الاثنين، 30 سبتمبر 2019

حادث غرق | كورماك مكارثي


ترجمة القصة القصيرة A Drowning Incident | كورماك مكارثي

حالما صُفِق منخل الباب، دار حول زاوية المنزل ليبتعد عن الأنظار، ثم ركض إلى مخزن الحطب وجعله بينه وبين المنزل. كان الطفل غافياً. لكنّه لن يذهب بعيداً. واقفاً هناك في ظل شجرة الخرنوب التي وصلها.
كانت بعض الدبابير تطنّ جيئةً وذهاباً في ظل حواف السطح وهي تجتاز طريقها إلى ما وراء السقيفة وعبر البوّابة التي فصلت ما بين الشجيرات المهملة، حيث وصل، وبين رقعة الأرض حول المنزل الخارجي القديم. فتح الباب المتعفّن بحذر، إذ كانت ألواحه مغلّفة بمخمل ناعم من الصّدأ الأخضر الشاحب. كان لوح من الألواح مخلوعاً من الخلف مفسحاً المجال لعمود رقيق من الضوء بالانطواء عبره.
كان المعطف القديم الذي جاء به إلى سوزي هنا لا يزال على الأرض، حيث لحق بها في اليوم الأوّل الذي ظهرت فيه نحيلةً وهي تهزّ ذيلها، وحين لم تعد تجرّ جرودها على الأرض. كان المعطف مغطىً ببقعة من الشعر الأبيض، وبقيت آثار رائحة خافتة للحليب الذي شربته الجراء. إذ كانوا قد رحلوا إلى منزل جديد الأسبوع الماضي. دخل إلى المنزل وحدّق في الحفرة، وبينما كانت عيناه تعتادان الظلمة، كان بإمكانه رؤية مثلثين أحمرين صغيرين تلامست رأسيهما.
كان هناك صرصور قابع على الأرض لدى زاوية كعبه وهو يؤرجح مستشعراته بأقواسٍ عشوائيّة. رآه ومد يده ليمسك به لكنّه قفز ليرتطم بمقدّمة المقعد ويسقط على الأرض مرّة أخرى. دعس عليه بسرعة ثمّ التقطه. كان لا يزال يركل ساقاً بإيقاع نوّام بطيء، ورشح منه سائل أبيض سميك. رماه في الحفرة وانحنى لمشاهدته. كان يمكنه أن يراه وهو يتمايل بهدوء في الشبكة المرنة. شقّت الأرملة السوداء طريقها تجاهه بخيوطها، وعندما وصلته بدأت تنسج شباكها حوله بأرجلها كما لو كانت تؤدّي طقساً أخيراً. سرعان ما توقّفت ساق الصرصور عن الحركة. ثم انحنى إلى الأمام قليلاً، وأطلق من لسانه قطرة كبيرة من اللعاب الذي وصل إلى الأوراق السرخسيّة من تحته، ليتحوّل من اللون الأبيض إلى الرّمادي في الظلمة المتدرّجة. تجمّدت العنكبوت. ضبط تصويبه لتسقط الكرة اللعابيّة هذه المرّة على هدفها لتغمر جسدها. هربت العنكبوت بضحيّتها إلى ظلمات الأنبوب البالي مخلّفة خيوطاً رفيعة من اللعاب الذي علق في حلقات مخاطيّة بين خيوط الشبكة.
ثم نهض ودفع الباب الخرب بحذر. كانت الشمس في تشعّ عبر أشجار البلّوط على الجانب البعيد من المنزل، ولمعت بعض طيور أبو زريق بين أوراقها. تردّد للحظة قبل أن يعود من نفس الطريق إلى زاوية رقعة الأرض تلك. هنا حيث عبر الشجيرات التي تقبع وراء شبك على شكل خلايا النحل، وبدأ بالسير عبر الغابة. لم يمر وقت طويل حتّى وصل إلى طريق عربات قديم يلتوي بهدوء تحت ضوء الصباح عبر الأشجار التي ترشح بالندى. اختار الطريق إلى أسفل التل ومشى وهو يقلّب أوراق الأشجار ليظهر أسفلها الرّطب. توقّف مرّة واحدة لينتزع قبضة من أوراق رابيت توباكو ويحشوها في فمه، قبل أن يسير في طريقه ويبصق وكتفيه النحيلين تتموّج برشاقة.
