الثلاثاء، 11 ديسمبر 2018

العبور | كورماك مكارثي

عَبَرَ الوادي الصغير واتّجه غرباً إلى الجبال. لم تكن ثمّة طريقة لمعرفة كم قضى من الوقت في ذلك المكان، لكنّه عرف ممّا رآه من كل خير أو شر تأمّله على حصانه أنّه لن يخاف ممّا قد يواجهه هناك. بعد أيّام، سيصادف هنوداً جامحين في سلسلة الجبال يعيشون في أكواخ وبيوت مقبّبة ضمن مزارعهم البائسة، وهنوداً أكثر جموحاً يعيشون في كهوف اعتقدوا جميعاً أنّه مجنون بالنّظر إلى الطريقة التي تعاموا بها معه. أطعموه وغسلت النساء ورتقن ملابسه، وخيّطن حذاءه بمخرز وأربطة صنعنه يدويّاً من أقدام صقر. تحدّثوا فيما بينهم بلغتهم، أو معه بإسبانيتهم المكسّرة. قالوا أن أغلب شبابهم ذهبوا للعمل في المناجم أو في المدن، أو في مزراع المكسيكيين، لكنّهم لم يكونوا يثقون بالمكسيكيين. إذ كانوا يتاجرون معهم في القرى الصغيرة الممتدّة على طول النهر، وفي بعض الأوقات، كانوا يقفون في حلقة الضوء الخارجيّة ويشاهدونهم في مهرجاناتهم من دون أن يشاركوهم. قالوا أنّهم يلومون المكسيكيّون على الجرائم التي ارتكبوها فيما بينهم، إذ كان المكسيكيّون يسكرون ويقتلون بعضهم البعض، ثم يرسلون الجنود إلى الجبال ليبحثوا عنهم. عندما أخبرهم عن مكان نشأته تفاجأ بأنّهم يعرفون البلد لكنّهم لا يفصحون عن ذلك. لم يحاول أحد منهم مبادلة أحصنة معه، ولم يسأله أحدهم عن سبب قدومه، لكنّهم حذّروه فقط من الاقتراب من مقاطعة "ياكي" في الغرب لأن الياكيين سيقتلوه. ثم جهّزت النّساء له عشاءً من اللحوم والمجفّفة والمجلّدة أو الماتشاكا، والذرة المحمّصة، والتورتيّا المدخّنة، وتقدّم منه رجل عجوز وخاطبه بالإسبانيّة، التي يفهمها بصعوبة، بجديّة وهو ينظر في عيني الصبي ويمسك بمقدّمة وخلفيّة سرج حصانه، كما لو أن الصبي أصبح بين أذرعه. كان يرتدي ملابس غريبة ومبهرجة طرزّت عليها أشكال هندسيّة بدت وكأنها تعليمات، أو لعبة. كان يرتدي جواهر من اليشم والفضّة، وكان شعره طويلاً وأكثر سواداً ممّا كان يبدو عليه عمره. أخبر الصبي أنّه على الرّغم من تيتّمه، لا يزال يتعيّن عليه أن يكفّ عن ترحاله وأن يتّخذ مكانه في العالم، لأن التجوال بهذه الطريقة سيصبح شغفاً، وبهذا الشغف سيتغرّب عن النّاس، وفي النهاية عن نفسه. قال أنّه لا يمكن معرفة العالم إلّا بالشّكل الذي يتواجد عليه في قلوب الرّجال. فبينما بدا العالم على أنّه مكان يحتوي النّاس، إلّا أنّه كان، في الواقع، مكاناً احتواه الرّجال في دواخلهم. لذلك، إذا أراد المرء معرفته، عليه البحث هناك والتعرّف على تلك القلوب. ولفعل ذلك، على المرء أن يعيش مع النّاس- لا مجرّد العبور بينهم. قال على الرّغم من أن اليتيم قد يشعر بأنّه لم يعد ينتمي إلى الرجال، عليه إهمال هذا الشّعور لأنّه يحتوي في داخله روحاً كبيرةً يستطيع النّاس رؤيتها، ولأن النّاس يرغبون بمعرفته، وأن العالم سيحتاجه حتّى لو كان هو بحاجته لأنّهما واحد. قال في النهاية أنّه بينما كان ذلك بحد ذاته أمراً جيّداً مثل كل الأمور الجيّدة، لكنّه كان أمراً خطراً أيضاً. ثم نزع يديه عن سرج حصان الصبي وخطا بعيداً عنه ووقف هناك. شكره الصبي على كلماته، لكنّه أخبره أنّه ليس يتيماً، ثم شكر النّساء اللواتي وقفن هناك، وأدار حصانه ومضى في طريقه.
وقفوا يشاهدونه يمضي بعيداً عنهم. وعندما عبر آخر بيت مقبّب، أدار رأسه ونظر إليهم بينما كان العجوز يناديه ويقول: "إيريس، إيريس إيرفانو" ]نعم، أنت يتيم[، لكن الصبي رفع يداً واحدة فقط ليلمس قبّعته ويمضي في طريقه.

