الجمعة، 17 أكتوبر 2014

الحياة صغيرة ومثيرة للفضول

في البدء كان شعرك أبيض، وتستطيع أن تصرخ في الحرس الجمهوري: "لقد جفّت روحي من عمّان"- هكذا بالفصحى، وكانوا يتركونك تمرّ لأنّ قادة الانقلاب خاضوا حرباً لغويّة لإثبات تجذّر اللّسان البدوي في اللغة. كان ناهض حتّر وأحمد عويدي العبّادي يجلسان نهاية شارع القدس في ناعور، مرحّبان باللاجئين الجدد، مستبدلان قبّعاتهم السود بشماغ أخضر، ويسمحان، في أحيانٍ استثنائيّة، باحتفاظ الكهول بسوالفهم.
كانت الشّمس لا تزال تغرب هناك: وراء آخر أفق أخضر. وكانت الغيوم لا تعني المطر، وكان لكل غيمة شخصيّة تستطيع أن تكشف غربتها بإصبعك، وأن تشارك همومها بقلبك. ولم تكن ستتعلّم قبل الآن أن الله، لو كان موجوداً، لن يعلم أنّه الله.
ما كنت تسمّيه غضباً صار برداً، ما كنت تتودّد إليه أصبح أنت، وكل السيّارات التي أخطأتك، وكل انهيارات عواميد الضوء تتردّد عليك الآن.
في الثانية والخمسين، كل الشباب الذين ركضوا عنك ماتوا على السارية. وكنت تخبرهم ألّا يستمعوا إليك- "إليكم"؟ كان ذلك قبل 35 عاماً عندما استمعت إلى ليث شبيلات وهو يخطب فيكم: "لا تستمعوا إلينا". كان ذلك في الكرك، على حافّة تلك السّاحة التي يتوسّطها تمثال أو شيئاً ما قرّر أن يتوسّط مدينة. كان الخوف يومها متداولاً كتريلات اسمنت فقدت سائقها على الطريق الصحراويّ. ولم تكن تفرّق بين راية سوداء ودبّابة هولنديّة إلّا عندما تقتلك. الغربان ازدادت واستطاعت أن تتكلّم وتطقطق بلسانها، معظم اليهود هاجروا إلى مصر بدعوة من علاء عبد الفتّاح، واختبأ سمير الرفاعي في مغارة الفدائيين بجرش.
كان قد مر 15 عاماً، فبعد سنتين من قرارك بالهجرة كنت لا تزال تنتظر. لم تكن هناك مشكلة في تأجيل قبول الجامعات الأميركيّة فصلاً بعد آخر، كانوا يريدونك، وكنت تكبّس على شاشة الموبايل: كبسة لا بأس، كبسة تمام، كبسة ماشي الحال، كبسة الصورة على الثلاجة، كبسة الغداء عند "جوز هند"، كبسة الدفتر الأبيض، وكبسة يلعن تعريصك. لم تكن هناك مشكلة أبداً، إذ كنت تعتقد أن الحقيقة أهم من الواقع، وأن مبادئك أكثر فضيلة من المستقبل، وأن ممارسة الرياضة لسبعة أشهر كافية لتستطيع أن تتوسّط الجلسة كمدينة وتحكي وتخلط الشخصي بالعام من دون أن تخجل من إظهار حساسيّتك.
لم تجد ما يثير فعلاً في المشي. كنت تحاول فعلاً، لكنّك كنت تنظر إلى صورة نفسك وأنت تمشي، وتتخيّل أن اللويبدة مفتوحة أمامك كشارع غير ممهّد آخره بحر أو نافذة. كانت اللويبدة طريقاً، وليست نهاية، أو وعداً. عندما انتقلت إليها آخر مرّة جئتها بملابس جديدة ووظيفةً تستطيع فيها أن تتمنيك على فراس وزكريّا وتخبرهم عن 10 سنوات اخترت أن تكون فيها طبيباً لنفسك.
ورغم كل الذي يقال: لم تكن الذكريات شيئاً سيّئاً، الأمر يشبه أن تستيقظ مبكّراً يوماً وتحاول أن تفسّر للشخص الذي استيقظ مبكّراً ما الذي كنتما عليه الأمس. وفي أحيانٍ كثيرة تسقط في النوم أشياء صغيرة وممتعة: الطريقة التي جلستْ بها على رجليك وهي تقبّلك والتي لن تغادرك أبداً، نكتة مكشوفة تتبعها دبكة متأخرة مع نضال، دبكة فساد على رمل أصفر مع تامر خورما، سجن زيد وفادي ونهاد وعبد الله، صورة نهاد وعبد الله عندما خرجا من بوّابة السجن بوقتين مختلفين، وعندما وجد كلا منهما الآخر، احتضنا بعضهما، وبكيا أمام الكاميرات التي كانت ترصد هذه اللحظة. كان الأمر مذهلاً لأننا توقعنا صورة مثاليّة للمعتقل السياسي. نحن الذين راكمنا صوراً للفدائيين والاستشهاديين والمعتقلين كحالات فوق- بشريّة تترفّع عمّا نشعر في يوميّاتنا البسيطة وعذاباتنا المترفة.
