الجمعة، 30 ديسمبر 2011

فاتسلاف هافل: رسائل من السجن


"يسمح للسجين بتبادل الرسائل مع أفراد عائلته كما يحق له باستقبال زياراتهم بحدود مشروطة ضمن نظام إعادة التأهيل حيث يمضي فترة محكوميته. وفي حال تجاوبه مع إعادة تأهيله، يسمح له، ضمن نظام معين، بتبادل الرسائل مع آخرين، و/أو استقبال زياراتهم. ولتتحقق تأثير فترة إعادة التأهيل، تتم مراقبة الرسائل."
(بند رقم 59 من قانون جزاء تشيكوسلوفاكيا، المتعلق بتأدية أحكام السجن)

في الأسبوع الأخير من شهر مايو 1982، ستة أيام قبل إطلاق سراحي، فاتسلاف بيندا، وأنا، نقلنا من ورشة تجليد الكتب إلى المبنى رقم 1، حيث احتجز فاتسلاف هافل*(**). كنا أنا وهافل ضمن الفترة الصباحية، كان الطقس جيداً، وفناء الممشى مفتوحاً معظم الوقت. وهكذا كنت قادراً على تمضية الباقي من فترة بعد الظهر أتمشى معه في أبعد مناطق السجن، المسمى، تهكّماً، بوري فيرسايلس (حديقة فرساي)***. (هنا في خضم ورشات السجن وكومات القذارة، بقيت بعض آثار لحديقة قديمة).

لم نتبادل عبر الأشهر الطويلة إلا بضعة كلمات: كلمات تنتهز في أوقات غريبة- أوقات الوجبات أو في المناسبات الرياضية، في تجمعاتنا للإحتفال بنصر فبراير أو ثورة أكتوبر، في الحفلات النادرة لتسجيلات أعمال باخ، أو عند مدخل السجن عندما يرجع عمّال الغسيل (وبينهم هافل) إلى زنازنهم.

بالنسبة لي، على الأقل، كان كل شيء يسير بشكل محكم. في هيرمانيك شعرنا بالسعادة حين أوشك إطلاق سراحي. في يناير 1980، خاصة بعد سبعة أشهر من العزلة في زنازن الاستجواب. ذلك حين استطعنا، فجأة، أن نكلم بعضنا، ونحضّر وجباتنا الخفيفة سوياً، ونجلس معاً لمشاهدة نشرة الأخبار المسائية. كان هافل صاحب أفضل مزاج بشكل غريب لنا الإثنين. بقدر ما طال بقاء الآخرين، بقدر ما تضاءل إحساسي بقيمة حريتي، وبقى اطلاق سراحي ناقصاً.

كان هافل، على أية حال، يرى إطلاق سراحي شيئاً عظيماً ومدعاة للتفاؤل. هافل الذي كان منظَّمَاً بلا كلل (بممتلكات شخصية ملفوفة في حجرته بالدقة التي تتوقعها من خريج جديد من الجيش)، بقي يملي علي معلومات، سائلاً إياي إعادة كل شيء مرات كثيرة، نقطة بنقطة، ضاحكين سوياً بينما نتآمر على حريتي في العالم الخارجي.

كانت رسائله، بشكل خاص، مهمة له. كان خائفاً من الحلول في وعي الناس كـ(ثورجي) أو (منشق) كما كان يوسم في الحملة التي نشبت خارجاً مع محاكمتنا وسجننا – بالنتاقض مع ما تمناه، ككاتب، كباحثٍ عن الحقيقة، بل كنوع من صاروخ ثقافي يُطلق من قوة عظمى ضد أخرى. كان ضد القذارة بغض النظر عن مصدرها. إن كان ضد القذارة المتنامية في الوطن مبدئياً، فذلك ببساطة لأنه عاش في تشيكوسلوفاكيا وكان من واجبه البدء بالوطن. يقول: “إن عشت في مكان آخر، بلا شك، سأحاول منع إنشاء مخرج جديد في مطار فرانكفورت، جامعاً تواقيع ضد نصب قواعد صورايخ طويلة المدى ومانحاً صوتي للحزب الأخضر".

في السابع من يناير 1980 اقتيد المحكومون منا في محاكمة "لجنة الدفاع عن الاضطهاد غير العادل"****، مقيدي الأيدي من زنزاناتنا عبر فناء بانكراك، في باص مع السجناء الآخرين، بعزلة محكمة، إلى سجننا في شمال مورافيان. بالوصول إلى أولومك، أُمِرنَا هافل، بيندا وأنا بصعود باص سجن هيرمانيك. لم نعطى أية تعليمات إضافية، لكننا حاولنا أن نجلس بجوار بعضنا بعصبية. حتى هنا منعنا من التدخين، الأكل أو الكلام. اصطدت بحذر صورة للمجموعة هُرِّبَت للداخل خلال زيارة لعيد الميلاد، وأعطيتها لـهافل الذي نجح بإخفائها دون ملاحظة الحراس. في هيرمانك أخذنا إلى الزنزانة ومن هناك إلى الحجز. في اليوم التالي بدأنا العمل- بقطع سلكٍ من نظام التدفئة. كان الجو بارداً جداً، لكننا على الأقل كنا سوياً. وبدا كأننا سنبقى كذلك: لا لأننا أُرسِلنا للسجن نفسه فقط، بل لأننا أوينا لنفس المهجع، عملنا بنفس المصنع، وحتى أننا كنا قادرين على التحدث مع بعضنا.

بعد عدة أيام، استدعانا مأمور السجن وشرح لنا هذا التطور المفاجئ: بالرغم من أن جرائمنا سياسية، سنقضي بقية حكمنا في سجن عادي. بدلاً من (الظروف المثالية) كما سماها، (حيث احجتز زميلنا ييري ليدرر)، سنقف في الفناء المفتوح مُعَرَّضِين للمطر والثلج، مصطفين للوجبات بصحبة المجرمين العاديين.

كان وقع ذلك مرعباً. على أية حال لم يمر وقتٌ طويل حتى كان هؤلاء (المجرمين العاديين) يعطونا فطائر اللحم، دهن الخنزير واللحم المقدد، باحثين لنا عن قمصان نظيفة بأزرار، فضلاً عن التشهير أو ضرب أي مخبر يرسل إلينا. سيكون غيرنا منشغلاً بتنظيف المراحيض، لكن ما ألزمونا به كان فقط تكنيس (غرفة الثقافة) (الغرفة التي يوضع بها التلفاز).

قام بعض السجناء بالتجسس علينا بالطبع، بعضهم فعلوا لتحسين ظروفهم. الرجال في السجن ليسوا إلا انعكاساً للمجتمع بشكل عام – المشوه منه، وأقنعة التقاليد العامة محسورة هنا، فيتصرفون كما تملي عليهم طبيعتهم. بينما أي ضعف يُقابَل بلا رحمة وقمع، في جو من العنف الخصب، تُحتَرَم كل شخصية ذات سطوة، كما تُعرَف طبيعة كل السجناء الجدد. 