السبت، 11 أغسطس 2018

كهف شوفيه*

ترجمة لنص The Chauvet Cave من كتاب The Shape of a Pocket لجون بيرجر

رسمتِ، يا ماريسا[i]، الكثير من المخلوقات، وقلّبتِ العديد من الأحجار، وقرفصتِ لساعات وأنت تبحثين. علّكِ ترافقيني.

ذهبت اليوم إلى السّوق الشعبي في إحدى ضواحي جنوب باريس. يمكنكِ هناك شراء كل شيء: من أحذية إلى قنافذ بحر. أعرف امرأة هناك تبيع أفضل أنواع بابريكا أعرفها. ثمّة بائع سمك ينادي عليّ كلّما كان لديه سمكة غير اعتياديّة يراها جميلة، لأنّه يعتقد أنّني سأشتريها لأرسمها. ثمّة رجل هزيل بلحية يبيع العسل والنبيذ. بدأ هذا الرجل مؤخّراً بكتابة الشّعر، موّزعاً نسخاً لقصائده على زبائنه المنتظمين وهو يبدو مندهشاً أكثر منهم.

هذه إحدى القصائد التي أعطاني إيّاها هذا الصباح:

    Mais qui piqua ce triangle dans ma tête?
Ce triangle ne du clair de lune
me traversa sans me toucher
avec des bruits de libellule
en pleine nuit dans le rocher.


من الذي وضع هذا المثّلث في رأسي؟
هذا المثلّث الذي ولد من ضوء القمر
الذي عبرني من دون أن يلمسني
بجلبة يعسوبة
عميقاً في صخرة، عميقاً في الليل.

بعد قراءتها، أردت الحديث معكِ حول أولى الحيوانات المرسومة. ما أريد قوله واضح، وهو شيء لا بد أن كل من نظر إلى رسومات الكهف التي تعود إلى العصر الحجري القديم ]الباليوليثيك[، لكنّه لم يحدث أبداً (أو قلّما حدث). ربّما تكمن الصعوبة في إحدى المفردات، وربّما علينا إيجاد مرجعيّات جديدة.

يتم إعادة بداية الفن، باستمرار، إلى أزمنة أبكر. فربّما تعود الصخور المنحوتة التي تم اكتشافها في كونونورا بأستراليا إلى 75 ألف سنة. بينما رسومات الخيول ووحيد القرن والوعول والماموث والأسود والدببة والثيران والفهود والرنّة والأُرخُص وبومة، التي عثر عليها سنة 1994 في كهف شوفيه بأرديش الفرنسيّة، أقدم من تلك التي تك اكتشافها في كهوف لاسكو بخمسة عشر ألف سنةً على الأرجح. الوقت الذي يفصلنا عن هؤلاء الفنّانين أطول باثنتي عشر مرة على الأقل من الوقت الذي يفصلنا عن فلاسفة ما قبل عصر سقراط.