التفّ الطريق بزاوية إلى أسفل التل حتّى وصل إلى حافّة الغابة حيث استقام لبرهة قبل أن يفقد مساره في المستنقع القذر الذي امتدّ على صفّ أشجار الصفصاف والحور القطنيّة التي حدّت سير الجدول. كان لا يزال بإمكانه الشعور بما تبقّى من الطريق تحت قدميه بينما كان يخوض في الحشائش العالية، أو يمشي بمحاذاة شجيرات العلّيق المتفرّقة. ثم كان يزيل  أغصان الصفصاف بألوانها الليموني والذهبي بينما كانت تظهر في طريقه وتتحوّل ألوانها تحت الشمس. حتّى آنذاك، كان بإمكانه سماع خرير السائل الخافت حتّى قبل أن يظهر من بين الصفصاف، حيث يعبر الجسر ملامساً تذرّي المياه المخرّم الأخضر وراءه، حيث تكسّرت أشعّة الشمس وتراقصت على السطح المُشاش كنحل فضيّ. 
سار على الجسر الصغير وهو يخطو بحذر. إذ كانت الألواح الخشبيّة متشقّقة وذابلة، ويعلوها بياض يكاد أن يكون رماديّاً معدنيّاً. تقهقر البناء برمّته بشكل خطير في المنتصف كأنه بغلٌ يحمل كل ما قدر أن يحمل. جلس على الألواح الدافئة، ثم تمدّد على بطنه وأطل فوق الحافّة لينظر إلى المياه من تحته. كان الجدول ضحلاً وصافياً. كانت أرضيّة المياه مزركشة باللونين البنّي والذهبي كفهدٍ مختبئ حيثما تسرّبت الشمس عبر الأوراق والأغصان فوقه. وانجرفت سمك المنوة عبر التيّار البطيء. وشاهد عبر الماء الزجاجي الظلال الصغيرة وهي تذرع ظهر الفهد متموّجةً بهدوء كأنّها تطير. عثر على حصىً بيضاء صغيرة لدى مرفقيه، فدفعها على السّمك، حيث التفّت وهي تلمع ببطء إلى السّطح لتلحق بالحصى الصغيرة التي توقّفت لدى نبات المحلاق القليلة قبل أن ترتفع وتختفي. هرع سمك المنوة لتفحّص الأمر. طوى ذراعيه تحت ذقنه. ومنحته الشمس التي أشعّت، عبر الفانيلا، على ظهره شعوراً جيّداً بالدفء.
ثم ومع تدفّق التيّار بنعومة من تحت الجسر، تدحرج جرو صغير مصطدماً بطريقه على طول قاع الجدول ليفقد توازنه ويسقط في الجدول البطيء. وراقبه من دون أن يعلم ماذا يجري. ودار حول نفسه ببطء ليحدّق فيه بعيون لا ترى وهو يدير بطنه الأبيض لأشعّة الشّمس المنتشرة برفق، وتتصلّب أرجله مقاوماً الغرق. انجرف مع التيّار، واختفى للحظة في حزام من الظل، ثم ظهر لينزلق تحت فضّة سطح المياه المسبوغة ثم اختفى. 
نهض بسرعة وهزّ رأسه وأخذ يحدّق في الماء. ذرعت سمك المنوة التيّار كأنّها صواريخ معطّلة، وتزحلق عنكبوت مائي على السّطح.
كانوا باللونين الأسود والأبيض، كانوا باللونين الأسود و.. ما عدا واحداً أسود بالكامل. عبر الجسر وغادره، ثم توقّف. عندما التفت توسّعت عيناه وابيضّت. عاد وانطلق عبر الجدول على طول الطريق الذي انحنى فوق الضفاف الجرفيّة، باحثاً في المياه وهو يمشي. جرت أخاديد صغيرة عبر ممرّات من نبات البقلة المغمورة بالمياه لتتدفّق في مجرى الجدول، على طول الصخور حيث نبتت معرشّات متعقّدة. اندفعت جرادة بحر من تحت ساق شجرة حور متشابكة. وقبعت فردة حذاء يتعذّر تفسير وصولها هنا في بركة من المياه.
كان التيّار يحوم بشكل أسرع لدى انحناء الجدول أسفل المكان الذي يمر أسفل الجسر المستدق، وكانت المياه عميقة. ومن أثر انعطاف الجدول، كانت الشمس الآن في عينيه ولم يتمكّن من الرؤية في الماء. سارع إلى القمّة واجتاز جسراً خسرانيّاً صغيراً، وشقّ طريقه نزولاً إلى الجانب الآخر بعصىً. وعندما وصل إلى الجدول كان يقف على ضفّة عالية، حيث يرتطم التيّار ويهدر بشكل مفاجئ، وحيث تتموّج المياه وتلتوي. وفي الأسفل، في أعماق المياه المكفهرّ، كان بإمكانه رؤية كيس داكن من الخيش. فجلس ببطء مخدّراً ومكروباً. وبينما كان يحدّق، ظهر رأس صغير من فتق في الكيس. انكفأ بهدوء للحظة، ثم ظهر شيء صغير بالأبيض والأسود مسحوباً من زاوية التيّار وهو مجعّد كأنّه ولد للتو. كان ذلك يشبه مشاهدة ولادةً تحت الماء لكائنات رائعة. تمايل متردّداً لبرهة قبل أن يستدير ليختفي عن مجال الرؤية في التيّار السريع. 
