرفع رأسه كل قليل ليصف المشهد الذي يراه ليكتبه.
وكل دقيقة يرفع نظره عن الشاشة ليفكّر، ناظراً إلى قدميه اللتان انحسر عنهما البنطال المخطّط بالأسود والرمادي والأبيض على جوارب رماديّة وخفّ بنّي ثقيل.
كل 10 دقائق يمدّ يده اليمنى إلى جانبه من دون أن ينظر ليلتقط زجاجة ماء ويشرب منها وهو ينظر إلى أكوام الكتب المصفوفة بعناية إلى الطاولة المتوسطة إلى يمينه: كتابان لأبير كامو بالإنجليزيّة، كتابان لستيفان تسفايج، كتاب لخالدة سعيد، وديوان سليم بركات، ورواية Naked Lunch لويليام بوروز، وكتاب لجون بيرجر، وكتاب قصص قصيرة لمحمد خير، وكتب لساغان وكونديرا ومي غصوب وشوماكواندو وعبد الكبير الخطيبي وماتي أونت وعلي الشوك وربيع جابر. وكتابان ضخمان لأومبرتو إيكو وجورجي أمادو. إلى جانب علبة مناديل وغطاء علبة وشاحن اللابتوب وعلبة سجائر أخرى وشوكة متّسخة.
يلمع موبايله الموضوع على حجره ليلتقطه ويقرأ عنوان الرسالة ويمسحها مباشرة.
يكتب كل شيء بمجرّد حصوله، ويصف كل شيء بمجرّد أن يتحقّق. وعندما تمشي الغيمة التي وصفها قبل قليل، يعود إلى ما كتبه ويعدّله حتى تختفي تماماً.
هنا يقع في المشكلة التي لطالما حاول تجنّبها: يفكّر في المشكلة، واضعاً يده الباردة على شعره القصير ليشتم رائحة عرق من تحت إبطه، ويتذكّر "تاء" التي قالت بأنها تحبّ رائحة عرق الإبط.
يفكّر في المشكلة وهو يقرّر أنه لن يكتب عن أي شخص آخر، حتى "تاء".
يفكّر في المشكلة وهو يقرّر أنه لن يكتب عن أي شخص آخر، حتى "تاء".
يكتب الجملة مرتين، ويقرّر أنه سيتخلص من كل هؤلاء الأشخاص عندما يكتب عنهم مرتين. 
ويعود ليفكّر في المشكلة وهو يشعل سيجارة أخرى.
ويعود ليفكّر في المشكلة وهو يشعل سيجارة أخرى.
ويحاول أن يمرّن نفسه على ألا يصف شيئاً سينمائيّاً أو مسرحيّاً، ويقرّر الاعتماد على الأفكار.
ويحاول أن يمرّن نفسه على ألا يصف شيئاً سينمائيّاً أو مسرحيّاً، ويقرّر الاعتماد على الأفكار.
يتفقّد يده المليئة بالجروح، ويعدّها: أربعة. ويحاول أن يستهلك الوقت بالكتابة كي يمرّر إحساسه بالموسيقى التي يستمع إليها بسمّاعتين صغيرتين. وينفر من شخصية الفرقة المتضخّمة التي تختار اسمها: Riding Alone for Thousands of Miles.
في البداية، كان يحاول كتابة مسرحيّة. لم يقرأ مسرحيات كثيرة رغم ولعه بصمويل بيكيت. لكن الفكرة جاءته حالما فتح عيونه صباحاً، وتخلّص من الأفكار التي انحسرت عن وعيه كما لو كان يزيح عن جسده أكوام قطن ناعم.
لكنه اكتشف لاحقاً أنه يريد فقط أن يستهلك الوقت كغيره. لذا، أقصى كل القصص التي يمكن أن يكتبها ويشوّهها، وكل الأفكار التي أراد كتابتها عن هيغل.
واكتشف أيضاً أنه يريد أن يتخلّص من الدهشة في الكتابة. أراد فقط أن يكتب بدون أن يترك أثراً. 
وينظر إلى قدميه اللتان تلمعان الآن في عمود الضوء.
وينظر إلى قدميه اللتان تلمعان الآن في عمود الضوء.
في الواقع، أراد أيضاً أن يتخلّص من الكتابة عن الماضي. وكلمات مثل: "في الواقع". ولأنه الآن يشعر بأقل ثقل للوقت، قرّر ألا يكتب عن ليلة الأمس، رغم أنه يرغب بذلك بشدّة.
هو، في الواقع، في الواقع، يريد أن يتخلّص من أي شعور من أي شخص تجاهه. ربما يتحسّن ذلك، كما قال لـ"أ" وهو يفتح علبة سجائر أخرى.
أولاً: ينزع غلاف البلاستيك الذي يغلّف طرف العلبة.
ثانياً: يفتح العلبة وينزع غلاف القصدير عن أطراف السجائر.
ثالثاً: يكوّم طرف غلاف البلاستيك، ويلفّ باقي الغلاف عليها.
رابعاً: يمسك كرة الغلاف البلاستيك بأصبعين، ويلفّ القصدير عليها.
خامساً: يضع الكرة في المنفضة.
ولأن المحادثة الأجمل تجري مع "أ" فقط، يخبره أنه سيتحسّن. لكنه سيعود دوماً إلى هذه المنطقة. لذلك، أرسل على رقم موبايله رسالة ليلة الأمس ليلة الأمس، وهو يفكّر في أن يخبر أحداً عنها أم لا.
لكنه يفكّر أيضاً في أنه سيختتم بها ما يكتبه.
لكنه يفكّر أيضاً في أن بوكوفسكي كان أيضاً غاضباً.
لكنه يفكّر أيضاً في أن بوكوفسكي كان أيضاً غاضباً.
وأنه يعتقد أن الطريقة الوحيدة لإنهاء كتابة هي أن يصبح المرء هادئاً فجأةً.
و"أ" يعتقد بأن "أ. ز" يجلس ليكتب لأنه لم يعد في مخيلته أحد ليتكلم معه.

