الخميس، 28 يوليو 2011

السادسة والنصف

منذ ثلاثة أيام وأنا أستيقظ منتشياً في الساعة السادسة والنّصف صباحاً. أنهض بطاقتي كلها؛ عضلاتي ترجف من النشوة، وقلبي يدقّ بعنف لا أستطيع معه أن أميّز إن كنت سعيداً أو مفزوعاً. أنظر إلى موبايلي وأعرف أن فيه ثمّة مخرج إلى حياة أتناسل بها على هيئة رجل سعيد ومنفعل. أنظر إلى الباب وأعرف أن وراءه ثمّة حديقة تفكّر بقمصان خفيفة وقطط خمسة. أنظر إلى الكتب على الطاولة المغبرّة وأعرف أن فيها ثمّة سليم بركات بقضيب صغير ومؤلم. أنظر إلى النوم وأدخل فيه ناسياً كل ما نمت من أجله.


حين يغلبني النوم،
أقول وداعاُ للمنزل
وأضع في قلبي
كل ما لا يستطيع الإبحار فيه.


تشارلز سيميتش

الجمعة، 22 يوليو 2011

Jesus' Blood Never Failed me Yet

بينما كان Gavin Bryas يعمل على تأليف موسيقى لفيلم تسجيليّ عمّن يعيشون في المناطق المهملة ببريطانيا للمخرج Alan Power، كان العديد من المخمورين يقتحمون مواقع التصوير وهم يغنّون. غنّى بعضهم مقاطع من الأوبرا، أغانٍ شعبيّة، وكان بعضهم يرتجل أغانيه. إلى أن أتى عجوز وغنّى Jesus' Blood Never Failed me Yet.
لم يستخدم آلان الأغنية في الفيلم، لكن غافين حصل على الكاسيت الذي سجّلت عليه الأغنية، ولاحظ أثناء الاستماع إليها في المنزل أن البيانو مدوزن عليها، ليرتجل لحناً مرافقاً. ولأنه لاحظ أيضاً أن أول جزء من الأغنية يمكنه أن يعاد بلا توقّف “Loop” بشكل يصعب توقّعه، أعاد تسجيل الأغنية على كاسيت، ناوياً أن يسجّلها بمرافقة أوركسترا كاملة.
استولت الفكرة على غرافين، الذي كان وقتها يدرّس في قسم الفنون بجامعة ليستر. في إحدى المرّات، ترك الكاسيت لينسخ، وذهب ليشرب فنجاناً من القهوة تاركاً باب الاستوديو، الذي يطلّ على محترف للرسم، مفتوحاً.
عندما عاد، لاحظ أن المحترف الذي تغمره الحياة هادئاً على غير العادة. الناس تتحرّك بهدوء، وجلس بعضهم على الأرض يبكون.
مات المغنّي قبل أن يستمع إلى الأغنية التي صدرت في اسطوانة (1977) بـ74 دقيقة. ولاحقاً في التسعينيّات، سجّل توم وايتس صوته مرافقاً الأغنيّة.


متلازمة ستوكهولم

تخلّفت عن دفع إيجار المنزل لثلاثة أشهر حتى الآن. لا أعرف كيف حصل ذلك. كأنّني كنتُ أركض بحياتي بخطين متوازيين: "أ. ز" الذي يعمل ويكدح طيلة النهار في ورشات الميكانيك، و"أ. ز" الذي يدّعي أنّه سليل مقاهي وبارات عمّان. ورغم أنّني استقلتُ من عملي في الورشة، إلا أنني مهووس بمراقبة ردود فعل أصدقائي، الذين تصدر عنهم رائحة جميلة أضطّر معها لتجنُّب الالتصاق بأحدهم، عندما يعرفون عملي الحقيقيّ.

كنتُ أركض بحياتي بخطّين متوازيين: أحدنا كان ينهي عمله ويذهب إلى تيرتل غرين بملابسه الباهتة من الغسيل السيء والسريع، والآخر كان يتسلّل إلى المنزل في آخر الليل كي لا يصطاده "أبو وائل".

بنى "أبو وائل" البناية في أواخر التسعينيّات، بعد أن تقاعد من عمله كمترجم في السعوديّة. حمل الستّينيّ نموذجه الكادح في الخليج ليموت في بنايته التي خصّص منها شقّتين لأولاده: "وائل" المصاب بمرض عصبيّ، أظنّه التوحّد، يمنعه من العمل، و"أحمد" الذي يحتل منصباً إداريّاً في مصنع بسحاب.

لا تستحق شخصية "أحمد" أن تملأ فراغ جسده ومحيطه. لكن توتّر "وائل" المستمرّ في ارتجاف جسده وطريقة كلامه، إضافة إلى شعره الرمادي وبياض بشرته الباهت وعلاقة كل ذلك بداستن هوفمان في فيلم Rain Man، يغمرني في كل مكان أجده به بالصدفة.

وكثيراً ما أصادفه.

