السبت، 11 أغسطس 2018

كهف شوفيه*

ترجمة لنص The Chauvet Cave من كتاب The Shape of a Pocket لجون بيرجر

رسمتِ، يا ماريسا[i]، الكثير من المخلوقات، وقلّبتِ العديد من الأحجار، وقرفصتِ لساعات وأنت تبحثين. علّكِ ترافقيني.

ذهبت اليوم إلى السّوق الشعبي في إحدى ضواحي جنوب باريس. يمكنكِ هناك شراء كل شيء: من أحذية إلى قنافذ بحر. أعرف امرأة هناك تبيع أفضل أنواع بابريكا أعرفها. ثمّة بائع سمك ينادي عليّ كلّما كان لديه سمكة غير اعتياديّة يراها جميلة، لأنّه يعتقد أنّني سأشتريها لأرسمها. ثمّة رجل هزيل بلحية يبيع العسل والنبيذ. بدأ هذا الرجل مؤخّراً بكتابة الشّعر، موّزعاً نسخاً لقصائده على زبائنه المنتظمين وهو يبدو مندهشاً أكثر منهم.

هذه إحدى القصائد التي أعطاني إيّاها هذا الصباح:

    Mais qui piqua ce triangle dans ma tête?
Ce triangle ne du clair de lune
me traversa sans me toucher
avec des bruits de libellule
en pleine nuit dans le rocher.


من الذي وضع هذا المثّلث في رأسي؟
هذا المثلّث الذي ولد من ضوء القمر
الذي عبرني من دون أن يلمسني
بجلبة يعسوبة
عميقاً في صخرة، عميقاً في الليل.

بعد قراءتها، أردت الحديث معكِ حول أولى الحيوانات المرسومة. ما أريد قوله واضح، وهو شيء لا بد أن كل من نظر إلى رسومات الكهف التي تعود إلى العصر الحجري القديم ]الباليوليثيك[، لكنّه لم يحدث أبداً (أو قلّما حدث). ربّما تكمن الصعوبة في إحدى المفردات، وربّما علينا إيجاد مرجعيّات جديدة.

يتم إعادة بداية الفن، باستمرار، إلى أزمنة أبكر. فربّما تعود الصخور المنحوتة التي تم اكتشافها في كونونورا بأستراليا إلى 75 ألف سنة. بينما رسومات الخيول ووحيد القرن والوعول والماموث والأسود والدببة والثيران والفهود والرنّة والأُرخُص وبومة، التي عثر عليها سنة 1994 في كهف شوفيه بأرديش الفرنسيّة، أقدم من تلك التي تك اكتشافها في كهوف لاسكو بخمسة عشر ألف سنةً على الأرجح. الوقت الذي يفصلنا عن هؤلاء الفنّانين أطول باثنتي عشر مرة على الأقل من الوقت الذي يفصلنا عن فلاسفة ما قبل عصر سقراط.



ما يجعل عصرهم ذلك مذهلاً هو حساسيّة الإدراك التي يكشفونها. إذ تمّت مراقبة قوّة اندفاع عنق الحيوان، أو تركيب فمه، أو طاقة أوراكه، وإعادة خلقها بعصبيّة وسيطرة يمكن مقارنتهما بما نجده في أعمال فرا فيليبو ليبي، أو فيلاثكيث، أو برانكوزي. من الواضح أن الفن لم يبدأ بشكل أخرق. إذ كانت أعين وأيدي الرسّامين والنقّاشين الأولين بجودة من تلاهم. كان هناك ألقاً منذ البداية، وهذا هو اللغز، أليس كذلك؟

لا يتعلّق الفرق بين ذلك العصر وعصرنا بالجودة بقدر ما يتعلّق بالفضاء: حيث تتواجد صورهم كصور تم تخيّلها. لكن علينا إيجاد طريقة أخرى للكلام هنا لأن الفرق كبير جداً.

هناك، لحسن الحظ، صور ممتازة لرسومات شوفيه، إذ تم إغلاق الكهف ومنع دخوله. هذا قرار سديد يتم من خلاله الحفاظ على الرسومات. بذلك، عادت الحيوانات على الصخور إلى الظلمة من حيث جاؤوا، وحيث سكنوا لوقت طويل.

لا يمكننا وصف هذه الظلمة: لا ليلاً ولا جهلاً. نعبر جميعنا هذه الظلمة من وقتٍ إلى آخر ونرى كل شيء: الكثير من كل شيء حتّى نعجز عن تمييز أي شيء. أنتِ تعرفين ذلك أكثر ممّا أفعل: جاء كل شيء من الداخل.


في إحدى أمسيات تمّوز هذا الصيف، صعدتُّ إلى أعلى حقل فوق المزرعة لجلب أبقار لوي. غالباً ما أفعل ذلك أثناء موسم دراسة التبن. فبينما يتم تفريغ آخر شاحنة في الحظيرة يكون الوقت قد تأخّر، وعلى لوي أن يسلّم الحصّة المسائيّة من الحليب في ساعة معيّنة، وعلى أيّ حال نحن متعبون، لذلك، بينما يحضّر آلة الحلب، أذهب لجلب القطيع. مشيتُ المسار الذي يتبع الجدول الذي لا يجفّ أبداً. كان الممرّ ظليلاً والهواء لا يزال حارّاً، لكنّه ليس كثيفاً. لم يكن هناك ذباب خيل مثلما كان في الأمسيات السابقة. ومن تحت أغصان الأشجار، سار الممرّ كالنّفق، وكان في بعض أجزائه موحلاً. وفي الوحل، تركتُ آثار أقدامي بين آثار أقدام الأبقار التي لا تعد ولا تحصى.

تنخفض الأرض من على يميني بحدّة شديدة إلى الجدول. لكن تحدّ أشجار الزّان والسمّن من خطورتها، وسيوقفون وحشاً ضخماً لو وقع هناك. تنمو الشجيرات الصغيرة وشجر الخمّان على اليسار. كنت أمشي ببطء، ذلك سمح لي بأن ألاحظ خصلة شعر بقرة حمراء علقت على أغصان واحدة من الشجيرات.

بدأت بالمناداة قبل أن أرى الأبقار. فعلى هذا النحو، يمكنها أن تكون على زاوية الحفل سلفاً عند ظهوري. لكل شخص طريقته الخاصّة في الحديث مع الأبقار. يتكلّم لوي معها كما لو كانت طفلاته التي لم يحظى بها: بلطف أو شراسة، مدمدماً أو شاتماً. لا أعرف كيف أتكلّمُ معها، لكنّها تعلم الآن، وتميّز الصوت من دون رؤيتي.