لم تكن ثمّة دموع، فقط شعور بالفراغ الهائل الذي، عندما جلس هناك، انزاح ليأخذ مكانه شعوراً متزايداً بالغضب. وقف حينئذٍ وسحب غصناً طويلاً من شجرة صفصاف وبدأ يضربه به ركبته محاولاً أن يفلقه إلى قسمين، لكنّه كان قاسياً، وبعد فترة استسلم. شق طريقه عائداً عبر الأغصان إلى الطريق وإلى الجانب الآخر حيث كان ثمّة سياج. مشى على طوله حتّى وجد سلكاً مفكوكاً. بدأ بجذبه وثنيه حتّى تحرّر الطرف الصدئ. عاد إلى الجدول وقد ثنى طرف السلك ليحاول أن يصطاد الكيس من قاع الجدول. لم يستطع التحكّم بالسلك لطوله، وكان التيّار سيسحبه معه. أخذه الأمر نصف ساعة قبل أن يشبك السلك بالكيس. لفّ السلك في بده، وعندما سحبه تبعه الكيس الثقيل والرّخو. حمله إلى الضفّة ورفعه بحذر إلى الشاطئ. صدرت عنه رائحة فاسدة وكريهة. وعندما فتحه كان هناك جرو واحد داخله فقط، وكان ذلك الجرو الأسود وهو ملتف حول نفسه بين حجرين، وكانت جرادة بحر تحفر طريقها عبر بطنه الناعم والرطب. ربط سلكه بجرادة البحر وسحبها للخارج، ما أخرج وراءها أنبوباً من الأحشاء الخضراء المتعفّنة. حاول دفع الأحشاء إلى الداخل بمقدّمة حذائه. عاد إلى الطريق مرّة أخرى مستكشفاً الخنادق على جانبه حتّى وجد كيساً ورقيّاً ليعود ويضع فيه الجثّة الصغيرة بأصابع مرتبكة. ثم اندفع عابراً الأجمّة الكثيفة ليصل إلى الساحة ليعبرها قطريّاً ويدخل الغابة على بعد بضع ياردات فقط من طريق العربات. سار في الطريق، وكانت الحقيبة الصغيرة القذرة تتأرجح على جانبه. كان يمشي، بعينين فارغتين، بشكل آلي وكأنّه يسير في نومه.
عندما وصل إلى المنزل، أسرعت سوزي عبر الفناء لملاقاته. تجنّبها ودخل من الباب الخلفي ليغلقه بحذر وراءه. توقّف ليستمع في المطبخ. لكن المنزل كان هادئاً، حتّى أنّه كان قادراً على سماع قلبه وهو يخفق بصوتٍ عالٍ. ملأ ضوء دافئ الألواح الزجاجيّة التي كانت فوق الحوض. ثم سمعها تسعل- كانت تسعل دائماً- وأنصت عن قرب. كانت في الحمّام. أنصت لدى الباب ثم واربه بهدوء. كانت الستائر مسدلة، وحيث ضربتها الشمس، تخضّبت بتوهّج برتقالي شاحب تخلّل الهواء الذي ترطّن برائحة نتنة وحميميّة لبول الطفل الخافتة، ورائحة البطانيّات.
وقف في المدخل لدقيقة. وما دفعه للقيام بالحركة القادمة كان تتويجاً لجميع المخطّطات التي بدأت بالاختمار، ليس فقط أثناء المسير من الجدول، لكن من لحظة مجيء الطفل. تصارعت وطفت عدد لا يحصى من الأفكار المرفوضة أو المنقّحة أو المنكرة في مكان ما من خبايا عقله الداخلي. رفع الكيس المنتّن ونظر إليه. كان يرشح بالماء، وعبر تشقّقاته من الأسفل نتأت شعيرات سوداء كسيقان عنكبوت. بعد التفكير في الأمر، لم يبدُ أنّه قام بعبور الغرفة إلى سرير الطفل في الزاوية، إذ قام بإخراج البطانية الزرقاء، وألقى الجرو إلى جانب الجسد الصغير والمتغضّن النائم، وفرد البطانيّة عليهما. تذكّر أنّه شاهد الأحشاء الخضراء وهي تنزّ على الشرشف بينما كانت البطانية تنطوي.
بقي ينتظر عودته إلى المنزل مع اقتراب موعد العشاء. يجلس الآن في على سريره وهو يفكّر بجدار بلا أبعاد يحتوي فقط على شكل رمادي يتجدّل كبصمة ضخمة ويتذبذب ببطء. ذهبت أمه مرّة واحدة إلى الغرفة بهدوء، لكن الطفل لم يستيقظ. بقي ينتظر عودته إلى المنزل. 