مرتدياً قميصاً وبنطلوناً فاتحي اللون. يتمتمُ وينظر إلى الأرض وهو يصعد الشارع القائم بزاوية حادة إلى البناية. يمشي بخطوات صغيرة ومتوتّرة بصورة لولبيّة: من يمين الشارع إلى يساره. أو حاملاً شنطةً في الجامعة الساعة السابعة والنصف صباحاً، يحييني ويبرّر وجوده بأنه ذاهب إلى المكتبة ليقرأ. أو على باب البناية ملقياً عليّ التحيّة بالاسبانيّة، متحدّثاً عن سعادته بفوز ماريو فارغاس يوسّا بنوبل الآداب.

بعد فترة، أخبرني "أبو وائل" أن إيجار شقّتني يذهب مباشرة إلى يد "وائل". هذا ما جعلني أشعر بأنني، بشكل ما، مسؤول عن توفير حياة الأخير. لم تتغيّر علاقتنا. حتى وهو يتّصل بي مطالباً بالإيجار بكل خجل. أو عندما يرسل لي مسجاً يتمنّى لي فيها مساءً سعيداً. لكن بعد أن تخلّفت عند دفع الإيجار، أمرني "أبو وائل" بألا أتحدّث مع أحد غيره، على أن تكون العلاقة مباشرة معه.

لم أعد أتلقّى هواتف "وائل" ولا مسجاته. وأصبحنا نكتفي بالإيماء عندما نلتقي، كأنّ شرخاً حدث بيننا. شعرتُ بالذّنب لأنني اعتقدتُّ أنّه أراد صديقاً يمكنه أن يساعده ويتحدّث معه بنفس الوقت. 

لم أعد أسمع أخباره. إلى أن أخبرني "أبو وائل" أن زوجته أنجبت طفلاً ثانياً، وأنّها تعرّضت لنزيف أثناء الولادة. في الواقع، لا تلبث أن تتحوّل المكالمة اليوميّة التي يطالبني بها بالإيجار إلى حفلة تذمّر من كل شيء: الأحفاد الذين جاؤوا مع بناته من دبيّ، الهاتف الذي أتاه بنص صلاة الجمعة يطالبه بـ1700 دينار، المياه التي لا تأتي من البلديّة بموعدها، الجو الحار، النباتات التي تموت رغم كلّ شيء، وزوجته التي ماتت رغم كل شيء.

هذه الشكاوى تتحوّل إلى عبء كبير عندما نتحدّث أمام باب شقّته. حينها، يتعاظم شعوره بالاستسلام والكبت والحاجة إلى البكاء.

في إحدى المرّات التي أوصلتني بها "تاء" إلى المنزل، تحدّثنا عن الكآبة التي تسيطر على حياتنا رغم خطوط الدّفاع الكثيرة التي نحفرها حول مساحات إشغالنا الخاصّة. أخبرتها وقتها أنّنا ببساطة بحاجة إلى الآخرين، رغم أنّني لم أكن مقتنعاً بذلك. ولكي أذهب لأبعد من مجرّد المناقشة، أخبرتها عن فيلم Crash، وكيف تشعر فيه الشخصيّات بالحاجة إلى الآخر في مدينة قاسية مثل لوس أنجيليس. الحاجة إلى الآخرين تتعاظم من الكبت وادّعاء القوّة، حتى لا يجد أحدهم طريقة للتواصل مع الآخرين إلا بالتصادم.

لاحقاً، أخبرتني "تاء"، ونحن في نفس الطريق، صامتين وكئيبين، بأنّ ما قلته لها موجع. معترفةً ضمنيّاً بأنّه صحيح.

ربّما لذلك، تجرّأتُ على اقتحام مساحة "أبو وائل" الخاصّة، وشعرتُ بالحاجة لأن أضع يدي على كتفه. عندما فعلتُ ذلك ونحن نتحدّث أمام باب منزله سكتَ فجأةً، ولم يعد قادراً على النظر إليّ.

كنتُ في تلك اللحظة سجّاناً قرّر أن يتعاطف مع ضحيته. وهكذا، كنتُ دوماً سجّان حياتي.