كانت بانتظاري عندما وصلت. عطّلت السلك المكهرب وناديت: Venez, mes belles, venez ]تعالي يا جميلاتي، تعالي[. الأبقار مطواعة، لكنّها ترفض أن يتم استعجالها. تعيش الأبقار ببطء- يومها بخمسة أيّام من أيّامنا. وعندما نضربها، فذلك دائماً ما ينبع من نفاد الصّبر. صبرنا. وعندما يُضرَبون ينظرون إلينا بنظرة المعاناة الطويلة تلك، والتي تأخذ شكل الصّفاقة (نعم إنّها تعرف)، لأنّها توحي بخمسة دهور، لا خمسة أيّام.

مشت الأبقار متمهّلة إلى خارج الحقل عبر المسار إلى الأسفل. تقود ديلفين القطيع كل مساء، وفي كل مساء تسير إيرونديل في المؤخّرة، بينما تسير معظم البقيّة بينهما في نفس الترتيب أيضاً. يوائم هذا الانتظام صبرها بشكل ما.

بينما أدفع بورك الضعيفة منها لحثّها على المسير، شعرتُ بدفئها الهائل، كما أفعل كل مساء، يتسلّل إلى كتفي من تحت قميصي الداخلي. هيّا، قلت لها، هيّا يا توليب، بيدي على عجزها الذي برز كزاوية طاولة.

لم تُصدر خطواتها على الطّين أي صوت تقريباً. الأبقار مرهفة للغاية تجاه أقدامها: تضعها على الأرض كعارضة أزياء بأحذية بكعوب عالية من جنبٍ إلى جنب. حتّى إنّي فكّرت في تدريب الأبقار على المشي على حبلٍ مشدود عبر الجدول على سبيل المثال.

كان صوت تدفّق مياه الجدول دوماً جزءاً من هبوطنا المسائيّ. وعندما تلاشى الصّوت، سمعتْ الأبقار صوت تدفّق الماء، كأنّه صوت بصقة من دون أسنان، إلى الحوض بجانب الحظيرة، حيث سيطفؤون عطشهم. يمكن للبقرة أن تشرب ما يقارب الثلاثين لتراً في دقيقتين.

في هذه الأثناء، كنّا نسير ببطء إلى الأسفل، مارّين بنفس الأشجار التي سيّرت كل واحدة منها الممر بطريقتها الخاصّة. توقّفت شارلوت عند بقعة من الحشائش الخضراء. لكزتها فاستمرّت في طريقها. يحدث ذلك في كل مساء، إذ أستطيع رؤية الحقول التي رعتها عبر الوادي.

كانت إيرونديل تغطّس رأسها في المياه مع كل خطوة كما تفعل البطّة. أرخيتُ ذراعي على رقبتها، وفجأةً رأيتُ المساء كما هو منذ آلاف السنوات:
يسير قطيع لوي بتسرّع على الطريق بينما يثرثر الجدول إلى جانبنا. تخمد الحرارة، وتسيّرنا الأشجار، بالذباب حول أعينها، حيث الوادي وأشجار الصنوبر على القمّة البعيدة، ورائحة البول عندما تتبوّل ديلفين، والصقر الذي يسمّى "نهاية السّهل" حائماً فوق الحقل، المياه وهي تتدفّق إلى الحوض، وأنا، والوحل في قناة الأشجار، وعمر الجّبل الذي يتعذّر قياسه. فجأةً، كان كل شيء غير قابل للتجزئة، كان واحداً. ولاحقاً، سينهار كل جزء إلى قطعٍ بنَسَقِها الخاص. لكن الآن كل القطع متراصّة مع بعضها، كتراصّ بهلوان على حبل مشدود.

قال هرقليطس "لننصت، لا لي، بل للـ"لوغوس"[ii] لنجد أنّه من الحكمة الاتفاق على أن كل الأشياء واحد"، ذلك بعد 29 ألف سنة من إنجاز رسومات شوفيه.

لا يمكننا أن نجد طريقنا إلى فضاء هذه الرسومات الأولى إلّا إذا تذكّرنا هذه الوحدة والظلمة التي تكلّمنا عنها.

ليس ثمّة ما هو مؤطّر في تلك الرسومات، والأهم من ذلك أنّه ليس ثمّة ما يجتمع. لأن الحيوانات تجري ونادراً ما تُرى ضمن الصورة (التي هي في الأساس منظر لصيّاد مسلّح بشكل سيّء يسعى خلف هدفه). ومع أنّها أحياناً تعطي الانطباع أنّها ستلتقي، لكن إذا نظرنا بحذر نجد أنّها تتقاطع من دون أن تلتقي.

لا يشترك فضاؤهم بأي شيء مع منصّة المسرح على الإطلاق. فعندما يدّعي الخبراء أنّهم يستطيعون رؤية "بدايات المنظور" هنا، فإنّهم يقعون في فخّ عميق عفا عليه الزّمن. أنظمة المنظور التصويريّة هي معماريّة وحضريّة- بالاعتماد على النّافذة والباب، أمّا "المنظور" البدوي فيدور حول التعايش، لا المسافة.

يكمن في عمق الكهف، حيث يعني عمق الأرض، كل شيء: الرياح، والمياه، والنّار، والأماكن البعيدة، والموتى، والرّعد، والألم، والطرق، والحيوانات، والضوء، والذي لم يولد بعد. كان كل ذلك في الصّخر بانتظار من ينادي عليها. والبصمات الشهيرة لأيدٍ بحجمها الطبيعي أيضاً هناك (التي عندما نراها نؤمن بأنّها أيدينا)، مطبوعة بصبغ المغرة، لنلمسها ونميّز كل ما هو حاضر، والحد الأقصى للفضاء الذي يسكنه هذا الحضور.

أتت الرسومات، واحدة تلو الأخرى، إلى ذات النقطة أحياناً، بفارق سنوات أو ربّما قرون. وانتمت أصابع يد الرسومات إلى فنّانين مختلفين.