الفرق في أن نهاد وعبد الله كانا يشعران بالقهر. وكان هذا واضحاً في الصورة: أربع أذرع تلتفّ على الكتفين، نهاد بشعره المحلوق حديثاً الذي يمنحه مظهراً أنيقاً ومكسوراً في آن، اختفاء وجه عبد الله في كتف شريكه في الاعتقال، وصورة المحامية لين خيّاط من ورائهما وهي متأثّرة من الموقف. كانت صورة مكسورة صنعها أشخاص مكسورين. وكان هذا ما تعمّد زرعه النظام سواءً في الإهانات النفسية والجسدية التي تعرضوا لها في مركز أمن العبدلي، أو في بيانات الناطق الإعلامي باسم الأمن العام، أو في مقالات محرر الشؤون المحلية في جريدة الرأي، أو في التلفزيون الأردني والإذاعات المحليّة. في تلك اللحظة، كان يبدو أنهم جميعاً نجحوا في ذلك. إلا أننا أدركنا لاحقاً أن الناشطان كانا يتصرّفان بعفويّة حمتهما من التحوّل إلى أبطال، وحمتنا من التصرّف معهما على أنهما مجرّد كليشيه آخر. كانا يتصرفّان بالضبط كما كان من الممكن أن يتصرّف أي واحد فينا.
لم تكن تعرف أنّك ستومئ برأسك إلى 10 سنوات وسيكون ذلك كافياً لمن هو أمامك ليبتسم. كنت تعتقد أنّك نجوت من الموصل ومن سحاب ومن الهاشمي الشمالي ومن ضاحية الأمير حسن، وكنت تعتقد أن ضابط المخابرات الذي أطل من نافذته وسأل أباك: "شو رأيك ندرسه بالعراق؟" آس-هول مصفّى. هناك حيث وجد قيصر شيئاً ما بين رعونتك وسذاجتك السياسيّة ما استطاع أن يسمّيه صداقة. وبطريقته التي دفع فرقها بشبابه الذي يبدو وكأنّه التهمه في السياسية بعينين تائهتين وحمراوتين، ووجه مجعّد وأسنان رماديّة، قال لك أنّه سيسمّي ابنه الأوّل على اسمك.
كانت مخاوفك تتكوّم حمّام في مدرسة أولاد. عدا ذلك رأيت أن تقوم بكل شيء للمرة الأولى: درّاجات هوائيّة تؤجّر بالساعة، أن تقرأ في مزرعة جدّك وأنت تفكّر في سيارة المرسيدس الخضراء والبيضاء التي ركنت أمام بوّابة المزرعة البعيدة. كنت تعتقد حينئذٍ أنّك إن وصلت البوابة وصلت جبل الشيخ. وأنّه هناك لا يوجد أطفال: فقط أفكار عن المراهقة والبلوغ وكل الكتب التي لم تفهمها.
كنت تشبه الأولاد الآخرين تماماً، وتختلف عنهم بوفرة الأمل والرضا، وكلّما ضاع مفتاح صغير شعرتَ بغربة لا تفهمها. وكلّما انتقلت من منزل إلى آخر، كان شاربا والدك يخفّان، وقبضتا والدتك التي تفركهما ببعضهما تزيد، وخزائن المطبخ التي تحتوي على علب الشوكولاتة الحمراء تزداد ارتفاعاً.
كنت تحبو على السفن الراسية في الخليج العربيّ وتصادق الهنود ورجال الشرطة. والحياة صغيرة ومثيرة للفضول يفسّرها لك الوقت الذي يلزم لتتّسخ أظافرك من رمل الشاطئ. وعندما تفاجأ الطبيب من عيونك كما قال لوالدتك: "عيونه هيك"- وسحب طرفا عيناه إلى الخارج، قالت له: "لطالما رغبت بطفل يابانيّ". لذلك، عندما لم تكن تجهل كل شيء وتخرج إلى الدنيا، كنت تحسّ بعتمة ناعمة أكثر ضجيجاً في الخارج تملؤها إشارات تومض وتختفي بوتيرة لم تكن تستطيع عدّها. لم تكن قادراً إلّا على تقليد هذه العتمة، لكنّك كنت تعرف أنّك كنت تقلّد نفسك، وبأنّها هذه هي الحقيقة، والواقع في مكان آخر أتى منه كل الأطفال اليابانيّون.