الخميس، 21 يوليو 2011

الحتّة القاسية

أوكي. لندّعي أنّنا ما زلنا معاً. وأنّ ما حصل تلك الليلة أنّك "شلتي الحتة القاسية بقلبي وأكلتيها"* ليس أكثر. لنّدعي أنّني سأيقظك غداً في الساعة السابعة وعشرة دقائق. وأنّنا سنتحدّث قبل ذلك على السكايب، ونلعب لعبة السجائر. لطالما كنتُ أصفن بطريقة تدخينك. كيف تحملين السيجارة من نصف فلترها البنّي وتضعين الباقي في زاوية البنّ من شقّ شفتيك. كنتُ أصفن كثيراً بمرآة نفسي. أصفن حتى يحمرّ خدّاك. كأنني أراكِ لأول مرة. أو كأن نجمةً ميّتةً، مثل تلك التي تلمعُ فوق شعري غير المغسول، تنظرُ إلى ماضيها. كان كل الإرهاق والتوتّر الذي يغمر أعصابي ينسحب بسرعة إلى حيث تتعبين. إلى حيث يمكنني أن أراكِ وأنتِ ترفعين السيجارة من نصف فلترها البنّي وتحرّكين يدكِ وتدندنين أغنية نسعمها سويّاً. لندّعي أنّني لا أزال أفكّر في شكل قدميك على الأرض. أنّني أفكّر فيما إذا كنتِ حافية لتتحرّك مخيّلتي، أو أنّك ترتدينَ صندلاً لتتحرّك يداي. لندّعي أنّنا نتفاوض على فرد شعركِ بعد الساعة الواحدة صباحاً. لندّعي أن كوافيراً ثرثاراً ينتظر وراء الباب بسشوار أحمر. لندّعي أنّنا نستقيل من أعمالنا، ثم نخطّط لخراء الأيّام التي سنشحد بها. أنّنا سنكون أكثر حريّة. لندّعي أنّكِ الآن لستِ على الجيميل ولا الماسنجر ولا تويتر ولا الفيس بوك ولا سكايب. أنّكِ غداً ستضعين ذراعكِ على ركبتي، وأنّني سأتحسّس طرف لسانك بلساني عندما تذهب "تاء" إلى الحمّام. أنّ جسد حسين البرغوثي يُجرُّ من غرفته إلى المشرحة على عربة بعجلات صدئة فقط في مخيّلتنا. وأن كميليا جبران لا تزال ترتدي بناطيل واسعة. لندّعي أن "قلبي كهف مفتوح"، وأنّ "الحلوة فهمت"**.

وعندما يحصل كل ذلك، لندّعي أنّ ذلك الشّرخ لم يحصل إلا هنا، بالضبط، حيث يؤلمك. وهنا بالضبط، حيث يرتطم مكعّب ثلج في جوفي كلّما فكّرتُ فيكِ.



*من قصيدة لعبد الرحمن الأبنودي. بتصرّف.
** من أغنية "ثلاثين نجمة" لفرقة صابرين.

الثلاثاء، 19 يوليو 2011

نادي الله يشرب معنا بيرة*




*الجارة وهي تصفق باب السيارة التي أعادتها إلى بيتها الثالثة صباحاً

الليل دا زيّ عطيل، وكل شيء ديدمونة

أكتب، أترجم، أدقّق، أحرّر، أنسّق، أراسل زميلاً في تونس، وأبعثُ بنسخة مترجمة إلى زميل آخر في الدينمارك. وأكاد أن أرسل إيميلاً إلى صديق ودود بذيل حصان لا أتخيّله ببالي إلا بخدّين حمراوين، ودود جداً، ودرافت البيرة التي لا تنتهي بيده الجميلة. أفكّر في أن أعدّل ميلان صورة فرانسوا ساغان أمامي لكنني لا أريد. ولولا أنني أسندتُّ أضخم إصيص لنبتة ميّتة على الباب المخلوع، لكنتُ استقبلت كل القطط القذرة في الشارع، وكل ما نسِيَتْ أن تأكل. أقول لنفسي: عندما أنتهي من كل هذا سأنزل وألمّ الخردة. القمر شبه مكتمل وأصفر. حينئذٍ فقط، سأتذكّر فاسلاف هافل وهو يكتب لزوجته من السجن: "سأكون سعيداً لسماع الأشياء تسمى بأسمائها مرة أخرى".
وعندما أصل إلى المنزل لن أستحمّ. سأخلع ملابسي كلها، وأستلقي على السرير وأقرّر، للمرة الثالثة عشرة، بأنني سأتخلّص من عبوة الواقي الذكريّ المستعملة في اليوم التالي.

* العنوان من قصيدة لصلاح جاهين

وغلّقت الأبواب

قبل قليل دخلت إلى الحمّام. أغلقتُ "الأبواب الكثيرة" كما تسمّيها ورائي كي لا تلحق بي إحدى القطط الخمسة وتخترق غرفة النوم. وبينما كنت أفتح الباب الثاني أو الثالث، استطاعت "ميمي" أن تدخل بنعومة من المسافة الضيّقة. ومباشرة، قفزت على السرير وأخذت تصرخ بوجهي. حملتها ناوياً أن أخرج بها لأجد أنها استسلمت تماماً إلى صدري: يديها على كتفيّ، وقدميها على بداية معدتي المتضخّمة. أما رأسها فكان مرمياً على رقبتي. كدتُ أبكي لأنني لم أقترب منها منذ أشهر، وشعرت أنها بحاجتي. فتحت الباب ليتسعنا نحن الاثنين، ووضعتها على الأرض بجانب أبنائها الثلاثة وشريكها. أقفلت الأبواب الكثيرة ورائي، وبدأت أتذمّر من كثرة الأبواب التي يجب أن أغلقها كي أكون وحدي.



هناك الآن، حيث تسقط الكسرة الأولى
عن المائدة
تحسبُ أن أحداً لا يسمعها
عندما ترتطم بالأرض.
لكن في مكان ما
بدأت النمال تعتمرُ
قبعاتها الخاصة
وانطلقت لزيارتك.

تشارلز سيميتش