وكل الدراما التي أصبحت في الفن الذي تلاها مشهداً مرسوماً على سطح بحواف رصّت هنا إلى شبح ما خرج من الصخور لتتم رؤيته. يحتضن الحجر الجيري هذه الرسومات، وتعيرها انتفاخاً هنا، وفجوة هناك، أو خدشاً عميقاً، أو شفة متدليّة، أو خاصرة منحسرة.

ظهر الشّبح للفنّان لأوّل مرّة بشكل خفي تقريباً، متتبّعاً صوتاً بعيداً وضخماً لا يمكن تمييزه. وعندما وجده أو وجدته وتم تتبّعه إلى حيث دفع بالسّطح، السّطح المواجه لها، حيث يمكنها الآن أن تبقى مرئيّة، حتّى عندما تنسحب وتعود إلى "الواحد".

كان من الصعب أن يتم فهم هذه الرسومات بعد ما حدث آلاف السنين: جاء رأس بلا جسد، جاء رأسان واحد تلو الآخر. اختارت قائمة خلفيّة جسدها الذي كان يمتلك أربعة قوائم سلفاً، واستقرّت ستّة قرون في جمجمة واحدة.

عندما نندفع إلى السّطح، حجمنا ليس مهمّاً: يمكننا أن نكون عمالقة أو صغاراً- كل ما يهم هو مدى عبورنا للصخر.

لا تكمن دراما أول المخلوقات المرسومة إلى الجانب ولا إلى الأمام، بل إلى الوراء دائماً، في الصّخر. من حيث جاؤوا. ومن حيث جئنا أيضاً.






 *كهف شوفيه: كهف في جنوب فرنسا تم اكتشافه سنة 1994. تحتوي جدران الكهف على رسومات تعود إلى العصر الحجري الأعلى وهي محفوظة في أفضل أحوالها.

[i]ماريسا كامينو: فنّانة إسبانيّة وصدقة لجون تعاونا معاً في معرض أطلق سنة 2005. وجّه لها بيرجر عدد من النصوص بينها هذا النص.
[ii] لوغوس: مفهوم فلسفي يوناني يعدّ هرقليطس أوّل من حاول تفسيره على أنّه "القانون الكلّي للكون".

الاثنين، 6 أغسطس 2018

حديث المرسم (إلى ميكيل بارثيلو)*

ترجمة لنص Studio Talk من كتاب The Shape of a Pocket لجون بيرجر


ثمّة قصاصات من الورق متكرمشة وألقيت على أرض المرسم بين أقمشة اللوحات غير الممدودة حيث تقف. ثمّة دلاء من الأصبغة- بعضها ممزوج بالطين، وطنجرة غريبة، وقضبان فحم مكسورة، وخرق، ورسومات مهملة، وكوبان فارغان. كتب على قصاصات الورق كلمتان: وجه ومكان.

كان المرسم مصنعاً للدراجّات الهوائيّة، أليس كذلك؟ تعمل هنا بحذاء وملابس الرّسم. كان القميص والبنطال مقلّمان في الأصل. والآن، أصبح يعلوها قشرة من الأصبغة مثل الحذاء. لذلك، تخيّلتك على أنّك شخصان: واحد على وشك الانطلاق بدرّاجته، والآخر سجين.

على كل حال، الأمر الوحيد المهم بعد أن ينتهي اليوم هو ما استلقى على الأرض مرسوماً أو اتّكأ على الجدران بانتظار أن تتم رؤيته في اليوم التالي. المهم هو ما لا يكشفه الضوء المتغيّر أبداً- الأمر الذي كلّما اقترب المرء منه أكثر يخشى أنّه فقده على الأرجح.

وجه. أينما بحث الرسّام، فإنّه يبحث عن وجهه. فكل البحث والفقدان والعثور مرة أخرى متعلّق به، أليس كذلك؟ وماذا يعني "وجهه"؟ إنّه يبحث عن نظرته المرتدّة، ويبحث عن تعبيرها- علامة ضعيفة على حياتها الداخليّة. وهذا صحيح، سواءً كان يرسم كرزاً، أو عجل درّاجة هوائيّة، أو مثلثاً أزرق، أو جثّة، أو نهراً، أو شجيرةً، أو تلّاً، أو انعكاسه في المرآة.

لا تجد الصور أو الفيديوهات أو الأفلام الوجه أبداً، لكنّها تجد ذكريات عن المظاهر والشّبه بأحسن الأحوال. على النّقيض من ذلك، الوجه دائماً جديد: شيء ما لم تتم رؤيته أبداً من قبل، لكنّه، في نفس الوقت مألوف. (مألوف لأنّنا عندما ننام نحلم ربّما نحلم بمواجهة العالم كلّه الذي ألقينا به لدى مولدنا بعماء).

لا نرى وجهاً إلّا إذا نظر إلينا (مثل عبّاد شمس فينسنت). المقطع الجانبي ليس وجهاً أبداً، وبطريقة ما، تحيل الكاميرات معظم الوجوه إلى مقاطع جانبيّة.


عندما نتوقّف أمام أي لوحة غير مكتملة مثل من يقف أمام حيوانٍ ينظر إلينا. نعم، هذا صحيح حتّى بالنسبة للوحة بييتا مع ملاك لأنتونيلو دا ميسينا. اللون الكامن على أو المرسوم بفرشاة على أو يلطّخ السّطح هو الحيوان، و"مظهره" هو الوجه. لنفكّر في وجه لوحة فيرمير "منظر لديلفت". يختبئ الحيوان لاحقاً، لكنّه متواجد دائماً عندما يستوقفنا لأوّل مرّة ولا يسمح لنا بالاستمرار في طريقنا.

قصّة قديمة تعود إلى عصر الكهوف.

المكان. Lieu ]بالفرنسيّة[، Ort ]بالألمانيّة[، mestopolojenie ]بالروسيّة[. تعني الكلمة الروسيّة الأخيرة أيضاً حالة، وتستحق أن نتذكّرها.

المكان أكثر من مجرّد منطقة، أو مكان يحيط بشيء. المكان امتداد لحضور أو نتائج فعل. المكان نقيض الفضاء الفارغ. المكان حيث حدثت فيه واقعة أو تحدث.

يحاول الرسّام باستمرار أن يكتشف، وأن يتعثّر، بالمكان الذي سيحتوي ويحيط فعل الرّسم الحاضر. مثاليّاً، يجب أن تكون هناك عدّة أماكن كما توجد هناك لوحات. المشكلة أنّ اللوحة عادة ما تفشل في أن تكون مكاناً. وعندما تفشل في أن تكون مكاناً، تبقى اللوحة تمثيلاً أو زينةً- أثاثاً.