ما يجعل عصرهم ذلك مذهلاً هو حساسيّة الإدراك التي يكشفونها. إذ تمّت مراقبة قوّة اندفاع عنق الحيوان، أو تركيب فمه، أو طاقة أوراكه، وإعادة خلقها بعصبيّة وسيطرة يمكن مقارنتهما بما نجده في أعمال فرا فيليبو ليبي، أو فيلاثكيث، أو برانكوزي. من الواضح أن الفن لم يبدأ بشكل أخرق. إذ كانت أعين وأيدي الرسّامين والنقّاشين الأولين بجودة من تلاهم. كان هناك ألقاً منذ البداية، وهذا هو اللغز، أليس كذلك؟

لا يتعلّق الفرق بين ذلك العصر وعصرنا بالجودة بقدر ما يتعلّق بالفضاء: حيث تتواجد صورهم كصور تم تخيّلها. لكن علينا إيجاد طريقة أخرى للكلام هنا لأن الفرق كبير جداً.

هناك، لحسن الحظ، صور ممتازة لرسومات شوفيه، إذ تم إغلاق الكهف ومنع دخوله. هذا قرار سديد يتم من خلاله الحفاظ على الرسومات. بذلك، عادت الحيوانات على الصخور إلى الظلمة من حيث جاؤوا، وحيث سكنوا لوقت طويل.

لا يمكننا وصف هذه الظلمة: لا ليلاً ولا جهلاً. نعبر جميعنا هذه الظلمة من وقتٍ إلى آخر ونرى كل شيء: الكثير من كل شيء حتّى نعجز عن تمييز أي شيء. أنتِ تعرفين ذلك أكثر ممّا أفعل: جاء كل شيء من الداخل.


في إحدى أمسيات تمّوز هذا الصيف، صعدتُّ إلى أعلى حقل فوق المزرعة لجلب أبقار لوي. غالباً ما أفعل ذلك أثناء موسم دراسة التبن. فبينما يتم تفريغ آخر شاحنة في الحظيرة يكون الوقت قد تأخّر، وعلى لوي أن يسلّم الحصّة المسائيّة من الحليب في ساعة معيّنة، وعلى أيّ حال نحن متعبون، لذلك، بينما يحضّر آلة الحلب، أذهب لجلب القطيع. مشيتُ المسار الذي يتبع الجدول الذي لا يجفّ أبداً. كان الممرّ ظليلاً والهواء لا يزال حارّاً، لكنّه ليس كثيفاً. لم يكن هناك ذباب خيل مثلما كان في الأمسيات السابقة. ومن تحت أغصان الأشجار، سار الممرّ كالنّفق، وكان في بعض أجزائه موحلاً. وفي الوحل، تركتُ آثار أقدامي بين آثار أقدام الأبقار التي لا تعد ولا تحصى.

تنخفض الأرض من على يميني بحدّة شديدة إلى الجدول. لكن تحدّ أشجار الزّان والسمّن من خطورتها، وسيوقفون وحشاً ضخماً لو وقع هناك. تنمو الشجيرات الصغيرة وشجر الخمّان على اليسار. كنت أمشي ببطء، ذلك سمح لي بأن ألاحظ خصلة شعر بقرة حمراء علقت على أغصان واحدة من الشجيرات.

بدأت بالمناداة قبل أن أرى الأبقار. فعلى هذا النحو، يمكنها أن تكون على زاوية الحفل سلفاً عند ظهوري. لكل شخص طريقته الخاصّة في الحديث مع الأبقار. يتكلّم لوي معها كما لو كانت طفلاته التي لم يحظى بها: بلطف أو شراسة، مدمدماً أو شاتماً. لا أعرف كيف أتكلّمُ معها، لكنّها تعلم الآن، وتميّز الصوت من دون رؤيتي.