الجمعة، 27 سبتمبر 2019

المحيط | جون شيفر



ترجمة القصة القصيرة The Ocean | جون شيفر


أدوّن هذه المذكّرات لأنّني أعتقد أنّني في خطر، ولأنّه لا توجد طريقة أخرى لتوثيق مخاوفي. لا يمكنني إبلاغ الشركة بمخاوفي كما سترون، ولا يمكنني الوثوق بأصدقائي. ومع أنّ الخسائر التي تكبّدتها في احترامي لذاتي، والعقلانيّة واللطف واضحة، لكن دائماً ما يكون هناك غموض مؤلم حول من يقع عليه اللوم. قد ألوم نفسي. دعوني أقدّم لكم مثالاً. جلست الليلة الماضية لتناول العشاء مع زوجتي كورا في السادسة والنصف. كانت ابنتنا الوحيدة قد غادرت المنزل، لذلك نحن نأكل هذه الأيّام على طاولة مزيّنة بإناء فيه سمكة ذهبيّة في المطبخ. كانت الوجبة تتكوّن من لحم خنزير بارد، وسلطة، وبطاطا. وعندما تناولت ملعقة كاملة من السلطة اضطررت لبصقها. قالت زوجتي: "آخ نعم. خشيت أن يحدث هذا. تركتَ سائل تعبئة الولّاعة في خزانة المونة وظننت أنه الخل".

كما كنتُ أقول: من يقع عليه اللوم؟ إذ لطالما كنتُ حريصاً على وضع الأغراض في أماكنها، ولو كانت تقصد أن تسمّمني لن تفعل أمراً أخرقاً مثل وضع سائل تعبئة الولاعة في تتبيلة السلطة. لو لم أترك السائل في خزانة المونة لما وقعت هذه الحادثة. لكن دعوني أستكمل للحظة. فخلال العشاء هدرت عاصفة رعديّة، واسودّت السّماء. وفجأة هطل مطر غزير. بمجرّد انتهاء العشاء، ارتدت كورا معطفاً واقياً من المطر وقبّعة استحمام خضراء وخرجَت لريّ الحديقة. نظرت إليها من الشبّاك، حيث بدت غافلة عن جدران المطر المهلهلة التي وقفت فيها، وروت الحديقة بعناية وهي تتأنّى لدى البقع المحترقة. كنت أخشى من أن تفضح نفسها أمام أعين الجيران. لتتّصل المرأة في المنزل المجاور بالمرأة في المنزل على الزاوية لتقول لها بأن كورا فراي كانت تسقي حديقتها تحت المطر الغزير. استمالتني الرغبة في أن تصبح مثار سخرية الجيران إلى جنبها، على الرّغم من أنّني عندما اقتربت منها تحت مظلّتي أدركت أنّني أفتقر إلى المهارة التي تمكنّني من تجاوز الموضوع بلباقة. ماذا يجب علي أن أقول؟ هل يجب علي القول أن صديقة ما على التلفون؟ لم يكن لديها أصدقاء. قلت: "تعالي يا عزيزتي، قد يضربك البرق".