كيف تصبح اللوحة مكاناً؟ ليس من الجيّد أن يبحث الرّسام عن مكان في الطبيعة، إذ لم يجده فيرمير في ديلفت. ولا أن يبحث عنه في الفن- لأن المرجعيّات لا تصنع مكاناً- على الرّغم من اعتقاد ما بعد حداثيّون معينين. عندما يتم إيجاد مكان فإنّه يتواجد على الحدود ما بين الطبيعة والفن. الأمر أشبه بتجويف في الرمل مسحت حدوده. يبدأ الأمر بالممارسة، بشيء يمكن عمله باليدين، ثم تسعى اليدان للحصول على قبول العين، حتى يتورّط الجسد كلّه بالتجويف. هنا توجد فرصة فقط لأن تتحوّل إلى مكان. فرصة ضئيلة.
ثمّة مثالان: يبدأ التجويف في لوحة أوليبميا لمانيه، أو المكان (الذي ليس له علاقة بالمخدع الذي تستلقي فيه المرأة) في طيّات غطاء السرير لدى قدمها اليسرى.

يبدأ المكان في رسم لك لحبّة مانغا وسكّين- باللون الأسود والمقياس الحقيقي تقريباً على ورقة صفراء غمرها الغبار- عندما وضعتَ حبّة الفاكهة على منحنى نصل السكّين. في تلك اللحظة، أصبحت الورقة مكانها الخاص.


***

توارى واقع اللوحة كمكان وراء مفهوم النهضة حول المنظور، مع نزعته تجاه وجهة نظر خارجيّة، بالنسبة للكثر من النّاس على مدار عدّة قرون. فبدلاً من ذلك، قيل أن اللوحة مثّلت "نظرة" على المكان. لكنّها كانت نظريّة فقط، إذ عرف الرسّامون الحقيقة من الناحية العمليّة. إذ قلب معلّم المنظور العظيم المتأخر تينتوريتو[i] هذه النظريّة على رأسها مراراً وتكراراً.

في "حمل جسد القدّيس مرقس"[ii]، ليس للوحة كمكان علاقة بمنظور السّاحة الضخمة وأقواسها وحجارة الرصيف الرخاميّة، بل كومة جذوع الخشب العشوائيّ في منتصف عمق اللوحة، والتي سيحرق بها القدّيس. ينبع كل شيء على قماش اللوحة من ضربات الفرشاة على الأغصان الخشبيّة الملوّنة: الشخصيّات الفارّة، شعر الجمل الذي يشبه المعطف، البرق في السماء، أطراف القدّيس القصيرة. أو، بمعنى آخر، نُسِجَت شباك اللوحة الهائلة من كومة الخشب.



وبما أن ياكوبو روبوستي[iii] يلاحقنا كلانا باسم تينتوريتو، هذا مثال آخر. لم تبدأ اللوحة كمكان في لوحته "سوزانا والشيخان" الموجودة في لندن بجسدها الذي لا يضاهى، أو بمرآتها البارعة، أو بالماء الذي يصل إلى ركبتها. كلّا، اللوحة كمكان تبدأ بسياج الأزهار المصطنع مقابلها، والذي يختبئ وراءه الشيخان. عندما بدأ ياكوبو بلمس سياج الأزهار بكامل ريشته، كان يرتّب المكان الذي كان على كل شيء آخر أن يأتي إليه. استولى السياج على المشهد كضيف وسيّد.



يعلم الرّسام، بالعمل وحده، أن عليه السّكن إلى لوحته واللجوء إليها، أكثر من مجرّد القدرة على التحكّم بها من الخارج. الرسّام يعمل من خلال اللمس في الظلمة.

يتغيّر الضوء في المرسم عندما يقترب اليوم من المساء، مغيّرة أقمشة الرّسم أكثر من أي شيء يمكن رؤيته. (أكثر من ورقة مكعبلة بالكلمتين). ما الذي تغيّر بها؟ من الصعب الجزم. ربّما حرارتها وضغط هواؤها. لكنّها لا تتغيّر تحت الضوء كما تتغيّر اللوحات. يشبه كل تغيير تضاريس مألوفة خارج الباب. مثل الأماكن.

كيف يعمل الرسّام في الظلمة؟ عليه أن يخضع. عليه عادةً أن يدور في دوائر بدلاً من التقدّم. داعٍ إلى تعاون من مكان آخر. (في حالتك من الرياح، والنّمل الأبيض، ورمال الصّحراء). يبني ملجأً ليغزوا مكتشفاً كذبة الأرض. وكل هذا يفعله بالأصباغ وضربات الفرشاة والخرق والسّكين وأصابعه. هذه عمليّة لمسيّة للغاية. ومع ذلك، ما يأمل بلسمه ليس ملموساً بشكل طبيعي. هذا هو اللغز الحقيقي الوحيد. هذا هو السبب في أن البعض- مثلك- يصبحون رسّامين.

وإن ظهر الوجه، فيظهر جزء مصبوغ وملطّخ بالألوان: جزءٌ من أشكالٍ مرسومة يتم تصحيحها باستمرار، لكنّه، والأهم، أنّه الصيرورة: ما يأتي باتّجاه ما كان يبحث عنه.

لكن هذه الصيرورة ليست بعد- وهي، في الواقع، لن تكون أبداً ملموسة، كما الثيران على جدران أقمشة اللوحات لم تكن أبداً للأكل.



ما تلمسه اللوحة الحقيقيّة هو غياب- غياب ما لم نكن نعي بوجوده لولا اللوحة. وهذا سيكون خسارتنا.

يكمن بحث الرسّام المستمر في مكان يستقبل الغياب. وإذا ما وجد مكاناً، يرتّبه ويصلّي لوجه الغياب حتّى يظهر.

كما تعرف، يمكن لوجه الغياب أن يكون مؤخّرة بغل. ليست هناك هرميّة، حمداً لله.

تسأل: هل ثمّة ما تمّ حفظه؟

نعم، هذه المرّة.

جزءً ممّا يبدأ مراراً وتكراراً يا ميكيل.