كانت بانتظاري عندما وصلت. عطّلت السلك المكهرب وناديت: Venez, mes belles, venez ]تعالي يا جميلاتي، تعالي[. الأبقار مطواعة، لكنّها ترفض أن يتم استعجالها. تعيش الأبقار ببطء- يومها بخمسة أيّام من أيّامنا. وعندما نضربها، فذلك دائماً ما ينبع من نفاد الصّبر. صبرنا. وعندما يُضرَبون ينظرون إلينا بنظرة المعاناة الطويلة تلك، والتي تأخذ شكل الصّفاقة (نعم إنّها تعرف)، لأنّها توحي بخمسة دهور، لا خمسة أيّام.

مشت الأبقار متمهّلة إلى خارج الحقل عبر المسار إلى الأسفل. تقود ديلفين القطيع كل مساء، وفي كل مساء تسير إيرونديل في المؤخّرة، بينما تسير معظم البقيّة بينهما في نفس الترتيب أيضاً. يوائم هذا الانتظام صبرها بشكل ما.

بينما أدفع بورك الضعيفة منها لحثّها على المسير، شعرتُ بدفئها الهائل، كما أفعل كل مساء، يتسلّل إلى كتفي من تحت قميصي الداخلي. هيّا، قلت لها، هيّا يا توليب، بيدي على عجزها الذي برز كزاوية طاولة.

لم تُصدر خطواتها على الطّين أي صوت تقريباً. الأبقار مرهفة للغاية تجاه أقدامها: تضعها على الأرض كعارضة أزياء بأحذية بكعوب عالية من جنبٍ إلى جنب. حتّى إنّي فكّرت في تدريب الأبقار على المشي على حبلٍ مشدود عبر الجدول على سبيل المثال.

كان صوت تدفّق مياه الجدول دوماً جزءاً من هبوطنا المسائيّ. وعندما تلاشى الصّوت، سمعتْ الأبقار صوت تدفّق الماء، كأنّه صوت بصقة من دون أسنان، إلى الحوض بجانب الحظيرة، حيث سيطفؤون عطشهم. يمكن للبقرة أن تشرب ما يقارب الثلاثين لتراً في دقيقتين.

في هذه الأثناء، كنّا نسير ببطء إلى الأسفل، مارّين بنفس الأشجار التي سيّرت كل واحدة منها الممر بطريقتها الخاصّة. توقّفت شارلوت عند بقعة من الحشائش الخضراء. لكزتها فاستمرّت في طريقها. يحدث ذلك في كل مساء، إذ أستطيع رؤية الحقول التي رعتها عبر الوادي.

كانت إيرونديل تغطّس رأسها في المياه مع كل خطوة كما تفعل البطّة. أرخيتُ ذراعي على رقبتها، وفجأةً رأيتُ المساء كما هو منذ آلاف السنوات:
يسير قطيع لوي بتسرّع على الطريق بينما يثرثر الجدول إلى جانبنا. تخمد الحرارة، وتسيّرنا الأشجار، بالذباب حول أعينها، حيث الوادي وأشجار الصنوبر على القمّة البعيدة، ورائحة البول عندما تتبوّل ديلفين، والصقر الذي يسمّى "نهاية السّهل" حائماً فوق الحقل، المياه وهي تتدفّق إلى الحوض، وأنا، والوحل في قناة الأشجار، وعمر الجّبل الذي يتعذّر قياسه. فجأةً، كان كل شيء غير قابل للتجزئة، كان واحداً. ولاحقاً، سينهار كل جزء إلى قطعٍ بنَسَقِها الخاص. لكن الآن كل القطع متراصّة مع بعضها، كتراصّ بهلوان على حبل مشدود.

قال هرقليطس "لننصت، لا لي، بل للـ"لوغوس"[ii] لنجد أنّه من الحكمة الاتفاق على أن كل الأشياء واحد"، ذلك بعد 29 ألف سنة من إنجاز رسومات شوفيه.