رحلتنا في هذا العالم انتشرت بشكل عفوي عبر كتّاب مقالات "رودي برافو" ومراسلي التلفاز. لذلك، أصبحنا في وقت قصير نُطلب للمساعدة في كل الحالات تقريباً: ككتابة طلبات لإعادة فتح قضايا السجناء، أو الاشتكاء على الممارسات غير القانونية، أو لنصيحة زيجات مضطربة وأزمات نفسية- إنتحار، بوكر، والحياة العاطفية لممثلات براغ. فضلاً عن أننا كنا موضع قبول، في بيئة يعتبر كل رجل فها الآخر مخبراً. وأظن أن الفضل، يعود بشكل كبير لطبيعة نشاطاتنا التي حكمنا لأجلها، وللسجناء الذين تعرفوا علينا، وتعاملوا معنا كأشخاص استثنائيين، بالنسبة لمن لا يمكن له أن يثق بشيء بلا خوف من النتائج. التقطت هذه الحقيقة بسرعة من قبل المأمور عندما أخبرنا، بصوتٍ عالٍ، بأنه لن يسمح بإنشاء فرعاً للجنة في سجنه، وقام، بكل غباء، بإرسال هافل وبيندا لزنازن التعذيب لكتابتهم رسائل عن غجريّ أميّ.

كان أول نشاط منعونا منه هو الكتابة- أية كتابة. هذا يتضمن منع كتابة ملاحظات. قائلاً: “بأننا لن نصبح أصحاب ملايين بعد خروجنا” وأنه "سيعاقبنا عندما نخترق هذا الخط حتى ثلاثين يوماً، عقاباً فردياً". كل ما تبقى كان الرسائل الشخصية. تبعاً للقوانين، كان مسموحاً لنا بكتابة أربع صفحات في الأسبوع. وسُمِحَت الكتابة عن الأمور الشخصية والعائلية فقط- لا شيء آخر: لا شيء عن الأوضاع أو قضاء الأحكام. ما الذي يشكل موضوعاً شخصياً تحديداً؟ (بدا وكأن السلطات غفلوا عن أن قضاء حكم السجين هو الأمر الشخصي الملح).

وكيف تفسر لهؤلاء بأن الكاتب حين يكتب عن الأدب يكتب مسألة شخصية بحتة؟ كتابة الرسائل كانت الطريقة الوحيدة للإتصال مع العالم الخارجي، الإتصال الطبيعي مع العائلة، بعيداً عن الزيارة التي تستغرق ساعة واحدة مرة كل ثلاث شهور. وكانت أيضاً الملاذ الإبداعي الوحيد لأولئك الذين اعتادوا على الكتابة كطريقة حياة. بنفس الوقت، كانت كفاحاً.

المشكلة الأولى كانت في إيجاد وقت ومكان. في البداية تدبرنا ذلك بالكتابة سوياً في الغرفة المشتركة. ثم منعنا المأمور من الإجتماع هناك، مفرقاً بيننا كأعداء في صف واحد، مضيفاً الحقيقة المثيرة بأن الانقلابات السياسية كلها انبثقت من السجن. كنا عادة ما نكتب رسائلنا أيام السبت والآحاد، خلال الاصطفاف للإفطار، عرض الفلم الإجباري، الغذاء، إحصاء الرؤوس. أو خلال نشرة الأخبار المسائية؛ وسط قيودنا والنشاطات المضجرة التي تكوّن رواية إعادة التأهيل؛ أو في غرفة بينما يشخر آخرون، يتصارعون ويتعاركون على مخدرات. حاولنا آنذاك انتهاز بضعة لحظات قيمة- نتعلم كيف نطوي معاً أربعة أوراق قاسية، كيف يمكن أن يُقال كل هذا ويشفي غليل الكتابة، كيف تخبّر عن مدارات العقل ولا تثير استياء المراقبين بالوقت نفسه.

فشلت رسائل بالمرور أكثر مما عبرت؛ لم تكن تركز على مسائل خاصة، كانت تلمس مواضيع محرمة، تسخر من المسموح تداوله. كان أمراً مؤذياً، شقياً. كانت خط الكتابة صغيراً جداً، والخطوط قريبة جداً من بعضها، والهوامش غير مرئية. كانت مشفرة. كانت مقالة.

بالمناسبة، مأزق الرسائل القادمة من المنازل كان نفسه. إحدى المرات أراد المأمور وضعي في زنزانة بسبب شيء كتبه أخي. وصادر رسالة من زوجة فاسلاف بيندا لأنها أعلمته بأن “الفرن يصدر دخاناً”- ماذا عنت بذلك؟ منع هافل من تلقي رسالة أخيه لأنه كان من الطيش بحيث استعمل مصطلحاً إنجليزياً. بدا الأمر وكأن أقربائنا تحت قوانين السجن.

بداية، حاولنا جهدنا أن نفهم القوانين، بل ومجاراتها. قرأنا رسائلنا لبعضنا وناقشنا فرص مرورها. كنا نتفاجأ باستمرار. هناك رسائل من تلك التي حكمنا عليها ببراءة صودرت، بينما أخرى، التي حاولنا بها أن نصل حدود القوانين (كما فهمناها) تنجح بالمرور. كنا محبطين، بنهاية محتمة، متحررين بوعينا لأن تفكير الإنسان ورغبته في النظام والمنطق كانا بلا طائل في السجن كما هو خارجه. لم تكن هناك قوانين، الرسائل فقط تمر أو تصادر تبعاً لمزاج ونزوة المأمور أو الرقابة تحديداً. اعتبرت مصادرة الرسالة عقاباً مكتوماً في الأغلب. يمكن للمخبرين أن يكرروا أخبار سيئة عنا، لإذاعة أجنبية أن تنوه بوجودنا في هيرمانيك. بقدر ما كان ذلك مبعثاً للجنون، لم يكن هناك ما يمكن عمله.

بعد ذلك، في بعض المناسبات، تبادلنا رسائل في غرفة تبديل الملابس لمناقشتها ليس إلا. كانت مواضيع الرسائل غالبا ما تُناقَش بعد تقديم حلوى السميد أو خلال الاصطفاف للعمل. (وأية فرصة مواتية). كتبنا مع زملائنا في عقولنا، شاعرين بالرضى إن صودرت الرسائل بإن الاثنين الآخرين قد قرأوها. إن أردنا إخبار أحد في المنزل بشيء مهم، كتبنا بالطريقة التي يمكن لواحدة من ثلاث رسائل أن تحمل فرصة المرور. أحياناً تصادر الثلاثة معاً، وعندما يحصل ذلك عادة أردنا منهم أن يعرفوا (على مسمع المخبرين) بأننا لن نكتب نهائياً. فتمر رسائلنا التالية. أقل مشكلة لمراسلاتنا ستجلب شهرة غير مرغوبة.


كان هافل هدفاً للاضطهاد عادة، ربما لنجاحه خارجاً ككاتب: مصدر هذا الاهتياج كان الاعتقاد بأنه يمكنه كسب الكثير من النقود. إن كان هذا الزعم كافياً ليحصل هافل على إعجاب الكثيرين، فهو أيضاً كافياً لحسده. دماثة هافل ولطف تعامله- بالتناقض مع غطرسة ووحشية سلطات السجن- أعطت المأمور وبعض السجانين الإنطباع بأنه ضعيف وهش. كانوا مُستفزين بشدة، وساخطين عليه- حيث أنه لا يقابل تنمرهم بإذعان، بل بمواجهة قاسية مبهمة، الأمر الذي كان يتسبب بإحراجهم. فقد صادروا واحدة من رسائله بحجة أنها على شكل مقالة. حين صرخ به المأمور: “ما زلت تكتب عن نظام الروح، نظام الوجود.. الأنظمة الوحيدة التي يجب أن تهتم بها هي أنظمتنا” عندما منع المأمور هافل من كتابة مقالات، آمراً إياه بالكتابة عن نفسه فقط، بدأ يصنف سلسلة لمزاجاته الخمسة عشر المختلفة، وبعد كتابة المزاج الثامن، منعه المأمور من ترقيم السبعة الباقية، وهي، كما الرسالتان المنشورتان هنا، على الرغم من كل شيء، باقية. 