*ميكيل بارثيلو (1957) فنّان إسباني عرف بطريقة رسمه الحادّة وضربات فرشاته العميقة، وجداريّاته الضخمة بوسائط فنيّة متعدّدة، وسلسلة "الكوميديا الإلهيّة" بالألوان المائيّة التي عرضت في اللوفر: http://editions.louvre.fr/en/titles/exhibition-catalogs/sites-countries/miquel-barcelola-divine-comedie.html





[i] تينتوريتو (1518- 1549) واحد من أعلام عصر النهضة في إيطاليا وواحد ممّن ساهموا فيها. اشتهر بطاقة رسمه الهائلة وسرعته وجرأته بالرّسم.
[ii] لوحة من سلسلة لوحات أنجزها تينتوريتو حول القديس مرقس في غرفة الاجتماعات في مبنى Scoula Grande di San Marco في فينيسيا.
[iii] اسم آخر عرف به تينتوريتو.

الأحد، 5 أغسطس 2018

خطوات باتّجاه نظريّة صغيرة للمرئيّ


ترجمة لنص Steps Towards a Small Theory of the Visible من كتاب The Shape of a Pocket لجون بيرجر

-إلى إيف

"عندما أنطق بالسطر الأوّل من "الصلاة الربيّة": "أبانا الذي في السماء"، أتخيّل أن الجنّة غير مرئيّة ولا يمكن الدخول إليها، لكنّها قريبة بشكل حميميّ. ليس ثمّة أمر باروكيّ في هذا التخيّل: فلا فضاء لا نهائي يحوم، ولا أوهام صور قريبة/ بعيدة مذهلة. للعثور عليها – إذا ما أُنعِم على المرء- سيكون من الضروري حمل شيء صغير في اليد كحصوة أو مملحة على الطاولة.

"ليأتِ ملكوتك" ثمّة اختلاف لا نهائي بين الجنّة والأرض، لكن المسافة تقليليّة. كتبت سيمون فيه[i] حول هذه الجملة: "تخرق هنا رغبتنا الزّمن لتجد الخلود وراءه، ذلك يحصل عندما نعرف كيف نحوّل كل ما يحدث، بغض النّظر عن ماهيته، إلى رغبة". قد تكون كلماتها وصفاً لفن الرّسم أيضاً.

تتكاثر اليوم الصور في كل مكان. لم يتواجد هذا الكم ممّا تم تصويره ومشاهدته من قبل. يمكننا اختلاس النّظر في أي لحظة إلى الكيفيّة التي تبدو بها الأشياء في الجانب الآخر من الكوكب، أو الجانب الآخر من القمر. تم تسجيل المظاهر، وانتقلت بسرعة البرق.

مع ذلك، تغيّر شيء ببراءة. كانت المظاهر تسمّى ]مظاهرَ[ ماديّة لأنّها انتمت إلى أجساد صلبة. لكنّها الآن متبخّرة. سهّلت الابتكارات التقنيّة من فصل الظّاهر عن الوجود. وهذا بالضّبط ما تحتاجه أساطير النّظام باستمرار لاستخدامه: حيث تحوّل المظاهر إلى انكسارات كالسّراب. انكسارات لا للضوء، بل للشهيّة. في الواقع، شهيّة واحدة فقط: شهيّة للمزيد.

وبالتالي- وبشكل غريب، مع الأخذ بعين الاعتبار المضامين الماديّة لمفهوم الشهيّة- الموجود، الجسد، يختفي. نعيش ضمن مشهد من الملابس الفارغة والأقنعة البالية.

خذ بعين الاعتبار أي صحيفة أو تلفزيون في أي بلد. هؤلاء المتحدّثون هم صورة آليّة مصغّرة عن اللاجسديّة. احتاج النّظام أعواماً كثيرة لاختراعهم وتعليمهم الحديث كما يفعلون.

لا أجساد ولا ضرورة- لأن الضرورة شرط الوجود. وهذا ما يجعل الواقع حقيقةً، بينما تتطلّب أساطير النّظام ما لم يصبح حقيقةً بعد فقط: الافتراضيّ، المشتريات التالية. هذا لا يُنتج في المتفرِّج حسّاً بالحريّة، كما يدّعى (ما يدعى بحريّة الاختيار)، بل عزلةً عميقة.

واجه التاريخ حتّى وقت قريب، وكل ما كشفه النّاس عن حياتهم، كل الأمثال والخرافات والحكايات الأخلاقيّة، الشيء ذاته: صّراع العيش الدائم والمخيف، وأحياناً الجميل مع الضرورة: لغز الوجود- والذي تلاه من زمن الخلق، والذي، بالتالي، دائماً ما استمر بشحذ الروح البشريّة. تنتج الضرورة المأساة والمهزلة. الضرورة هي ما تقبّل، أو تضرب رأسك به.

لم تعد هذه الضرورة في مشهديّة النّظام موجودة اليوم. وبالتالي، لم تنتقل الخبرات. ولم تبقَ إلّا المشهديّة لمشاركتها: اللعبة التي لا يلعبها أحد ويستطيع أن يشاهدها الجميع. وكما لم يحدث من قبل، على النّاس محاولة وضع وجودهم وآلامهم الخاصّة بأنفسهم في ميدان الزّمن والكون الشّاسع.

حلمتُ مرّةً بأنّني تاجر غريب: أتاجر في الهيئة أو المظاهر، أجمعها وأوزّعها. كنت اكتشفت سرّاً في الحلم بنفسي من دون مساعدة أو نصيحة.

كان السّر أنّني أدخل باطن ما كنت أبحث عنه، سواءً كان دلواً من الماء، أو بقرةً، أو مدينةً (مثل توليدو) يمكن رؤيتها من الأعلى، أو شجرة بلّوط. وبمجرّد دخولي، أرتّب مظاهرها للأفضل. لم يكن يعني "أفضل" تجميل الشيء أو جعله أكثر تناسقاً، ولم يكن يعني أيضاً جعله نموذجيّاً: حيث يمكن لشجرة البلّوط أن تمثّل كل أشجار البلّوط، بل عنى ذلك ببساطة جعلها أكثر خصوصيّة، حتّى تصبح البقرة أو المدينة أو دلو الماء أكثر وضوحاً بشكل فريد.

أسعدني القيام بذلك، وكان لدي انطباع بأن التغييرات الصغيرة التي قمت بها من الداخل أسعدتْ الآخرين.