لا يمكننا أن نجد طريقنا إلى فضاء هذه الرسومات الأولى إلّا إذا تذكّرنا هذه الوحدة والظلمة التي تكلّمنا عنها.

ليس ثمّة ما هو مؤطّر في تلك الرسومات، والأهم من ذلك أنّه ليس ثمّة ما يجتمع. لأن الحيوانات تجري ونادراً ما تُرى ضمن الصورة (التي هي في الأساس منظر لصيّاد مسلّح بشكل سيّء يسعى خلف هدفه). ومع أنّها أحياناً تعطي الانطباع أنّها ستلتقي، لكن إذا نظرنا بحذر نجد أنّها تتقاطع من دون أن تلتقي.

لا يشترك فضاؤهم بأي شيء مع منصّة المسرح على الإطلاق. فعندما يدّعي الخبراء أنّهم يستطيعون رؤية "بدايات المنظور" هنا، فإنّهم يقعون في فخّ عميق عفا عليه الزّمن. أنظمة المنظور التصويريّة هي معماريّة وحضريّة- بالاعتماد على النّافذة والباب، أمّا "المنظور" البدوي فيدور حول التعايش، لا المسافة.

يكمن في عمق الكهف، حيث يعني عمق الأرض، كل شيء: الرياح، والمياه، والنّار، والأماكن البعيدة، والموتى، والرّعد، والألم، والطرق، والحيوانات، والضوء، والذي لم يولد بعد. كان كل ذلك في الصّخر بانتظار من ينادي عليها. والبصمات الشهيرة لأيدٍ بحجمها الطبيعي أيضاً هناك (التي عندما نراها نؤمن بأنّها أيدينا)، مطبوعة بصبغ المغرة، لنلمسها ونميّز كل ما هو حاضر، والحد الأقصى للفضاء الذي يسكنه هذا الحضور.

أتت الرسومات، واحدة تلو الأخرى، إلى ذات النقطة أحياناً، بفارق سنوات أو ربّما قرون. وانتمت أصابع يد الرسومات إلى فنّانين مختلفين.


وكل الدراما التي أصبحت في الفن الذي تلاها مشهداً مرسوماً على سطح بحواف رصّت هنا إلى شبح ما خرج من الصخور لتتم رؤيته. يحتضن الحجر الجيري هذه الرسومات، وتعيرها انتفاخاً هنا، وفجوة هناك، أو خدشاً عميقاً، أو شفة متدليّة، أو خاصرة منحسرة.

ظهر الشّبح للفنّان لأوّل مرّة بشكل خفي تقريباً، متتبّعاً صوتاً بعيداً وضخماً لا يمكن تمييزه. وعندما وجده أو وجدته وتم تتبّعه إلى حيث دفع بالسّطح، السّطح المواجه لها، حيث يمكنها الآن أن تبقى مرئيّة، حتّى عندما تنسحب وتعود إلى "الواحد".

كان من الصعب أن يتم فهم هذه الرسومات بعد ما حدث آلاف السنين: جاء رأس بلا جسد، جاء رأسان واحد تلو الآخر. اختارت قائمة خلفيّة جسدها الذي كان يمتلك أربعة قوائم سلفاً، واستقرّت ستّة قرون في جمجمة واحدة.

عندما نندفع إلى السّطح، حجمنا ليس مهمّاً: يمكننا أن نكون عمالقة أو صغاراً- كل ما يهم هو مدى عبورنا للصخر.

لا تكمن دراما أول المخلوقات المرسومة إلى الجانب ولا إلى الأمام، بل إلى الوراء دائماً، في الصّخر. من حيث جاؤوا. ومن حيث جئنا أيضاً.






 *كهف شوفيه: كهف في جنوب فرنسا تم اكتشافه سنة 1994. تحتوي جدران الكهف على رسومات تعود إلى العصر الحجري الأعلى وهي محفوظة في أفضل أحوالها.