ييري ديينتسبير 

الحياة في الداخل

6 أيلول/ سبتمبر 1981

عزيزتي أولغا، 
أنا متأكد بأنك تذكرين نهاية مسرحية "الكراسي" ليوجين آيونيسكو: عندما يأتي المتحدث ليخطب في الجمع المحتشد عن رسالة مهمة جداً: إنها تُقدَّر بجميع ما تعلمه كبار السن من معرفة خلال حياتهم، والتي يحب أن ينقلوها للعالم قبل أن يتركوه؛ هذه المعرفة التي تكشف بعضاً من الحقائق المهمة وتشرح "كل مافي الأمر". المتحدث، المفهوم ضمنياً، سيقوم بإطلاع الحضور على المعنى الحقيقي للحياة. لكن الخطاب الذي طال انتظاره يحتوي على ثرثرة جوفاء فحسب.

يُرجع العديد ذلك إلى اتهام الكاتب باستحالة الاتصال، بأن شخصان لا يمكنهما أبداً الوصول لتفاهم على أي شيء، مثل "المعنى من الحياة". ذلك لأن الحياة بلا معنى: بكل زيفها، والإنسان الذي يغرق بيأس في العدمية بلا انتهاء. لذا يُعتبَر آيونيسكو لدى العديد كاتباً يمثّل مطلق التشكك والعدمية.

ما عناه آيونيسكو يخصه وحده. لا أنوّه بالمسرحية لأنني أريد فرض تفسيراتي الخاصة عليها، بل لأن الموضوع الذي تكلم عنه المتحدث بدا لي كنقطة بداية مفيدة.

ملاحظة: كبار السن، المدركين لأهمية رسالتهم، وبأهمية إيصالها للعالم بشكل يمكن فهمه، لا ينقلون الرسالة بأنفسهم، بل يوظفون محترفين ذوي مهارات اتصال عالية.

إن كان هدف المتحدث إعلام الجمع بمعنى الحياة فقد فشل. لماذا؟ لأن المعنى من الحياة ليس مجرّد شذرات من معلومات جديدة تُنقَل من شخص ملم بها لآخر يجهلها، كرائد فضاء يمكن أن يخبرنا عن كواكب في النظام الشمسي، أو إحصائي يخبرنا بنسبة مدمني الكحول. لم يكن لغز الوجود والمعنى من الحياة معلومات، والناس لا يمكن فصلهم: عارفين وجاهلين- بتلك المعلومات. لا يمكن لأحدنا أن يكون "أفضل" من غيره فقط بمعرفة ما لا يعرفه آخرون، أو بمواجهة بعض الحقائق التي مرّ عنها آخرون.

ميَّز سافاريك بين الحقيقة والمعلومة: المعلومة تُحمَل وتُنقَل، والحقيقة ليست بأبسط. (على أية حال، برهن التاريخ بشكل وافٍ على أنه كلما خضع الناس لوهم أن الحقيقة سلعة تُمَرَّر بسهولة، كلما عظم رعب الذي سيأتي- لأن هذا الوهم الذي يمكن اجتنابه يقود لحتمية أن العالم يمكن أن يتطور فقط بنشر الحقيقة بالسرعة الممكنة. وأية طريقة أسرع لنشرها من العنف؟

ليس "المعنى من الحياة" كما أفهمه، هدفاً واضحاً يمكن معرفته وتحديده كمفهوم مطلق. بالنسبة لي يرتبط مفهوم المعرفة الكاملة والمحدودة التي تشرح كل شيء وتزيح باقي الأسئلة، بفكرة النهاية: نهاية الروح، الحياة، الوقت والوجود. لذا فكل ما قيل عن المسألة ويشكل معنى ما (بما فيها المسلمَّات الدينية) هو أمر معروف بانفتاحه المفتعل، ونقصانه.

المعنى من الحياة ليس أمراً حتمياً وقاطعاً، كتحدٍ أو استئناف لشيء هو، بأقصى إحساس، العيش؛ لشيئ يغمرنا أو يتكلم إلينا، يُلزِمُنَا، أو يثيرنا، لشيء يتوافق مع تجاربنا الأعمق وحتى أنه قد يغير حياتنا بأكملها. لكنه، أبداً وبالطبع، لم يحاول أن يجيب، بشكل جلي، عن الأسئلة المستحيلة للمعنى، بل يحاول أن يقترح كيف نتعايش مع السؤال بدلاً من ذلك. 

وهل هذا بقليل؟ لا أعتقد. العيش مع السؤال يعني (التجاوب) معه باستمرار. أو العيش بشكل يمكنّنا من الاتصال بهذا المعنى، وسماع صداه الباهت باستمرار. ذلك لا يعني نهاية المشكلة، بل التعايش اللصيق الدائم معه. لا أعتقد بأنه لا يمكن لنا (الإجابة) بالطريقة الحسية التقليدية للكلمة. لكننا، بتوقنا له وبحثنا، عنه نجابهه بشكل غير مباشر باستمرار.

نحن تقريباً نشبه الأعمى وهو يلمس المرأة التي يحب، التي لم ولن ير. السؤال عن المعنى من الحياة ليس بنقطة في نهاية الحياة، بل بداية تجربة أعمق. إنه أشبه بضوء لا نرى مصدره، ويشع بالرغم من حياتنا، سواء سعدنا بوفرتها المبهمة، أو عانينا من ندرتها تلك.

جوهرياً، ما يجعلنا بشراً حقيقيين هو اتصالنا المستمر مع هذا اللغز. الإنسان هو المخلوق الوحيد بشقيه: جزء من الكينونة (وبالتالي حاملاً للغزها) ووعيه بهذا اللغز كلغز. إنه السؤال والسائل، ولا يستطيع إلا أن يكون كذلك. ويمكن حتى القول بأن الوجود، عبر الإنسان، يستطيع أن يتحقق من كنهه.

المجابهة الأولى الجدية مع السؤال عن المعنى لا تظهر فقط عندما يشعر أحدنا بأن الحياة فقدت معناها، لكنها تظهر أيضاً في لحظة عندما يشعر أحدنا، كنتيجة لانعكاسات داخلية، بأنه ممسوس بالمعنى نفسه بحق. هذه اللحظة أيضاً تشكل بداية تاريخ الإنسان ككائن بشري: من تاريخ ثقافة، من تاريخ ما يمكن أن نسميه "نظام الروح".

ليس هذا بعصر الأجوبة: إنه عصر الأسئلة، إنه لا يتحقق لحياة بمعانٍ واضحة، بل لحياة تجهل معناها وتستعد للوصول إلى نهايتها بهذه الحقيقة القاسية باستمرار.

لا أجيد طريقة أخرى لأقبض على سؤال "المعنى من الحياة" إلا بالمرور بالتجربة شخصياً ومحاولة بيانها. بطريقة أو أخرى، هذا ما كنت أحاول عمله من بداية رسائلي، وأنوي متابعتها، آملاً أن كل ما أنجح باستخراجه في هذه الظروف الصعبة لن يؤخذ حرفيا أو بشكل جدي؛ بل كتدفّق محاولات ارتجالية لتربيط حياتي الداخلية المفكّكة.

أهم من ذلك كله، دعيني لا أبدو مثل متحدث آيونيسكو.