كان سر الدخول إلى بواطن الأشياء لترتيب مظهرها بسيطاً كفتح باب أو خزانة ملابس. حينما فُتِح الباب من تلقاء نفسه، ربّما كان أمراً سهلاً كمجرّد تساؤل حول التواجد هناك. لكن عندما استيقظت، لم أستطع تذكّر كيف كان يتم ذلك، ولم أعد أعرف كيف أدخل في بواطن الأشياء.

غالباً ما يتم تقديم تاريخ الرّسم على أنّه تاريخ من الأساليب المتتالية. في عصرنا هذا، استخدم تجّار الفن ومروّجوه معركة الأساليب هذه لصنع أسماء علامات تجاريّة للسوق. يشتري العديد من مقتني الأعمال الفنيّة والمتاحف أسماءً بدلاً من أعمال.

ربّما جاء الوقت لنسأل سؤالاً ساذجاً: ما الذي تشترك فيه كل اللوحات (الرسومات) من العصر الحجري القديم ]الباليوثي[ حتّى هذا القرن؟ تعلن كل لوحة منسوخة: رأيت هذا من قبل، أو عندما تم دمج صناعة الصورة في الطقوس القبليّة: رأينا هذا من قبل. تشير "هذا" إلى المشهد المقدّم هنا. لا يستثى الفن غير التشخيصي من ذلك. إذ تمثّل لوحة متأخّرة لروثكو إضاءةً أو توهّجاً لونيّاً مستمدّاً من تجربة الفنّان مع المرئيّ. عندما كان يعمل، كان يحكم على قماش الكانفاس الخاص به وفقاً لشيء آخر رآه.

الرّسم، في المقام الأوّل، تأكيدٌ على المرئيّ الذي يحيط بنا، والذي يظهر ويختفي باستمرار. فبدون الاختفاء، قد لا يكون هناك من دافعٍ للرسم، لأن المرئيّ ذاته سيتملّك اليقين (الدواميّة) التي تسعى اللوحة لإيجادها. الرّسم تأكيد على الوجود، تأكيد على العالم المادي التي ألقيت به البشريّة بطريقة أكثر مباشرة من أي فنٍّ آخر.

كانت الحيوانات أوّل موضوع للرّسم. ومنذ البداية، ومن ثم الاستمرار عبر الفن السومري والآشوري والمصري واليوناني المبكّر، كان تصوير هذه الحيوانات حقيقيّاً بشكل مذهل. كان على عدّة آلاف من السنين أن تمرّ قبل أن يتم تحقيق تصوير "ناطق بالحياة" لجسد الإنسان. في البداية، كان الوجود ما واجه الإنسان.

كان الرّسامون الأولون صيّادين تعتمد حياتهم، مثل الجميع في القبيلة، على معرفتهم الوثيقة بالحيوانات. لكن لم يكن فعل الرّسم يشابه فعل الصّيد، فالعلاقة بين الاثنين كانت سحريّة. وجدت في عدد من رسوم الكهوف المبكّرة تمثيلات من الاستنسل[ii] لليد البشريّة بجانب الحيوانات. لا نعلم بالضّبط الطّقس الذي استدعى ذلك. لكنّنا نعلم أن الرسومات كانت تستخدم للتأكيد على "الرفقة" السحريّة ما بين الفريسة والصيّاد. أو بشكل أكثر تجريداً: ما بين الوجود والبراعة البشريّة. كان الرّسم وسيلة لتوضيح هذه الرفقة الدائمة (على أمل ذلك).

يمكن أن يستحق الموضوع التفكير فيه بعد وقت طويل من فقدان الرّسومات لقطعان حيواناتها ووظائفها الطقوسيّة. أعتقد أنّه يعلمنا بشيء حول طبيعة الفعل.

لا يأتي دافع الرسم من الملاحظة ولا حتّى من الروح (المعميّة على الأرجح)، لكن من لقاء: لقاءٌ ما بين الرّسام وموضوع الرّسم- حتّى لو كان الموضوع جبلاً أو رفّاً لقوارير أدوية فارغة. كان جبل سان فيكتوا كما يظهر من إكس (يظهر بشكل مختلف جداً من أي مكان آخر) رفيق سيزان.


عندما تكون اللوحة بلا حياة، ذلك لأن الرسّام لا يمتلك الجرأة على الاقتراب بما يكفي لبدء التعاون، باقٍ في مسافة تسمح له فقط بالنّسخ، أو، كما هو الحال في الفترات المألوفة مثل يومنا هذا، يبقى على مسافة تأريخيّة فنيّة، لاعباً الحيل الأسلوبيّة التي لا يعرف عنها موضوع الرسم شيئاً.

القرب يعني نسيان التقاليد، والسّمعة، والمنطق والتسلسل الهرمي والذّات. القرب يعني أيضاً المجازفة باللاترابط، وحتّى الجنون. لإنّه من الممكن أن يقترب أحدهم أكثر من اللازم، ثم ينهار التعاون، ويذوب الرّسام في موضوع الرّسم. أو يلتهم الحيوان الرّسام أو يسحقه بالأرض.

تظهر كل لوحة أصلانيّة تعاوناً. لننظر إلى تصوير بيتروس كريستوس الشّخصي لفتاة يافعة في متحف ستاديش ببرلين، أو المشهد البحري العاصف لكوربيه في اللوفر، أو الفأر مع باذنجانة التي رسمه شو تا[iii] في القرن السابع عشر، فمن المستحيل إنكار مشاركة موضوع الرّسم. بالفعل، اللوحات ليست في المقام الأول حول فتاة يافعة أو بحر مائج أو فأر مع حبّة خضار، بل عن هذا التعاون. كتب شيتاو، رسّام المشاهد الصيني العظيم في القرن السّابع عشر: "ريشة الرّسم هي لإنقاذ الأشياء من الفوضى".

نحن نتجوّل في منطقة غريبة، وأنا أستعمل الكلمات بشكل غريب. ثمّة بحر مائج على ساحل فرنسا الشمالي، في يوم خريفي سنة 1870، وأنا أشارك في المشهد عن طريق رؤية شخص ملتحٍ لي، وفي السنة المقبلة، سيوضع هذا الرّجل في السّجن[iv]. ومع ذلك، لا توجد طريقة أخرى للاقتراب من الممارسة الفعليّة لهذا الفن الصّامت، والذي يوقف كل ما يتحرّك.