[i]ماريسا كامينو: فنّانة إسبانيّة وصدقة لجون تعاونا معاً في معرض أطلق سنة 2005. وجّه لها بيرجر عدد من النصوص بينها هذا النص.
[ii] لوغوس: مفهوم فلسفي يوناني يعدّ هرقليطس أوّل من حاول تفسيره على أنّه "القانون الكلّي للكون".

الاثنين، 6 أغسطس 2018

حديث المرسم (إلى ميكيل بارثيلو)*

ترجمة لنص Studio Talk من كتاب The Shape of a Pocket لجون بيرجر


ثمّة قصاصات من الورق متكرمشة وألقيت على أرض المرسم بين أقمشة اللوحات غير الممدودة حيث تقف. ثمّة دلاء من الأصبغة- بعضها ممزوج بالطين، وطنجرة غريبة، وقضبان فحم مكسورة، وخرق، ورسومات مهملة، وكوبان فارغان. كتب على قصاصات الورق كلمتان: وجه ومكان.

كان المرسم مصنعاً للدراجّات الهوائيّة، أليس كذلك؟ تعمل هنا بحذاء وملابس الرّسم. كان القميص والبنطال مقلّمان في الأصل. والآن، أصبح يعلوها قشرة من الأصبغة مثل الحذاء. لذلك، تخيّلتك على أنّك شخصان: واحد على وشك الانطلاق بدرّاجته، والآخر سجين.

على كل حال، الأمر الوحيد المهم بعد أن ينتهي اليوم هو ما استلقى على الأرض مرسوماً أو اتّكأ على الجدران بانتظار أن تتم رؤيته في اليوم التالي. المهم هو ما لا يكشفه الضوء المتغيّر أبداً- الأمر الذي كلّما اقترب المرء منه أكثر يخشى أنّه فقده على الأرجح.

وجه. أينما بحث الرسّام، فإنّه يبحث عن وجهه. فكل البحث والفقدان والعثور مرة أخرى متعلّق به، أليس كذلك؟ وماذا يعني "وجهه"؟ إنّه يبحث عن نظرته المرتدّة، ويبحث عن تعبيرها- علامة ضعيفة على حياتها الداخليّة. وهذا صحيح، سواءً كان يرسم كرزاً، أو عجل درّاجة هوائيّة، أو مثلثاً أزرق، أو جثّة، أو نهراً، أو شجيرةً، أو تلّاً، أو انعكاسه في المرآة.

لا تجد الصور أو الفيديوهات أو الأفلام الوجه أبداً، لكنّها تجد ذكريات عن المظاهر والشّبه بأحسن الأحوال. على النّقيض من ذلك، الوجه دائماً جديد: شيء ما لم تتم رؤيته أبداً من قبل، لكنّه، في نفس الوقت مألوف. (مألوف لأنّنا عندما ننام نحلم ربّما نحلم بمواجهة العالم كلّه الذي ألقينا به لدى مولدنا بعماء).

لا نرى وجهاً إلّا إذا نظر إلينا (مثل عبّاد شمس فينسنت). المقطع الجانبي ليس وجهاً أبداً، وبطريقة ما، تحيل الكاميرات معظم الوجوه إلى مقاطع جانبيّة.


عندما نتوقّف أمام أي لوحة غير مكتملة مثل من يقف أمام حيوانٍ ينظر إلينا. نعم، هذا صحيح حتّى بالنسبة للوحة بييتا مع ملاك لأنتونيلو دا ميسينا. اللون الكامن على أو المرسوم بفرشاة على أو يلطّخ السّطح هو الحيوان، و"مظهره" هو الوجه. لنفكّر في وجه لوحة فيرمير "منظر لديلفت". يختبئ الحيوان لاحقاً، لكنّه متواجد دائماً عندما يستوقفنا لأوّل مرّة ولا يسمح لنا بالاستمرار في طريقنا.

قصّة قديمة تعود إلى عصر الكهوف.