منتظراً الزيارة بشوق
قبلاتي، فاسك



13 آذار/ مارس 1982

عزيزتي أولغا، 
أفكر بالتناقض الذي رآه البعض بين أفعالي التي أعتقد بأنها خانتني كشخص مثاليّ غير قابل للشفاء، قادراً على الدوام أن يثير حماس نفسه ليهدم الحائط برأسه باعتقاده الساذج بأنه يستطيع تغيير العالم، وبين كتاباتي من جهة أخرى، التي، كما يقولون، تخونني كمتشائم وسوداوي، إن لم يكن عدمياً بغير تحفظ، فاقداً القدرة على الإيمان بالتغير نحو الأفضل.

حسناً، سأضع الأمور في نصابها.

أولاً، إذا لم يقم شخص بالبقاء صامتاً طوال الوقت، متحدثاً عمّا يفكر الآن ولاحقاً، متصرفاً كما تملي عليه مسؤولياته، لا يعني هذا بأنه (مثالي) أو (حالم)، أو بأنه يضمر وهم تغيير العالم. (بالعكس: مثل هؤلاء ينزاحون لإظهار استهلاكهم لأنفسهم بطبيعة هزلية). هذا يعني أنه ببساطة يحاول التصرف بشكل (طبيعي)، بحرية وكرامة، بالتوافق مع نفسه.

ثانياً، عندما يقوم قارئ مسرحية "فندق الجبل" بوسمها بأنها صدرت عن مكان عميق جداً في يأسي، لن يسعني إلا أن أضحك. غالباً ما أكتب بحالة اهتياج: من كآبة ويأس، لأنني أجد صعوبة بالكتابة. وبسبب إني نادراً ما أرضى عما أكتب. لكنني عندما أكتب بمزاج رائق، يمضي النص ويتكامل كما تخيلت، بل وأفضل، أبتهج حينها وأُسعدُ كطفل.


إحساسي في لحظة الكتابة يرتبط بشكل وثيق بكيفية سير النص، وبشكل عام بموضوعه.

من الصعب علي التصديق بأن مصدر نصوصي أو رغبتي بالكتابة يمكن أن يكون اليأس، وفي حالتي لا أعلم لم، دون سائر الناس، يجب علي أن أشعر بفقدان الأمل. أنا ببساطة أراقب العالم حولي باستغراق عميق؛ أختار منه الأفكار التي تتكلم إلي بشكل شخصي، والتي تحتوي على طاقة داخلية محددة.

بهذا، يمكن لرسالة مهمة أن تتشعب، إن فُهِمَت وطورت- رسالة تشترك مع ما أحمله ليكون (مواضيع مركزية). من أفكار كتلك، وباستغراق لذيذ، أخلقه بالنهاية بنىً زائفة بالغة الصغر والتي تشكل مسرحياتي، كلما جرى النص بشكل أفضل، كلما كنت مسحوباً بفكرة (تجلي النص عن نفسه)، وعظمت بهجتي. إن كان الناس يجدون مسرحياتي سخيفة، جالبة للبؤس، صادمة أو حتى، كما يقولون، "نهاية مسدودة"، هذا ليس لأنني استسلمت لأمزجة كتلك أثناء الكتابة. هذا بالأحرى لأنه يبدو تفسيراً صحيحاً، لأنني كنت مجذوباً لتلك الطريق بالمزاجات نفسها؛ لأنه بدا طريقاً موثوقاً للقبض على المواضيع المركزية ومفاتحتها بطريقة مكشوفة؛ لأنني أظن هذا الطريق يتطابق مع خبراتي العامة عن العالم- بشكل أبسط، لأني أحبه كذلك، ويمتعني، وأتوقع منه أن يكون طريقاً صحيحاً. وعندما أنجح بفهم شيء بالشكل الصحيح، أحاول نسيان كتابته وأتخيل نفسي ذاهباً للمسرح لأشاهده كأي مشاهد عادي. إحساسي آنذاك، مهما كان مثيراً للضحك، تراجيدي، محزن أو قاسٍ، وبالرغم من صفاته المزعجة، من خلاله، سأجده مبهماً، محرِّراً ومنعشاً، ربما لحد الدموع.

سأكون سعيداً لسماع الأشياء تسمى بأسمائها الحقيقية مرة أخرى، ممتناً بأن الوجود قد كُشِفَ بكل امتلائه: لم يضع كل شيء إذاً. تجربة كهذه ربما لن تحزنني، في الحقيقة أنها تقوي اقتناعي بأن كل شيء منطقياً، بطريقة ما: حياتنا، كدحنا وشقاؤنا، عالمنا الذي هجره المطلق؛ باختصار، يبقى هناك بعض أمل غير زائف.

ما يحزنني حقاً أن أرى شيئاً مختلفاً على المسرح: قذراً، متملقاً، ذكياً، مغرياً، كذبة أخلاقية شيطانية.

ثالثاً، يجب أن يكون أكثر أو أقل وضوحاً سبب عدم وجود تناقض حقيقي بين ما يُفهم خطأً على أنه مثاليتي الساذجة وتشاؤمي: الأمران حقيقيان فقط، وحسب، مشاعري الشخصية، سيمة ملازمة لنفس النزعة الوجودية. لأنني أؤمن بمعنى الوجود والحاجة للمسه باستمرار عن طريق محاولة جعل وجودي منطقياً.

أنا أكافح باستمرار ضد الهراء، وأكتب عنه دائماً بأقصى ما أستطيع حشده من راديكالية مبهجة. فقط بتسوية حسابات دائمة مع الهراء، عاكساً المرآة على انتصاراته الدائمة، أستطيع أن أضيف لقوة خبرة المعنى في نفسي وأمنح جوهراً لإيماني. وأنّ، في مستهل هذا الإلتزام "العبثي" ونصوصي حول "العبثية"، ثمّة إيمان:شعور بتحقق المعنى والبهجة. ففي النهاية يتعمّق الإيمان ويتحقّق المعنى بقوة، وتتحقّق البهجة: من هنا تنبع بهجة أولئك الذين ذاقوا "الحياة في الداخل".

قبلاتي، فاسك 

المصدر Letters from Prison- Vaclav Havel. عن مجلة Granta، العدد 21

*فاتسلاف هافل، ييري ديينستبير وفاتسلاف بيندا كانوا ضمن ستة موقعين على معاهدة 77 أدينوا بإخلال الأمن في براغ أكتوبر 1979، كنتيجة لنشاطهم في VONS "لجنة الدفاع عن الاضطهاد غير العادل". حُكِمَ على هافل بالسجن لأربع سنوات ونصف، بيندا لأربع سنوات وديينستبير لثلاث

**أرسل هافل في يناير 1980 إلى سجن هيرمانيك في شمال مورافيا، وفي مارس نفس السنة التقى مع دييسنتبير وبيندا هناك. في يونيه 1981 نقل إلى سجن بلازن – بوري، وبقي هناك حتى يناير 1983، عندما أصيب بذات الرئة نقل إلى مستشفى السجن في براغ، وفيما بعد أطلق سراحه تحت الإقامة الجبرية. لم يصدر أي قرار عن مكان قضاء باقي حكمه للآن. كتب هافل ما مجموعه 144 رسالة لزوجته، أولغا.