قالت بصوتها الأكثر موسيقيّة: "أوه أشكّ في ذلك". إذ تتحدّث هذه الأيّام في الأوكتاف الذي يقع فوق C المتوسطة.

سألت: "ألا تنتظرين حتّى يقف المطر؟".

ردّت بعذوبة: "لن يدوم طويلاً. لا تدوم العواصف الرعديّة طويلاً أبداً".

عدت إلى المنزل تحت مظلّتي وسكبت لنفسي مشروباً. كانت محقّة، فبعد دقيقة تبخّرت العاصفة واستمرّت بري العشب. لم يجانبها بعض الصواب في كلتا الحادثتين، لكن هذا لا يغيّر من شعوري بأنّني في خطر.

آه يا هذا العالم العالم العالم العجيب والمحيّر، متى بدأت مشاكلي؟ أكتب هذه الكلمات في منزلي في بوليت بارك. الساعة 10 صباحاً. اليوم هو الثلاثاء. ربّما تتساءلون عمّا أفعله في صباح يوم من أيام العمل في بوليت بارك. فالرجال الآخرين الذي بقوا في منازلهم هم 3 رجال دين، منهم اثنان لا يقدران على العمل، ورجل هرم في شارع تيرنر كان قد فقد عقله. يتمتّع الحي بالصفاء وسكون تضاريسه، حيث علّقت جميع عمليّات التوتّر الجنسيّة- باستثناء توتّري الجنسي بالطبع، إضافة إلى الرجال الثلاثة. ما هو عملي؟ ماذا أفعل؟ لماذا لم أستقل القطار؟ أنا رجل معافى أبلغ السادسة والأربعين سنة وهندامي حسن، ولدي معرفة أكثر شمولاً بتصنيع وتسويق دينافليكس من أي شخص آخر في هذا المجال بأكمله. تكمن إحدى أصعب التحديات في مظهري الشاب. إذ يبلغ محيط خصري 30 إنشاً، ولدي شعر أسود كالفحم، وعندما أقول للناس أنّني كنت نائب الرئيس المسؤول عن البيع والمساعد التنفيذي لرئيس دينافليكس- عندما أخبر الغرباء بذلك في البارات والقطارات لا يصدّقونني لأنّني أبدو شابّاً للغاية.

كان السيّد إيستابروك، رئيس دينافليكس، والذي كان، بطريقة ما، راع لي، بستنجيّاً شغوفاً. وبينما كان يتأمّل زهوره بإعجاب في بعد ظهر أحد الأيّام، قرصته نحلّة طنّانة، ومات قبل أن يتمكّنوا من إيصاله إلى المستشفى. كان بإمكاني الحصول على الرئاسة، لكنّني أردت البقاء في قسم البيع والتصنيع. بعد ذلك قام المدراء- بمن فيهم أنا بالطبع- بالتصويت لمصلحة الإندماج مع شركة ميلتونيوم المحدودة، وتعيين رئيس ميلتونيوم، إريك بينومبرا، على رأس الشركة. قمت بالتصويت لمصلحة الإندماج مع بعض المخاوف التي أخفيتها لأقوم بالجزء الأكثر أهميّة لتهيئة هذا التغيير. كانت مهمّتي تتمثّل في الحصول على موافقة المساهمين المتحفظّين والمتردّدين، وحصلت عليهم بالفعل موافقةً تلو الأخرى. إذ ساهمت حقيقة أنّني عملت في دينافليكس منذ أن أنهيت الجامعة، وأنّني لم أعمل في مكان آخر، في نيل ثقتهم. وبعد أيّام قليلة من حصول الاندماج، دعاني بينومبرا إلى مكتبه وقال: "حسناً لقد حصل الأمر".

قلت: "بالفعل" وأنا أعتقد أنّه يطري على حصولي على الموافقات. كنت قد سافرت إلى جميع أنحاء الولايات المتّحدة، وقمت برحلتين إلى أوروبا. لم يكن هناك من يستطيع فعل ذلك.

قال بينومبرا بقسوة: "لقد حصل الأمر. كم يلزمك من الوقت لتخرج من هنا؟".

قلت: "أنا لا أفهم".

صرخ قائلاً: "كم من الوقت يلزمك لتغرب عن هنا؟. أنت موظف بالٍ، ولا يمكننا تحمّل كلفة أشخاص مثلك في المحل. أنا أسأل عن الوقت الذي يلزمك لتخرج من هنا".