العين سبب وجود المرئي: تطوّرت العين حيث كان ثمّة ضوء كافٍ لأشكال الحياة المرئيّة أن تصبح أكثر وأكثر تعقيداً وتنوّعاً. فألوان الأزهار البريّة، مثلاً، هي الألوان التي وجدت بها لكي يُنظر إليها. وتظهر السّماء الفارغة باللون الأزرق بسبب بنية أعيننا وطبيعة النّظام الشّمسي. ثمّة أساس كينونيّ معيّن للتعاون ما بين موضوع الرّسم والرّسام. كتب سيليسيوس، طبيب عاش في القرن السابع عشر بـ"فروتسواف"، عن العلاقة الاتّكاليّة ما بين المرئي والمشاهدة بطريقة صوفيّة:

الوردة التي تتأمّل لبّ عينك
وتتبرعم في أبديّة الله

يسأل الرّسام: كيف أصبحتِ ما تظهرين عليه؟
يجيب الجبل أو الفأر أو الطفل: أنا كما أنا عليه، أنا أنتظر. ماذا تنتظر؟
أنتظرك أنت، إن تخلّيت عن كل شيء آخر.
إلى متى؟
متى يستغرق الأمر من الوقت.
ثمّة أمور أخرى في الحياة.
اعثر عليها وكن أكثر طبيعيّةً.
وإذا لم أفعل؟
سأعطيك ما أعطيته لغيرك، لكنّه بلا قيمة، إنّه ببساطة الجواب على سؤالك غير المجدي.
غير مجدٍ؟
أنا ما أنا عليه.
لن تعدني بأكثر من ذلك؟
كلّا. يمكنني الانتظار إلى الأبد.
أود الحصول على حياة طبيعيّة.
إذاً عشها ولا تعوّل عليّ.
وإذا عوّلت عليك؟
إنسَ كل شيء، وستجدني في داخلي.

نادراً ما يقوم التعاون، الذي يتبع أحياناً، على النيّة الحسنة، إذ عادة ما يقوم بشكل أكثر على الرّغبة، أو الغضب، أو الخوف، أو الشفقة أو الحنين. الوهم الحداثي المتعلّق بالرّسم (والذي لم يفعل ما بعد الحداثيون شيئاً لتصحيحه) هو أن الفنّان خالق. بل الفنّان مستقبل. وما بدا على أنّه خلق، هو في الواقع فعل إعطاء شكل لما كان قد تلقّاه.

جاءت بوجينا وروبرت[v] وشقيقه فيوتك لقضاء الأمسية لأنها كانت رأس السنة الروسيّة. حاولت أن أرسم بوجينا وأنا أجلس على الطاولة وهم يتكلّمون بالروسيّة. لم تكن تلك أوّل مرة، لطالما فشلت لأن وجهها متحرّك بنسبة كبيرة وأنا لا أستطيع نسيان جمالها. وإذا كنت تريد الرّسم بشكل جيّد، يجب عليك نسيان ذلك. غادروا بعد وقتٍ طويل من انتصاف الليل. وعندما كنت أعمل على رسمي الأخير، قال لي روبرت: هذه آخر فرصة لك الليلة، ارسمها جون، ارسمها وكن رجلاً.

عندما غادروا، أخذت أقل الرسومات سوءاً وبدأت أعمل عليها بألوان الآكريليك. وفجأة، مثل دوّارة الريح التي تدور حول نفسها بسبب تغّير الريح، أصبح البورتريه يبدو مثل شيء ما. أصبح "شكلها" الآن في ذهني- وكل ما عليّ فعله الآن هو استخلاصه، لا البحث عنه. تمزّقت الورقة. كنت أحياناً أدعك الألوان بكثافة ككثافة المرهم. بدأ الوجه في الرابعة صباحاً يلائم، يبتسم بوجه، تمثيله الخاص.

في اليوم التالي، كانت قطعة الورق الضعيفة، والي ترزح تحت ثقل الألوان، لا تزال تبدو جيّدة. وفي ضوء النّهار، كانت هناك فروقات طفيفة في درجات اللون يجب تغييرها. تنزع الألوان التي يتم رسمها في الليل لليأس- كالأحذية التي يتم خلعها من دون حلّها تماماً. والآن أصبحت جاهزة.

كنت أذهب من وقتٍ إلى آخر خلال النّهار لأنظر إليها، وكنت أشعر بالانتشاء. هل لأنّني أنجزت رسماً صغيراً كنت مسروراً به؟ بشقّ الأنفس. جاءت النشوة من مكان آخر: جاء من مظهر الوجه- كما لو كان خروجاً من الظّلمة. جاء من حقيقة أن وجه بوجينا قد أهدى ما يمكن أن يتركه من نفسه وراءه.

ما هو الشبه؟ يترك الناس وراءهم عندما يموتون، لمن يعرفونهم، فراغاً، فضاءً: الفضاء لديه ملامح مختلفة لكل متفجّع. هذا الفضاء وملامحه هو شبه الشخص، وهو ما يبحث عنه الفنّان عند صنع بورتريه حيّ. الشبه هو شيء ترك بخفاء.

كان سوتين واحداً من أعظم رسّامي القرن العشرين. احتاج ذلك 50 عاماً ليكون أمراً واضحاً، ذلك أن فنّه كان تقليديّاً وغير مشذّب، فأساء هذا المزيج لكل الأذواق التي اتّبعت الموضة. كان الأمر كما لو كانت لوحته تتكلّم بلكنة ثقيلة ومحطّمة، كما كانت تعتبر لثغاء، وفي أفضل الأحوال: تنتمي لبلاد غريبة، وأسوأها: بربريّة. واليوم، أصبح تفانيه في الوجود أكثر مثاليّةً فأكثر. كشف قليل من الرسّامين مثله عن رسوم نابض بالحياة أكثر من أنّها تعاون، ضمني في فعل الرّسم، ما بين موضوع الرّسم والرسّام. إذ تشبّثت شجر الحور، والجثث، ووجوه الأطفال على قماش لوحات سوتين بريشته.

كتب شيتاو، إذا ما اقتبسناه مرة أخرى:

"اللوحة نتيجة لاستقبال الحبر: الحبر منفتح على الفرشاة: الفرشاة منفتحة على اليد: اليد منفتحة على القلب: كل ذلك بنفس الطريقة التي تولِّد السماء فيها ما تنتجه الأرض: كل شيء نتيجة التلقّي".