*** بوري فيرسايلس: حديقة فرساي. حديقة في تشيكوسلوفاكيا.

 VONS ****"لجنة الدفاع عن الاضطهاد غير العادل". منظمة أسست في تشيكوسلوفاكيا عام 1978 كأحد نتائج معاهدة 77 التي وقعها 216شخصاً في عام 1977 لتُعنى بإثارة الإهتمام لقضايا حقوق الإنسان الفردية ومطالبة الحكومة التشيكوسلوفاكية بتطبيق القرارات والحريات التي أصدرت لحماية المواطنين. هذه اللجنة عنيت بتوثيق قضايا الانتهاكات الفردية المرتكبة من الحكومة

ترجمة أ. ز

الخميس، 29 ديسمبر 2011

عن الرغبة بتنظيف الحمّامات

تذكّرت الآن. إنه ذلك المشهد الذي لطالما غذّاني. كنت قد نسيته تماماً حتى عثر عليّ في التطوّر الأبشع للمهرجانات الاجتماعيّة: الفيسبوك. كنّا نتحدّث عن حتميّة هجر العالم والعمل في تنظيف الحمّامات. قلتِ أننا نشبه بعضنا: "أنت متوحّد، مثلي. لكنك تستطيع مجاراة الناس حينما تضطّر إلى ذلك". ثم قلتِ شيئاً عن الحاجة للتخفّف من العالم المبتذل، والحاجة لتنظيف الحمّامات. 
كنت قد بدأت ذلك منذ زمن: تركت المنزل برمّته للقطط، وانهزمت إلى المكان الذي أستطيع فيه الانقطاع نهائيّاً عن صورتي التي تطورّت على شكل علاقات اجتماعيّة، ومقهى روتينيّ، وعدد أدراج يفصلني عن عتبة المنزل، واسم ألتفت دائماً إلى من دعاني به.
أكثر ما يثير ذعري هذه الأيام منظر أطرافي وهي تتحرّك بينما أنظر إليها من الأعلى. لا أستطيع تفسير هذا الذعر، لكنني مضطّر للتعامل معه طالما بقيت هذه الأطراف تحت سيطرتي.
في مرة كنتِ بها مخمورة ومخدّرة وشبه مغيّبة، دخلنا مرحلة هلوسة تنافسنا فيها بالمخيّلة. كانت هلوساتي نصف واعية، إلا أن هلوساتك جاءت مباشرة من اللاوعي. ليلتها كنت تهلوسين بأطرافك أيضاً. وقلت شيئاً عن تفكيكها على المجلى: قطعة قطعة.
أفكّر بتلك الليلة وأنا أسترجع ذلك المشهد من فيلم Synecdoche New York. حين يقرّر المخرج المحتضِر، والذي يقوم بإنتاج مسرحيّة حول حياته، أن يلعب دور خادمة زوجته السابقة. وفي كل ليلة، يذهب إلى منزلها لعدة ساعات: ينظّف، وينقطع عن اسمه وهويّته وحياته التي تركته لتشبه أحداً آخر.
كان "كايدن"- الشخصيّة في الفيلم، مكتئباً طيلة المشاهد. ليس بسبب احتضاره، بل ذلك الاكتئاب الذي ينبع من القلق بأنه يجب أن ينجز عملاً مهمّاً قبل أن يموت. كان احتضاراً جيداً بالمقارنة مع الاحتضارات الغبيّة التي نمارسها نحن من دون وعي.

يعتقد هايدغر أن الوجود المبتذل يتحقّق عندما يجد الشخص "القلِق" نفسه محاطاً بمجموعة من الأشخاص الذين لا يريدون العيش مع هذا القلق. حينئذٍ، حسبما يقول، ينغمس الفرد في هذا الوجود الزائف من خلال العالم بحد ذاته، ومن خلال الوجود الجمعي. 

أحياناً، تتهيّأ لي سينوغرافيا طوباويّة: أشعة تصدر عن شمس غير موجودة لكنني أشعر بها، مزيداً من الشجر الذي لا أتبيّن ألوانه أو نوعه، علبة أخرج منها على هذا المشهد، ومقاعد حجريّة عليها سكاكين ومفاتيح معلبات وولّاعات، والقدرة على ألّا أرى جسدي يتحرّك.

قبل عدة أيام حلمت بذلك كله. عدا أن المقاعد الحجريّة تحولّت إلى مقعد خشبي طويل نجلس عليه. كنتِ في قمة انفعالك، لكنني لم أشعر بالحاجة الملحّة لمجاراتك على نفس المستوى. تكلمنا كثيراً. بكيتِ كثيراً وبقيتُ محافظاً على ابتسامتي. 
كنت تجلسين على طرف الكرسي وتستديرين باتجاهي، لكنني لم أكن أنظر إليكِ، كنتُ أنظر أمامي: إلى صورتك وهي تظهر وتخبو بين أشعة الشمس التي توهّمنا أنها موجودة.

كنتُ أنظر إلى حيث كنت ترتدين رداءً موريتانيّاً. حافية، هادئة، وقادرة على الاستغناء عن الوجود بمجرّد أن يتحقّق.

الجمعة، 25 نوفمبر 2011

إفرم مينوك ينتقم من الموسيقى


إذ لم يكن في المطرب عشقاً
وفي النائح ألماً
يصاب المستمع بالزمهرير.

"شمس تبریز"


في الخامس من تشرين أول/ أكتوبر 2008، قرر إفرم مينوك إيقاف فرقته A Silver Mt. Zion، وسؤال الجمهور الفينلندي عن وظائفه.
الحديث جرى هكذا: إفرم يسأل: من من الحضور يقدّم الطعام لأخوات الشراميط؟ ويرفع عدد من الحضور أيديهم. ثم يسأل: من من الحضور طالب؟ من يعمل في الجامعة؟ من يعمل في Fucking internet؟ هل هناك محامين؟ لا أحد؟ هيّا لا تخجلوا. ماذا عن السياسيين؟ هل تمثّل حزباً اشتراكيّاً؟ هل هناك من يعمل في البناء؟ بيديه؟ أيّ عمل حقيقي؟

لكن هل يعمل إفرم نفسه بأي عمل حقيقيّ؟ هل الموسيقى عمل حقيقي بالفعل؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فمن هم الموسيقيون الذين يعملون بأيديهم؟ من هم بناؤو الموسيقى ومن هم تجارها؟

يطرح إفرم الأسئلة التي سألها ثيودور أدورنو مراراً. مستعيداً تورّط الأخير في الدفاع عن الصوت الحقيقي للموسيقى، وما يجب أن تكون عليه بمواجهة انحطاط الموسيقى الشعبيّة الذي يعتبرها عملاً مضادّاً للموسيقى.

أدورنو، الذي كتب أهم مقالات وكتب التحليل السوسيولوجي للموسيقى كصناعة وكطريقة تعبير ونتاج مجتمعي وفردي معاً، اعتقد أن "اغتراب الفرد في مجتمعه يتنامى إلى درجة أن الموروث الموسيقى قاصر على حمل ما يعبّر عن هذا الاغتراب. إذ أن الشكل التقليدي والميلودي لم يستطيعا الانسجام مع ما فرضته الأزمة التي أنتجها العالم الرأسماليّ".

إفرم فعل ذلك. واجترح شكلاً موسيقيّاً جديداً سمّي، لاحقاً: Post rock.

ففي مونتريال، معقل البوست روك بامتياز، عمل على تأسيس فرق موسيقيّة تستعمل الروك لتحطيم شكله الموروث، والتقدّم به إلى مستويات حسيّة أعلى. وذلك ببساطة بتقليد صوت الاغتراب.

كان إفرم آنذاك، ولا يزال، ينتقم من الموسيقى. بقصورها عن التهاوي مع كل ما يتهاوى من حولها. بإمبراطورياتها التي تسطو على كل كلمة وكورد ولازمة وفاصلة وعنوان فرقة واسطوانة.