قلت: "سيستغرق ذلك حوالي ساعة".

قال: "حسناً لديك حتّى نهاية الأسبوع. إذا أردت أن ترقّي سكرتيرتك سأطردها. أنت محظوظ للغاية. فبراتبك التقاعدي، وتعويضات نهاية الخدمة والأسهم التي تملكها، ستأخذ معك إلى المنزل مبلغاً قريباً ممّا سآخذه من دون الحاجة لأن ترفع إصبعاً واحداً". ثم نهض من وراء مكتبه إلى حيثما أقف. وضع ذراعاً حول كتفيّ. وعانقني. قال بينومبرا: "لا تقلق. التقادم أمر علينا أن نواجهه جميعاً. آمل في أن أكون هادئاً مثلك حين يحين وقتي".

قلت: "آمل بالفعل أن تفعل ذلك"، وغادرت المكتب.

ذهبت إلى الحمّام، وحبست نفسي في حجرة وبكيت. بكيت على خيانة بينومبرا، بكيت على مصير دينافليكس، بكيت على مصير سكرتيرتي العانس الذكيّة، والتي تكتب قصصاً قصيرة في أوقات فراغها، وبكيت بمرارة لسذاجتي، لقلّة دهائي، بكيت لأنّه يجب أن تغمرني حقائق الحياة البسيطة. وفي نهاية النصف ساعة، جففت دموعي وغسلت وجهي. أخذت كل ما يخصني من المكتب، واستقلت قطاراً إلى المنزل وأخبرت كورا بالخبر. كنت غاضباً بالطبع، وبدت خائفة. بدأت بالبكاء. تهاوت على منضدة زينتها، والتي كانت بمثابة حائط المبكى على جميع سنوات زواجنا.

قلت: "لكن ليس ثمّة ما تبكين عليه. أقصد أنّه لدينا الكثير من المال. لدينا الكثير من المال. ويمكننا الذهاب إلى اليابان. يمكننا الذهاب إلى الهند. يمكننا أن نرى الكاتدرائيّات الإنجليزيّة". استمرت بالبكاء، وبعد العشاء اتّصلت بابنتي فلورا التي تعيش في نيويورك. قالت عندما أخبرتها: "متأسّفة بابا. متأسّفة جدّاً، أعرف كيف تشعر، وأريد رؤيتك لاحقاً، لكن ليس الآن. تذكّر وعدك- فقد وعدتني أن تتركني وحدي".

الشخصيّة التالية التي ستدخل المشهد هي حماتي التي تدعى ميني. ميني شقراء تمتلك صوتاً خشناً وتبلغ سبعين عاماً تقريباً، وتمتلك أربعة ندوب على جانب وجهها من أثر عمليّات التجميل. لربّما رأيت ميني تتجوّل حول محلات نيمان- ماركوس أو في بهو أي فندق غراند. تستعمل ميني كلمة "عالموضة" بتنوّع كبير. فعن انتحار زوجها العام 1932 تقول ميني: "كان القفز من الشبّاك عالموضة". وعندما طرد ابنها الوحيد من المدرسة الثانويّة بسبب سلوك غير لائق وذهب للعيش في باريس مع رجل يكبره في السن، قالت ميني: "أعرف أن الأمر مثير للاشمئزاز، لكن يبدو أنّه عالموضة". وعن قبّعتها الفظيعة المليئة بالريش تقول: "غير مريحة أبداً، لكنّها عالموضة من الله". ميني قاسية وباردة، وابنتها الوحيدة كورا تكرهها. صاغت كورا طبيعتها على غرار نقيض ميني. فهي امرأة محبّة، وجادّة، ورصينة، وطيّبة. وأعتقد أنّه من أجل الحفاظ على فضائلها- آمالها الفعليّة- اضطرت كوراً إلى ابتداع حياة خياليّة حيث لا تكون أمّها ميني، بل سيّدة حكيمة وكريمة وتطرّز في طوق. يعلم الجميع كيف يمكن أن تكون الخيالات مقنعة وغدّارة.