عادةً ما يقال عن الأعمال المتأخّرة لتيتان أو رامبرانت أو تيرنر بأن تعاملهم مع الألوان أصبح أكثر تحرّراً. وعلى الرّغم من أن ذلك، بمعنىً ما، صحيح، إلّا أنّه يمكن أن يعطي انطباعاً خاطئاً عن التعنّت. في الواقع، أصبح هؤلاء الرّسامون في شيخوختهم أكثر تكراراً، وأكثر انفتاحاً على جاذبيّة "موضوع الرسم" وطاقته الغريبة. كان الأمر كما لو أن أجسادهم تتساقط عنهم.

حين يفهم مبدأ التعاون، يصبح معياراً للحكم على الأعمال بأي أسلوبٍ كانت، بغض النّظر عن حرّيتها بالتعامل. أو بالأحرى (لأن الحُكم لا علاقة له بالفن)، لأنّها تمنحنا الرؤية بشكل أكثر وضوحاً لسبب تأثرنا باللوحات.

رسم روبينز محبوبته هيلين فورمينت عدّة مرّات. كانت تتعاون أحياناً، ولا تتعاون أحياناً أخرى. وعندما لم تكن تتعاون، كانت لا تزال مثالاً فنيّاً، وعندما فعلت، نحن أيضاً في انتظارها. هناك لوحة لورود في مزهريّة لموراندي (1949) حيث تنتظر الورود كالقطط حتّى تدخل مجال رؤيته. (هذا أمر نادر جدّاً بالنسبة لمعظم لوحات الورود التي بقيت على نقاء مشهديّتها). هناك بورتريه لرجل رسمت على خشب قبل ألفي عام، والذي نستطيع الشعور بتعاونه حتى الآن. هناك لوحة لأقزام رسمها فيلاثكيث، كلاب رسمها تيتان، منازل رسمها فيرمير، حيث نستطيع تمييز طاقة "الرغبة في ألّا تتم رؤيتها".

يذهب الناس بشكل أكبر مع الوقت إلى المتاحف لمشاهدة اللوحات دون أن يخيب أملهم. ما الذي يذهلهم؟ إذا كان الجواب: الفن، أو تاريخ الفن، أو تقدير الفن، فإنّنا تخطّينا ما هو جوهري برأيي.

نأتي، في المتاحف الفنيّة، في مجال رؤية حقب أخرى تمنحنا الرفقة. نشعر بالوحدة بشكل أقل وطأة بمواجهة ما يظهر ويختفي أمامنا كل يوم. تستمر كثير من الأمور بالتشابه: الأسنان، والأيدي، والشّمس، وسيقان النساء، والسّمك، في عالم تتعايش وتتآخى فيه كل الحقب الزمنيّة، سواءً كانت مفصولة بقرون أو آلاف السّنين. وعندما لا تكون الصورة المرسومة نسخة، بل نتيجة عن حوار، ستتحدّث اللوحة إذا ما أنصتنا.

بما يتعلّق بالمشاهدة، كان جوزيف بويز نبيّ النّصف الثاني من قرننا[vi] العظيم، وكانت أعمال حياته بمثابة استعراض، ومطالبة بنوع التعاون الذي أتكلّم عنه. فإيماناً بأن الجميع يمتلكون القدرة على أن يكونوا فنّانين، تناول مواضيع ورتّبها بطريقة تبدو وكأنّها تتوسّل للمشاهد بأن يتعاون معها، ليس بالرّسم هذه المرّة، بل بالاستماع إلى ما تخبره به أعينهم وبالتذكّر.

أعرف عدد قليل من الأشياء أكثر حزناً (حزناً وليست مأساويّة) من فقدان حيوان لرؤيته. فعلى النقيض من البشر، لا يترك للحيوان لغة مساعدة يستطيع من خلالها وصف العالم. يستطيع الحيوان، إذا كان على أرضٍ مألوفة، أن يجد طريقه عن طريق أنفه. لكنّه جرّد من الوجود، ومع هذا التجريد يبدأ بالتضاؤل حتّى يصبح ما يفعله أكثر قليلاً من النوم، وهناك ربّما سيصطاد حلماً كان موجوداً فيه من قبل.

تنظر الماركيز دو سورسي دو تيلوسون، التي رسمها دايفيد العام 1790، مباشرة إليّ. من كان يستطيع التنبّؤ في وقتها بالعزلة التي يعيشها النّاس اليوم؟ العزلة التي يتم التأكيد عليها يوميّاً بواسطة شبكة من صور زائفة وبلا جسد عن العالم. لكن زيفها ليس خطأً. إذا تم اعتبار السعي نحو الرّبح هو الوسيلة الوحيدة لخلاص البشريّة، فالعائد يصبح أولويّة مطلقة، وبالتالي، لا بد من إهمال أو تجاهل أو إخضاع الوجود.

محاولة رسم الوجود اليوم هو فعل مقاومة يحرّض على الأمل.






[i] :Simone Weilفيلسوفة وناشطة سياسيّة وعالمة روحانيّات فرنسيّة. ترجم لها محمّد علي عبد الجليل نصوصاً في موقع معابر السّوري http://www.maaber.org/indexa/al_dalil_fe.htm#Simone_Weil

[ii] قالب من المعدن أو الورق يتم تفريغه على الأشكال المراد رسمها أو تلوينها على سطح ما.
[iii] يشير بيرجر إلى الرّسام على أنّه Tchou-Ta. وبما أنّه لا يوجد مرجع باللغة اليابانيّة، فالأرجح أنّه الرّسام الياباني Chu Ta الذي عاش في القرن السابع عشر (1626 – 1705) https://www.amazon.fr/Chu-Ta-G%C3%A9nie-Trait-1626/dp/2859405925

[iv] يشير بيرجر هنا إلى سجن غوستاف كوربيه بعد انهزام في كوميونة باريس التي استلمت الحكم لمدة قصيرة (18 آذار/ مارس – 28 أيّار/ مايو 1871) على يد الجيش الفرنسي النّظامي. أنهى كوربيه حكمه بعد أقل من عام، ثم فرّ إلى سويسرا خوفاً من الملاحقة ومات فيها بعد 5 سنوات (1877).
[v] بوجينا وروبرت من أصدقاء بيرجر في فرنسا. كانا ضمن الأسماء التي أهداها جون كتاب “Here is Where We Meet”.
[vi] القرن العشرين. من الواضح أن بيرجر كتب هذا النص قبل نشره في الكتاب بسنوات (2003).