تمرّد إفرم على كل ذلك، وتجاوز التابوهات: أنجز مقطوعات موسيقيّة مدتها تتجاوز 30 دقيقة. جرّب من خلف المسرح وعليه. جاء بقسّ ليقرّع الدين من خلاله، وحمّل السياسيين والأنظمة دم المارينز والضحايا في البلاد البعيدة، وتضامن مع الانتفاضة الفلسطينيةّ الثانية، وكشف عمّا يمكن أن تكون عليه الموسيقى إذا كان الشخص حقيقيّاً بما فيه الكفاية. وموجوعاً من هذه الحقيقة بما فيه الكفاية.

حاول إذاً إفرم تقليد العالم المغترب من خلال الفرد المتغرّب: وضع في مقطوعة واحدة تشيلو، إليكتريك غيتار، بيانو، أشخاص يتكلمون، يصرخون، يئنون. أحياناً، يلقي معطوب ما قصيدة لمدة 10 دقائق عن أن أميركا من دول العالم الثالث. أو يتحدّث عجوز خرف عن النوم على شاطئه القريب من منزله. ويبشّر في مقطوعة أخرى قس بنهاية العالم وينادي بالخلاص بصوت مرتجف. ويصف آخر مشهد نهاية العالم: "ثم بعد ذلك قلت: قبليني، أنتِ جميلة إلى هذا الحد. نحن عالقون في بطن هذه الماكنة المرعبة. والماكنة تنزف حتى الموت. وقعت الشمس، ومالت لوحات الإعلانات، والأعلام كلها ميتة على سواريها. استيقظنا في اليوم التالي وشعرت بأنني أكثر إحباطاً من الأمس. فتحت محفظتي، لأجدها مليئة بالدماء."

ومن برد مونتريال، ونزعتها اليساريّة الاشتراكيّة، ظهرت فرق Godspeed You Black Emperor و A Silver Mt. Zion وThee Silver Mt. Zion Memorial Orchestra & Tra- La- La Band. إضافة إلى عمله الصولو Plays ‘High Gospel’ الذي أصدره مؤخراً.

في النص المترجم، يكتب إفرم إلى بوبي دارين، أحد أبرز الوجوه الأميركيّة المشهورة في المسرح والسينما والتلفزيون والموسيقى. وأحد أكثر الكائنات هشاشةً وإنسانيّة بالنسبة لكل من عاصروه. توفي دارين عندما كان عمره 37 عاماً، وإفرم كتب هذا النص عندما اقترب من بلوغ نفس العمر سنة 2003.

هذا النص لا يمكن الاعتداد به كمرجع لحركة البوست روك. بل لا يمكن الاعتداد به كنص أدبي أو حتى نص يمرر أيّة معلومة حول مبادئ هذه الحركة التي يمكن اعتبار إفرم عرّابها. لكنه مجرّد نص مليئ بالجمل الشعرية المهزومة. نص يمرّر لنا إحساس اللحظة التي تخلق بها الموسيقى.



لا تقع في غرام الموسيقى لأنها فقط ستحطّم قلبك، مفهوم؟

إلى بوبي دارين

إفرِم

ثمّة وعد يتحقق. هناك، حيث يسقط صوت عالٍ وسماويّ من سماعات ما في مكان ما: أنتَ سكران أو مخدّر أو حتى يقظ جداً. و/أو لم تكن قد نمت حقّاً من مليون يوم. وهناك ذلك الثّقل داخلك. الثّقل الذي يمكن أن يكون صديقك الوحيد والأقرب والأكثر وحدةً. هذا الثّقل الحميم الذي يمكنه أن يلوّث أصغر شعرة على ذقنك.

لكن، ثمّة وعد يتحقّق. هناك: مدفون في الكوردات الصاخبة، أو أهدأ نقرة على وتر أو خرخشة همسات: هناك في الموسيقى، الموسيقى، الموسيقى. في المساحة بين النوتات مثل صفوف من الحشائش على مقدّمة أصابع القدمين. أو مثل ستائر ضخمة من الرصاص الفولاذي، أو النفط المشتعل. الموسيقى مؤلمة إلى الحد الذي يمكنها إيجاد ثقوب صغيرة بك حتى تستطيع ملائكة صغار عذبة أن تعشعش فيها، لتلاطف أوتار قلبك بصقورها المكسوّة بالريش.

ثمّة وعد يتحقّق وأكثر الناس لا يفهمونه أبداً؛ هؤلاء المشوّش عليهم بالألعاب الناريّة المزيّفة في سماء الآخرين، إلى الحد الذي لا يمكنهم فيه سماع احتراق الأشجار في الزاوية. مع ذلك، تتشكّل هناك نواة الإنسان التائه لسنوات، والذي يتوق للوعود. ربما لذلك، ننفق مبالغ صغيرة من النقود حتى نستطيع التحديق في بئر بائس قد جفّ منذ سنوات.

لن يستطيع معظمنا أن يصبح في السابعة عشرة من عمره مرة أخرى، لكن الكثير منا حمقى بما فيه الكفاية ليستطيعون الإيمان بهذا الوعد: الكلمات العَرَضيّة التي تخرج عن امرأة نحيلة مع غيتار. أو الهالة فوق رأس الدرمر بعيونه الجاحظة. أو عازف البيانو الذي يتحودب في الزاوية ويئنّ، حيث البيانو يشتعل من الهواء الذي يحترق في الوادي، بينما يلعب معوّق لحناً على الباص مرة بعد مرة.

أقسم بأنني رأيتُ أموراً على المسرح، في الزوايا والأرضيات أكثر سماويّةً وعذوبةً من غروب على أفق أرض بعيدة تحتلها جيوش من العصافير التي تزقزق. نعم، لا أزال أؤمن بهذا الخراء، ولا أزال ألاحق الأضواء الخافتة في الصحراء. على الرغم من أنني أتساءل عن تأخّري، لأنني أخاف أن أتقدّم في العمر بهذه الكنيسة الملعونة. هذه الكنيسة التي تزدحم برعيّة عاجزة يضحكون ويصرخون طيلة الوقت: "أنا أنا أنا".

وأنا أشعر كأنني أهنت أو كأن حُمقاً فخوراً بتقدمه في العمر يهزّ عصاي. نعم، لأنني لا أزال بانتظار ذلك الوعد السماويّ العظيم ليظهر على شكل قبلة على الجبين، على شكل جيش من أجنحة حمام مرفرفة، على شكل قطار بخاري ضخم على سعة الأرض، على شكل التفاتة وادعة حقيقيّة تسكن في الهمس ولا تخرج منه.

هذا الوعد الملعون مدفون في خراء الكوردات والبلغم. وهذا الشيء الخرائيّ الذي كسر عمودي الفقريّ النيّئ وحطّم قلبي الغبي العنيد لا يزال وعداً: الوعد، صانع العجائب، الوعد الوعد الوعد.

أقسم بأن الموسيقى كانت في وقت من الأوقات تنتمي إلى الناس. ذلك الوقت الذي كانت فيه الأغاني هي ما نقدّمه لبعضنا بغض النظر عن أجمل تعبير أو أشد الترنيمات غضباً وحزناً. كانت هذه الأغاني تجري بيننا كمعانقة أو مصافحة، كأقدس قربان لأحلام البشريّة، آمالهم، تأمّلهم والتباسهم. أو مثل كوردات تقرع في جِرسٍ مثاليّ تصيب السياسيينوالقضاة أو الجيوش المحتلّة القميئين بالذعر. أو مثل كل الفوضى الهائلة التي تغمر حيواتنا المرتحلة، والتي تطوّق الالتفاتات، أو اختناق يمزّق الحنجرة من كوردات تلعب على لحن مبهم.