الخميس، 12 يناير 2012

نصف حبيبتي

وثمّ أنني مشيت كثيراً. وفكّرتُ كثيراً بأرسغ مقطوعة تتدلى من حواف أسطح البيوت الباردة. لكنني لم أكن مكتئباً تماماً. لو كنت شخصاً آخر- قلت لنفسي، لأحببت هذه المدينة التي أقطع ربعها في الواحدة صباحاً خلال ساعة واحدة فقط.
وإذ سلّمت على نصف حرّاس السفارات؛ عرضت عليهم سجائري، ودخلت كشك أحدهم ولمستُ سلاحه وحدّثته عن ماري جبران. إلا اثنين، تجاهلتهما، وادّعيت أنني لم أسمع أحدهما يقول لي: "أوقفلك سيارة توصلك سيدي؟".
ثم فكّرت في عمّان شارعاً واحداً. وشعرت بأنني سأحب المدينة لو كان أهلها أكثر جنوناً قليلاً. كأن يصطادوا التماسيح التي تتخبّط ذيولها على حواف البرك الصغيرة.
هكذا، تجاوزت دبّابة بسهولة. وشعرت بأنني أترك حياتي لتسير أمامي من دون ندم.
تركتها، لأول مرة. وهكذا شعرت بالرضا.
وشعرت بأن البنك لو نفّذ تهديده وسجنني بعد أسبوعين أنني لا أبالي؛ فقد أطلقت حياتي، ولن ينافسني فيها أحد.
لا زاوية في منزل، ولا عشب يخضرّ ببطء تحت سماء فارغة، ولا كل الدراجات الهوائية في مسرحيات صمويل بيكيت وأفلام ثيو أنجيلوبولوص.
ولا حتى نصف كلمة "حبيبتي" على الهاتف التي أعضّ على أولها، وأترك آخرها تسير أمامي.

الأحد، 1 يناير 2012

المهرجون: بناة العالم

"أنا بخاف من المهرّجين"- قالت هذه الجملة وهي تمشي بسرعة نحونا لتحتمي بنا بعيداً عمّن ارتدى قبّعة ملوّنة لأحد فرق كرة القدم. كنّا قد بدأنا بالحديث عن أمور لا أذكرها. مجرّد حديث ليس له معنى بين رجلين في الساعة الرابعة والنصف صباحاً- حتى جاءت تلوّح بيديها الصغيرتين أمام وجهينا اللذين تخدّرا بابتسامتين بلهاء. لكنها لم تكن تنظر إلينا. كانت عيناها معلّقتان بخيط يتحّرك ببطء في الفراغ: جوفاء، تعكسان هاوية سوداء.
لم يكن توسّع عيناها أسودَ تماماً؛ كان لوناً يطمح إلى ما هو أكثر قتامة من الأسود. كانت بالفعل مفزوعة. وبقيت أفكّر في أنني لم أر سواداً بهذا العمق قبل الآن، بينما تهتزّ خصلات شعرها الشقراء الداكنة فوق جبينها العريض، ويلتوي طرف شفتها إلى زاوية مكسورة لليمين.
كنا، أنا والرجل الإيطاليّ، لا نزال نبتسم. ولم يفكّر أحدنا في طمأنتها. حتى أن ذهبت، نظر الإيطاليّ إلى زجاجة البيرة في يده، وصار يلوّح بها ببطء إلى الأعلى والأسفل.