المكان. Lieu ]بالفرنسيّة[، Ort ]بالألمانيّة[، mestopolojenie ]بالروسيّة[. تعني الكلمة الروسيّة الأخيرة أيضاً حالة، وتستحق أن نتذكّرها.

المكان أكثر من مجرّد منطقة، أو مكان يحيط بشيء. المكان امتداد لحضور أو نتائج فعل. المكان نقيض الفضاء الفارغ. المكان حيث حدثت فيه واقعة أو تحدث.

يحاول الرسّام باستمرار أن يكتشف، وأن يتعثّر، بالمكان الذي سيحتوي ويحيط فعل الرّسم الحاضر. مثاليّاً، يجب أن تكون هناك عدّة أماكن كما توجد هناك لوحات. المشكلة أنّ اللوحة عادة ما تفشل في أن تكون مكاناً. وعندما تفشل في أن تكون مكاناً، تبقى اللوحة تمثيلاً أو زينةً- أثاثاً.

كيف تصبح اللوحة مكاناً؟ ليس من الجيّد أن يبحث الرّسام عن مكان في الطبيعة، إذ لم يجده فيرمير في ديلفت. ولا أن يبحث عنه في الفن- لأن المرجعيّات لا تصنع مكاناً- على الرّغم من اعتقاد ما بعد حداثيّون معينين. عندما يتم إيجاد مكان فإنّه يتواجد على الحدود ما بين الطبيعة والفن. الأمر أشبه بتجويف في الرمل مسحت حدوده. يبدأ الأمر بالممارسة، بشيء يمكن عمله باليدين، ثم تسعى اليدان للحصول على قبول العين، حتى يتورّط الجسد كلّه بالتجويف. هنا توجد فرصة فقط لأن تتحوّل إلى مكان. فرصة ضئيلة.
ثمّة مثالان: يبدأ التجويف في لوحة أوليبميا لمانيه، أو المكان (الذي ليس له علاقة بالمخدع الذي تستلقي فيه المرأة) في طيّات غطاء السرير لدى قدمها اليسرى.

يبدأ المكان في رسم لك لحبّة مانغا وسكّين- باللون الأسود والمقياس الحقيقي تقريباً على ورقة صفراء غمرها الغبار- عندما وضعتَ حبّة الفاكهة على منحنى نصل السكّين. في تلك اللحظة، أصبحت الورقة مكانها الخاص.


***

توارى واقع اللوحة كمكان وراء مفهوم النهضة حول المنظور، مع نزعته تجاه وجهة نظر خارجيّة، بالنسبة للكثر من النّاس على مدار عدّة قرون. فبدلاً من ذلك، قيل أن اللوحة مثّلت "نظرة" على المكان. لكنّها كانت نظريّة فقط، إذ عرف الرسّامون الحقيقة من الناحية العمليّة. إذ قلب معلّم المنظور العظيم المتأخر تينتوريتو[i] هذه النظريّة على رأسها مراراً وتكراراً.

في "حمل جسد القدّيس مرقس"[ii]، ليس للوحة كمكان علاقة بمنظور السّاحة الضخمة وأقواسها وحجارة الرصيف الرخاميّة، بل كومة جذوع الخشب العشوائيّ في منتصف عمق اللوحة، والتي سيحرق بها القدّيس. ينبع كل شيء على قماش اللوحة من ضربات الفرشاة على الأغصان الخشبيّة الملوّنة: الشخصيّات الفارّة، شعر الجمل الذي يشبه المعطف، البرق في السماء، أطراف القدّيس القصيرة. أو، بمعنى آخر، نُسِجَت شباك اللوحة الهائلة من كومة الخشب.



وبما أن ياكوبو روبوستي[iii] يلاحقنا كلانا باسم تينتوريتو، هذا مثال آخر. لم تبدأ اللوحة كمكان في لوحته "سوزانا والشيخان" الموجودة في لندن بجسدها الذي لا يضاهى، أو بمرآتها البارعة، أو بالماء الذي يصل إلى ركبتها. كلّا، اللوحة كمكان تبدأ بسياج الأزهار المصطنع مقابلها، والذي يختبئ وراءه الشيخان. عندما بدأ ياكوبو بلمس سياج الأزهار بكامل ريشته، كان يرتّب المكان الذي كان على كل شيء آخر أن يأتي إليه. استولى السياج على المشهد كضيف وسيّد.