كانت الموسيقى تنتمي إلى الناس الذين ينتشرون عبر هذه الصخرة الموحلة التي تدور. مجرّد بخار ناريّ من لعاب متماسك، مثل الضباب على أرض باردة باردة. على هذه الأوساخ المجانيّة على أجمل أرض جوعى. معلّقة هناك كقيثارات مقدّسة في الضباب. تحتضن أطفالاً نحيلين جميلين مصابون بالسلّ. كانت الموسيقى كان يوماً ما خلاصاً. خلاصاً لا يزال يشتعل كحمّى عظيمة أحياناً، صوتاً لحنيننا العنيد، توقنا لأن نتحرّر، رغباتنا المدفونة، شعلة الشمعة الذاوية التي تشتعل مرة أخرى. الأشياء التي تزأر في صدرك والتي تطلقها مثل كلاب شائخة ودائخة، أو مثل بهلوانات مهرجي سيرك. كل هذا، يشكل المشهد أحياناً. وعلى الرغم من أن النار تشتعل أحياناً بين أشخاص يتجمعون في غرف متناثرة، وعلى الرغم من أن صرخة عظيمة تدوّي حول العالم لثانية ضد كل الخلافات القميئة. تدرك فجأة بالضبط موقفك، وتتابع حياتك على أساسه، مجتمعاً مع كل التواقين والمشتعلين: تكافحون من أجل دمعة خرائيّة تضاجعون فيها كس أخت هذا الخراء.

ولكن لماذا؟ لماذا يقيّد هذا الوعد؟ لماذا يخنق ويطعن في الظهر ويرمى في نهر البول هذا؟ لماذا يهجر في العليّة مع رصاصات صدئة ومخلّفات تكسر القلب؟

وكيف يمكن أننا في العام 2003، ونحن المؤمنون الصادقون، تائهين في الصحراء الخرائيّة مرة أخرى؟ في هذا الميدان كالسبتيين، نعيش على أكثر قليلاً من مجرّد شوربة رديئة ونوستالجيا فظيعة لماضٍ متخيّل لم يكن إلا غباراً ووعداً على أيّ حال.

هذا يعني أن ليس هناك من يؤمن بأن الموسيقى تشكّل تهديداً بعد الآن. هذا يعني أنه ليس هناك من داعٍ لأن يكسر قتلة فاشيون أصابع فيكتور جارا التي تنقر الغيتار في مركز اعتقال بعد الآن. ذلك لأننا خسرنا المعركة، وأن كل الأشخاص الجيدين حزموا أمتعتهم وتركوا الخطوط الأولى منذ زمن بعيد. ولا يتّفق الجميع، كما كان الوضع، وكما سيبقى، على أن الموسيقى عبارة عن مهرّج بلاط، ودبب باندا مع دفوف لطيفة.

ويا إلهي على كل هذا الخراء، كل هذا الخراء المقيت المنتشر في الموسيقى الخرائية الخرائية. "الموجة الخرائية الجديدة"، أو "الخراء المقبل". لا نهاية لكل الخراء المعالج والسريع التحضير الذي يتناسل على لوحات الإعلانات في كل مدننا العفنة.

كل المسيرات المحزنة التي لا نهاية لها مع كل الدمى التي تئن وتسير ببطء والتي تملأ جيوبها بلازمات موسيقيّة أنيقة وتهويمات للبحث عن نجوم. وهؤلاء الأولاد والبنات الفخورين والأذكياء والفقراء مقتنعين بأنهم سيهزمون الماكنة قبل أن تهزمهم. كل هذا لمصلحة هذه الصناعة الكريهة الملعونة التي تقوم على الأكاذيب حتى تتبختر، معميّةً، إلى الأمام. وتبيع تساؤلاتنا لنا بأرباح مضاعفة. وهذه السرقات تتمكيج بذرائع لطيفة حتى يصبح من الصعب تحديها. ويا إلهي، يا إلهي، كم من أيدٍ كسولة وممنكرة توضع على أكباد تلك الماكنات الرثّة.

وكلهم تروبادورات مضللون يتمسّحون ببيض الإمبراطور مثل جحوش كبيرة معميّة مع عرف مسرف الطول، مزينين بسروج وسلاسل من الفضة، كاشفين عن مؤخراتهم بعيونهم الجميلة الجميلة جداً. وأنا أدعو الله أن يضعني في رصاصة، في شيء صغير ودقيق وموجع، ويا الله أطلقني بهيبتك بخلودك بحكمتك، ودعني في طريقي. أو أن أطلب غالوناً من بوظة بالشوكلاته و300 سيجارة وأصرخ: اخرس، ألا ترى بأنني أحاول أن أشاهد التلفزيون؟

أسأل الآن: ما هو، بحق جهنّم، كل هذا؟ وإلى أين نذهب؟ إنه يشبه برنامجاً تلفزيونيّاً أميركيّاً عن مطاردة لا نهائيّة لسيارات شرطة خلف شخص سيء. وبينما يقترب الأخير من الهرب، ينفجر إطار سيارته أو تنقلب السيارة وينتهي مقيّداً بالأغلال. الأسلحة فوقه، وذقنه على الرصيف: حكاية سخيفة ومنيوكة تقوم فقط بتحطيم قلبك.

أحياناً، يبدو لي أن كل الموسيقى المعاصرة تشبه ذلك: نظام متلاعب إلى حد أن لا أحد يمكنه النجاة من كل هذا الخراء لفترة طويلة، وحيث لا شيء يتغيّر. لذا: كس أخت هذا النظام لأن عالمنا تحكمه الفوضى. لكنني أقسم بأنني لا أزال مغرماً بكل اكتئاباتنا الرخيصة وكل صرخاتنا المبتهجة. وبأنني لم أجد الأجوبة إلا وأنا مسحوق، أو متهتّك في الفيضانات والانحسارات المتتالية المجنونة. وبأنني لا أزال، بشكل ما، أتلقى البهجة من الأصدقاء والغرباء. وبأنني لا أزال مذهولاً من الفاصل الأبدي بين الذين يحصلون على قوت عيشهم بالكتابة أو الحديث عن الموسيقى، وبين أولئك الذين يبحثون عن الأجوبة على المسارح المعتمة.

لكنني متأكد بأنني أعرف شيئاً واحداً: في هذه الأوقات، الأجوبة، التي نحاول ترقيعها إلى بعضها في الغرف المليئة بالدخان، هي تعويض على ما أعتقد. وربما هي أملنا الوحيد والأخير. وتلك الشعلات النحيلة التي تشتعل أحياناً لا تزال بحاجة إلى الحماية من الريح والمطر. ونحن: المؤمنون الأغبياء، يجب علينا أن نساند بعضنا بطريقة أو بأخرى على الرغم من أي شيء. حتى نكون قادرين على بناء صاروخ هائل من البصاق، وعلب الصفيح، والخيوط، ثم العثور على بقعة صالحة وغير مصطنعة، على ألا نخرج منها أبداً، ماشي؟

هذا الدفء الصالح يتفشّى في بطوننا لثانية أو اثنتان. ألا يتحق غذاء القلب الأساسي هذا أن نطيل مدة تدفقه؟ ألا نمتلك نحن، معالجو الشيفرات، والباحثون عن الأجوبة، الحق به؟

لذلك، علينا ألا نطمع بتراث الطرف الآخر، هذا التراث الإنساني الذي ينتج الضوضاء ويظهر جليّاً في التلعثم والاتقان سوياً. مثل ذلك الغموض الرائع لخلق الإنسان العظيم الأغاني من اللاشيئ: التلاعب بالخشب، والأسلاك والبصاق لإنتاج الضوضاء المقدّس.
ألم نخرج جميعنا من بطون أمهاتنا ونحن نقرقر ونغني ونبكي؟ ألم نزل جميعنا نغني ونقرقر ونبكي؟ وألا نحب تلك الأمور التي تكسر قلوبنا أكثر من أي شيء؟

والمقطع الأول سيبدأ: "اهتك عرضي بالقُبل". والمقطع الثاني: "كرّر حتى تموت". وعندما يأتي وقت الكورس، أرجوكم، لنتشقلب كلنا سوياً كحمامات مجنونة في الريح.