"تعرف؟ أنا أخاف من المهرجين أيضاً. أو ربّما ليس خوفاً حقيقيّاً، لنقل أنني لا أشعر بالراحة وأنا معهم في مكان واحد."
كنت أحاول أن أبذل جهداً كبيراً في إبداء الاهتمام، أو حتى الإنصات بشكل جيّد. كان قد مرّ على مللي 12 ساعة تقريباً وأنا أحاول تطوير حاسّة اجتماعيّة تحميني من الاندفاع إلى الغضب بكل طاقتي.
أفلتت مني شحنات غضب مرتين، وكلتاهما باتجاه نفس الشخص. في مزرعة خارج عمّان أشعلنا حطباً في الفاير بلايس، وشربنا كل ما استطعنا أن نحمله معنا من نبيذ قبل الساعة العاشرة مساءً.
كنتُ أحاول أن أبدو هادئاً. لكن لحظات الغضب كانت تفلت مني في الحوارات التي أكون أنا في مركزها.
في المرة الأولى صرخت بوجهها، وتابعتها وهي تنهزم وتذهب لتحرّك الحطب الذي تجمّر في الفاير بلايس. وبعد أن انتهى الحوار، حاولت إقناعها بأنها انزعجت مني بدون جدوى.
بعدها بأكثر من ساعة كنا نتحدّث مع صديقها الذي جاء من سيناء عن الحلف بين قبيلتيّ الحويطات والترباني اللتان ساندتا لورنس العرب ضد العثمانيين. 
كنا نرتجف من البرد تحت عدد هائل من النجوم. وعكس ضوء نصف القمر طرفي وجهيهما بدون أن أدرك وقتها أنه يعكس وجهي أمامهما. وتمنيّت لو أنني أرى وجهي من مكانهما: ملتحياً، شاحباً. ببقايا الدم المتحجّر من جرح على أنفي، وعيني الغائرتان من كثرة ادّعاء الابتسام.
فجأة انتبهت إلى أنها لا تمرّر السيجارة التي خرجنا لتدخينها ثلاثتنا، فصرخت بها. إلا أن الموقف تحوّل إلى غزل خفيّ بينهما عندما قال لي الترباني بخجل من بين أسنانه البيض: "لا تتكلم مع صديقتي بهذه الطريقة".
لكن الإيطالي كان لطيفاً، ويتحدّث بودّ عن أمر شخصي جداً. كان مندفعاً، ويتكلّم عن نفس الموضوع بأربعة عشر طريقة. عرفت ذلك عندما بدأت بعدّها في المرة الرابعة وأنا أحاول أن أشاركه ليقطع نصف جملتي: "well I have the same disturbing feeling, but".
حتى هدأ فجأة على صوت أغنية "سوينغ" أخرى تنبعث من غرفة مغلقة أسميناها: غرفة الرقص المؤقت.
"أشعر بنفس الشعور المزعج، لكن تجاه الأشخاص الذين يغمرون المكان بشخصيتهم المسيطرة. أعني أولئك الذين يتمتّعون بالطاقة التي تجبر الآخرين على الاستماع. الذين يبدو طرحهم كاملاً وغير قابل للنقض. أميل للأشخاص المعطوبين، المشوّهين عاطفيّاً، الشّاردين، الذين تخفت طاقتهم وهالتهم إلى درجة غير مرئيّة. لا أشعر بأنني معنيّ بإيجاد طرق للتواصل مع المُبهرين، ولا أعتقد أنه بإمكانك بناء شيء معهم".
"هذا صحيح تماماً" - يبتسم بعمق كأنه عثر على خاتمة مثاليّة لهذه الليلة: "المهرجون بالنسبة إلي هم الأشخاص الذين تصفهم بالضبط: إنهم بكل بساطة مزيّفون، إنهم يمثلون طيلة الوقت بتلك الابتسامة المرسومة وكل التصرّفات المستعارة والإضافات المتكلّفة على مظهرهم".


في غرقة الرقص المؤقت رقصنا على "إنت عمري". رفيقتي في الرقصة قالت وهي تبتسم: "مش معقول، لم أرك منذ عدة شهور وكنت أتوسّل إليك حتى ترقص معي. ما الذي حدث وغيّرك؟"


في الطريق إلى المنزل في سيارة "تاء" كالعادة، كان نصف القمر ينحدر إلى زاوية غبيّة. موهومان بأننا سعيدين: تكلمنا كثيراً عن خطط السنة الجديدة.


عندما وصلنا إلى منزلي، خرجت من السيارة لأرمي أكياس القمامة في الحاوية على زاوية الشارع. كانت السماء تنفتح على ضوء يتسرّب من باب تركه أحدهم موارباً. وكانت "تاء" من وراء الزجاج الأماميّ تنظر إلى خيط يتحرّك ببطء في الفراغ. مفزوعة، بلون عينين أخفّ سواداً، تلوّح بيديها الصغيرتين، مودّعةً، أمام وجهها الشّاحب.


ولم أنسَ، كما أفعل عادةً، أن أخلع الأنف الأحمر والقبعة الملوّنة قبل أن أنام.
"أنا بخاف من المهرجّين"- قالت هذه الجملة وهي تمشي بسرعة لتحتمي بنا بعيداً عمّن ارتدى قبّعة ملوّنة لأحد فرق كرة القدم. كنّا قد بدأنا بالحديث عن أشياء لا أذكرها. مجرّد حديث ليس له معنى بين رجلين في الساعة الرابعة والنصف صباحاً- حتى جاءت تلوّح بيديها الصغيرتين أمام وجهينا اللذين تخدّرا بابتسامتين بلهاء. لكنها لم تكن تنظر إلينا. كانت عيناها معلّقتان بخيط يتحّرك باستمرار في الفراغ: جوفاء، تعكسان هاوية سوداء.
توسّع بؤب