يعلم الرّسام، بالعمل وحده، أن عليه السّكن إلى لوحته واللجوء إليها، أكثر من مجرّد القدرة على التحكّم بها من الخارج. الرسّام يعمل من خلال اللمس في الظلمة.

يتغيّر الضوء في المرسم عندما يقترب اليوم من المساء، مغيّرة أقمشة الرّسم أكثر من أي شيء يمكن رؤيته. (أكثر من ورقة مكعبلة بالكلمتين). ما الذي تغيّر بها؟ من الصعب الجزم. ربّما حرارتها وضغط هواؤها. لكنّها لا تتغيّر تحت الضوء كما تتغيّر اللوحات. يشبه كل تغيير تضاريس مألوفة خارج الباب. مثل الأماكن.

كيف يعمل الرسّام في الظلمة؟ عليه أن يخضع. عليه عادةً أن يدور في دوائر بدلاً من التقدّم. داعٍ إلى تعاون من مكان آخر. (في حالتك من الرياح، والنّمل الأبيض، ورمال الصّحراء). يبني ملجأً ليغزوا مكتشفاً كذبة الأرض. وكل هذا يفعله بالأصباغ وضربات الفرشاة والخرق والسّكين وأصابعه. هذه عمليّة لمسيّة للغاية. ومع ذلك، ما يأمل بلسمه ليس ملموساً بشكل طبيعي. هذا هو اللغز الحقيقي الوحيد. هذا هو السبب في أن البعض- مثلك- يصبحون رسّامين.

وإن ظهر الوجه، فيظهر جزء مصبوغ وملطّخ بالألوان: جزءٌ من أشكالٍ مرسومة يتم تصحيحها باستمرار، لكنّه، والأهم، أنّه الصيرورة: ما يأتي باتّجاه ما كان يبحث عنه.

لكن هذه الصيرورة ليست بعد- وهي، في الواقع، لن تكون أبداً ملموسة، كما الثيران على جدران أقمشة اللوحات لم تكن أبداً للأكل.



ما تلمسه اللوحة الحقيقيّة هو غياب- غياب ما لم نكن نعي بوجوده لولا اللوحة. وهذا سيكون خسارتنا.

يكمن بحث الرسّام المستمر في مكان يستقبل الغياب. وإذا ما وجد مكاناً، يرتّبه ويصلّي لوجه الغياب حتّى يظهر.

كما تعرف، يمكن لوجه الغياب أن يكون مؤخّرة بغل. ليست هناك هرميّة، حمداً لله.

تسأل: هل ثمّة ما تمّ حفظه؟

نعم، هذه المرّة.

جزءً ممّا يبدأ مراراً وتكراراً يا ميكيل.

*ميكيل بارثيلو (1957) فنّان إسباني عرف بطريقة رسمه الحادّة وضربات فرشاته العميقة، وجداريّاته الضخمة بوسائط فنيّة متعدّدة، وسلسلة "الكوميديا الإلهيّة" بالألوان المائيّة التي عرضت في اللوفر: http://editions.louvre.fr/en/titles/exhibition-catalogs/sites-countries/miquel-barcelola-divine-comedie.html





[i] تينتوريتو (1518- 1549) واحد من أعلام عصر النهضة في إيطاليا وواحد ممّن ساهموا فيها. اشتهر بطاقة رسمه الهائلة وسرعته وجرأته بالرّسم.
[ii] لوحة من سلسلة لوحات أنجزها تينتوريتو حول القديس مرقس في غرفة الاجتماعات في مبنى Scoula Grande di San Marco في فينيسيا.
[iii] اسم آخر عرف به تينتوريتو.