ترجمة: أ. ز

المراجع

مقالات في الموسيقى. ثيودور أدورنو

الاثنين، 14 نوفمبر 2011

حياة غير مستعملة تُشحن بدون أن تُمَس (II)

إلى زياد العناني


قبل أكثر من شهرين حبستُ نفسي في المطبخ. لا أذكر ممّ كنتُ منفعلاً فصفقت الباب بقوّة ولم يعد ينفتح. لديّ مشكلة مع الأبواب. أو ربّما أفكّر أنها لا يجب أن تكون بهذه الكثرة. ثمّة شيء في شكلها يدفعني دائماً إلى خلعها أو على الأقل صفقها بقوّة- وهذا ما حصل. حبستُ نفسي مع كل ما تعفّن وكل ما نسيت أن أخلطه بماء. في مشغل البكتيريا هذا- قلت لنفسي، إذا بقيت الليلة سأؤكل وأنا أنظر إلى القمر وهو يلتهم منخل الشبّاك المتسخ. ولكي أدّعي أمام نفسي أنني جرّبت كل الحلول، خلعت المقبض كله من الداخل. أعني الآليّة كلها: اللسان والزرفيل وما يشدّهما إلى جهتي.


في الجهة الأخرى كان المنزل يتّسع ويزداد إضاءةً. 


فكّرت في الأبواب التي ستنفتح مباشرة أمامي بنصف دفعة. فكّرت في جسدي وهو يميل إلى الأمام ببطء، ويلمس المقبض، ويحقّق شيئاً ميكانيكيّاً يوميّاً.


هناك حلم مشترك للبشريّة كلها، الحلم الذي يختزل كل الجهد والمعرفة والبذل النفسي. ومعرفة أن هذا الحلم لن يتحقّق يزيد من ضراوة السعي نحوه. الأديان تسميّه الجنة، الطبيعة تسمّيه الانقطاع عن العالم المادّي، لوتريامون يسمّيه الانتحار، كيركيغارد يسمّيه الانغماس في العدم، ويسمّيه وديع سعادة "المناطق النائمة في الدّماغ".


في تلك اللحظة، كان علي أن أبذل جهداً مضاعفاً للوصول إلى تلك المنطقة. كان عملاً استقلت منه مؤخّراً. إذ قررت بأنني لن أبذل أيّ جهد فائض باتجاه أي شيء أو شخص أو عدم.


في كل ليلة، أهيّئ نفسي لهذا الحلم، وأسمّيه النوم. واللحظة التي أنقطع فيها عن التفكير في هذا الحلم أكون داخله. مجرّد ثوانٍ أكون فيها أطفأت اللابتوب، ومددت أرجلي، ومسكت كتاباً، وفكّرت بالانتحار.


في البداية، كنت أفكر في الانتحار على أنه مجرّد نوم طويل. مساحة أعرّض فيها خلاياي إلى النوم، وأتخلّص من التفكير في طريقة جديدة كل مرة. كان الأمر مزعجاً آنذاك، إذ كان علي استثناء طريقة كل ليلة واختيار أخرى. لا أريده مؤلماً بالتأكيد، ولا صاخباً- اتّفقت مع خلاياي التي تشعر بالنعاس على ذلك. ثم طرأت مسألة المكالمة الأخيرة. ومسألة التردّد الأخير لمن أريد أن أهجس باسمه. والثياب التي سأرتديها، والهيئة التي أريد أن أغادر بها. لا أعلم بالفعل إن بدأت أتسلّى بالأمر، أو أنني انغمست فيه أكثر من اللازم. لكن ما أعرفه بالتأكيد أنني كل ليلة أذهب إلى نصف الطريق. وبأنني لا أعتقد أنه عندما سيحدث، سيكون أكثر إيلاماً من نصف الطريق.


هناك حيث تبدأ المشاهد بالتذبذب أمامي حتى أنام: بورتريهات خفيفة وبطيئة تتمشّى على حواف أعصابي التي حاربت من أجل إخمادها.


في العام 2004، قام لبنانيّ اسمه عمر نعيم بكتابة وإخراج فيلم The Final Cut، متحدّياً فيه فرضية ميلان كونديرا عن المشاهد البطيئة. ما قام به الأول أنه اخترع رقاقة لتسجيل حياة الشخص في دماغه. وبذلك يصبح لمحبيه، بعد موته، أرشيف كامل بين أيديهم. أما كونديرا فيعتقد أنه إذا أراد أحد تذكّر ما يستطيع من حياته، فلن يجمع الشريط الذي سيمرّ في ذهنه إلا بضعة ثوانٍ.


لا أعرف كم بقيت على الحافة التي تفصل شبّاك المطبخ عن شبّاك الصالون وأنا أحاول القفز مسافة متران. كنتُ معلّقاً بيد وقدم. اليد والقدم الأخريتان كانتا في منتصف الطريق. لكن مشهداً واحداً كان يتخدّر في ذهني وأنا أنظر إلى السماء المعكوسة بين الغيوم: زياد العناني في غرفة العناية الحثيثة: مستيقظاً بعد غيبوبة فشل الأطباء في إخراجه منها. يده في يدي، ممتنعاً عن الكلام، عيناه مركّزتان إلى حيث أحاول أن أتجنّب التحديق فيهما. 


كلانا كنا نعرف أننا قطعنا نصف الطريق. 

الجمعة، 11 نوفمبر 2011

كجثّة طفت على سطح نهر

قلنا له: أنصِفنا: إنّنا نحمل صورتك أينما حللنا. لم تسمَّ البلاد بأسمائها، بعد، لنصفَ لك غربتنا. 
تعبنا من الوصف- قلنا له: نتحرّك كالغبار في شوراع ظنّنا أنكَ حاميها. 
حتى أن أطلنا شعورنا، ووقفنا نمشّط أمام المرايا، طَفَتْ جثّتك على سطح نهر، وقرّرنا أننا سنحبّك.
أحببناكَ، وسمّيناكَ غريقنا الأجمل.
وهكذا كان لك اسماً من مقطعين، وكانت لنا أسماءً قصيرة، كأسماء غزاةٍ بشعر طويل وأوتار نشدّها على جلدٍ قاسٍ وصفيح مضروب.
وكنا عندما نتذكّرك، نشير لك بقبضاتنا التي رفعناها، كالأنتينات، إلى الأعلى.
وقلنا لك: أعنّا على قتلنا: هذا سخام بارد.
كلّ ما في الأمر أنّنا كنّا نفتقدك. لكنّك كنت ترتدي قمصاننا، وتنظر إلى نهرنا، وتربّت، مثلنا، على بؤسنا، وتطفو وحدكَ على أسطح منازلنا.
هناك، بينما كنّا نفسّر لكَ لغتنا، ونعدّ خطاك.
حتى أن وجدناك على الباب: الدم يقطر من أسنانك، وفي عينيك دموع حمر.
سألناك عن اسمك، لم تجب. وفكّرنا: أكان ينبغي أن ننادي طبيباً؟
لكننا استلقينا إلى جانبك، وأمسكنا بيديك. وأصبحتَ الآن حبيبنا.
وهكذا، وقعنا في غرام صبيٍّ ميّت.