الأربعاء، 15 أكتوبر 2014

هجرة لا تنتهي






1

منذ أن شاهدت مونودراما "طه" لعامر حليل في اختتام مهرجان حكايا وأنا أقاوم رغبةً شديدة في التورّط بمقارنة طه محمد علي بمحمود درويش. فكّرت أن أدوات المقارنة جاهزة: كلا الشاعرين جاءا من نفس البيئة والمكان، لكن طه بقي فيهما مجازاً وعملانيّاً، ودرويش طردهما وبقي يطردهما حتّى أصبح مكاناً بذاته. المقارنة جاهزة إلى الدرجة التي يمكننا بها تصنيف الناس "العاديين" على أساسها بإيحاء من دوستويفسكي في رواية "الأبله" وبتصرّف منها: هناك فئتان من الناس العاديين: الأفراد المحدودين، والأكثر ذكاءً. الفئة الأولى آمنين بمجرّد أن شعروا بأنّهم قاموا بعمل حسن واحد يرضون بالقليل، وحتى لو أبدوا رأياً ظنّوا أنّه فكّروا فيه، بينما على الأغلب ربّما قرؤوه إمّا أن يشعروا بأنّه فعلاً رأيهم المستقل، أو بأنّهم فعلاً يمتلكون عاطفة طيّبة فيطمئنون. أما الفئة الثانية فأشخاص يعلمون أنّهم أذكياء لكن الشك يأكل نفوسهم مثل "دودة تظل تتآكلهم من الداخل، لذلك فهم أشقى بكثير من الفئة الأولى". وإن عملوا عملاً حسناً لا يطمئنون، بل "يغضبون من أنّهم أضاعوا حياتهم من دون الوصول لشيء"، ويظلّون يبحثون عن هذا الشيء طيلة حياتهم.
على هذا الأساس أفكّر بأن طه محمد علي هو نقيض درويش في كل شيء تقريباً: درويش امتهن السياسة وكتب خطابات أبو عمّار والزيتونات، وطه افتتح محل أنتيكات في مدينته صفورية. درويش كان يورّط كل ما حوله في غربته حتى يمكن أن نقول بأنّه كلما تعوّد على غربة اخترع غيرها، بينما تورّط طه في غربة واحدة طويلة لم يكن صلبها فلسطين، بل من أحب: أميرة. درويش حاضر بأناقته ووسامته ونزقه، وطه مخفي بريفيّته الظاهرة على وجهه غير الأليف وخجله من نفسه وعلى نفسه. درويش هو فلسطين التي حنّطناها في وشم لحنظلة على المؤخّرة، وطه هو فلسطين التي تبيع أنتيكاتها في بلدتها القديمة لأهلها.


2

يمكن، لذلك، مباشرة ربط شخصيّة طه محمد علي بأداء عامر حليل في العرض. وابتداءً بما قاله وائل قدّور: "العرض نموذج مثالي للتوازن الانفعالي بالتعاطي مع قضية كتير عاطفية (القضية الفلسطينية) فكان الأثر النهائي لرسالة العرض أتقل بألف ضعف مما لو كان العرض مبني فقط على مجرد استثارة الشفقة". لكنّني أعتقد أن حمولة قصة حياة طه الشخصيّة أنقذت أداء عامر الذي رأيته من قبل في مسرحيّة خطابيّة تشبه درويش، فلا تحتمل حياة الشاعر مجازات وتأويلات إلا ما كتبه في قصائده، فالشعر الـ"ذاتي بدرجة يتعذّر إصلاحها"، يقول عن الفلسطينيين ما لا يستطيع أن يقوله شاعر أو الصديقة العزيزة ريما بنّا عن فلسطين. وبالتالي: ظهرت ملامح القرية، وتفاصيل الهجرة والنكبة كصدى صوت راديو أبقاه أصحابه مفتوحاً لأنّهم سيرجعون.


3

أشاهد أداء عامر حليل لقصيدة لطه في الفيديو المرفق منذ عدة أيام وبشكل هوسيّ يكاد أن يخرّب البلادة التي نشعر بها جميعاً الآن. نحن ننظر إلى البناية ونقول: تهدّمت. ننظر إلى شبّان سمر يركبّون صفارات إنذار في عمّان ونقول: وي وي وي. ننظر إلى هواتفنا ونقول: ثمّة من يتّصل بنا. سحبنا قسراً إلى حيث القصيدة تعني النخبة، وحيث البلاغة اللغويّة تفسّر نصّاً مقدّساً، وحيث الحزن وتغيّر الفصول صنعة ثقافيّة، والتضامن مع الفقراء طقس ماركسي، وحيث أكتب هذا كله على الفيسبوك وبيني وبين السفارة الإسرائيليّة في الرابية 6 كيلو و500 متر.