أمضيت اليوم التالي لطردي من قبل بينومبرا وأنا في المنزل. فبعد إغلاق مكاتب دينافليكس في وجهي، فوجئت عندما اكتشفت أنّه لم يكن لدي مكان آخر تقريباً أذهب إليه. فالنادي الذي أنتمي إليه كان ملحقاً بالجامعة حيث يقدّمون غداء الكافتيريات، وليس هذا ملاذاً بحق. لطالما أردتُّ قراءة كتب جيّدة، وبدت أنّها فرصتي. أخذت نسخة من شوسير إلى الحديقة وقرأت نصف صفحة، لكنّه كان أمراً صعباً على رجل أعمال. قضيت ما تبقّى من الصباح وأنا أعشّب الخس، ما أثار اعتراض البستنجي. كان جو الغداء مع كورا متوتّراً لسبب ما. وبعد الغداء أخذت كورا غفوة. وكذلك فعلت الخادمة كما اكتشفت عندما دخلت إلى المطبخ لأشرب كأس ماء. كانت مستغرقة في نومها ورأسها على الطاولة. جعلني سكون المنزل أشعر بشعور غريب للغاية. لكن العالم كان متاحاً أمامي بكل تحوّلاته وترفيهه، فاتصلت بنيويورك وحجزت تذاكر لعرض مسرحي في ذلك المساء. لا تستمتع كورا كثيراً بالمسرح لكنّها جاءت معي. بعد المسرحيّة ذهبنا إلى فندق سان ريجيس لتناول العشاء. عندما دخلنا المكان كانت الفرقة تستعد لإنهاء وصلتها وهي ترفع أبواقها وترفرف أعلامها عالياً، وكان لاعب الطبل يضرب كل ما وصلت إليه يده بجنون. وفي منتصف قاعة الرقص كانت ميني تهزّ مؤخّرتها وتنقر بقدميها، وتطقطق بإبهاميها. كانت مع عاهر مكسور الجناح، والذي ظل ينظر نظرة يائسة وراءه، كما لو كان ينتظر مدرّبه أن ينهي المباراة. كانت قبّعة ريش ميني رائعة بشكل استثنائي، وبدا وجهها شاحباً بشكل استثنائي، وكان الكثير من الناس يضحكون عليها. كما كنت أقول، يبدو أن كورا اخترعت أمّاً جليلة، لذلك كانت هذه المواجهات مع ميني قاسية. التفتنا وخرجنا من المكان. ولم تقل كورا شيئاً خلال طريق عودتنا الطويل.

لا بد أن ميني كانت جميلة في زمنها. ورثت كورا عيناها الكبيرتان وأنفها الجميل من أمّها. تأتي ميني لزيارتنا مرتين أو ثلاث مرات في السنة. ليس هناك من شك أنّنا سنقفل المنزل ونغادر لو كانت تعلن عن موعد وصولها. تتمتّع بقدرة بارعة ونهمة على إلحاق البؤس بابنتها، وهكذا، تحرص على أن تجعل من وصولها إلى منزلنا أمراً مفاجئاً. قضيت بعد ظهر اليوم التالي في محاولة قراءة هنري جايمس في الحديقة. وفي حوالي الساعة الخامسة سمعت سيّارة تتوقّف أمام المنزل. بعد ذلك بقليل بدأت تمطر، ودخلت غرفة الجلوس لأرى ميني واقفة لدى النافذة. كانت الدنيا معتمة، ولم يشأ أحد أن يشعل الضوء. هتفت: "يا ميني، كما هو لطيف أن أراكِ، يا لها من مفاجأة سارّة. دعيني أحضر لك مشروباً".

أشعلت الضوء ورأيت أنّها كانت كورا.

التفتت إلي ببطء بتلك النظرة البليغة من الشك المطلق. ربّما كانت ابتسامة لو لم أعلم أنّني جرحتها بشكل مؤلم، لو لم أشعر بتدفّق مشاعرها كما يتدفّق الدم من جرح. قلت: "أوه أنا آسف للغاية يا حبّي، لم أكن قادراً على الرؤية". خرجت من الغرفة. قلت: "كانت الدنيا مظلمة. أظلمت الدنيا فجأة عندما هطل المطر. أنا آسف جدّاً، لكنها كانت مظلمة والمطر". سمعتها وهي تصعد الدرج وتغلق باب غرفتنا.

عندما رأيت كورا صباحاً- ولم أراها مرّة أخرى قبل الصباح- ومن تلك النظرة المؤلمة على وجهها، كان بإمكاني معرفة أنّها اعتقدت أنّني تظاهرت بأنّها ميني. أفترض أنّها أصيبت بأذى عميق ودائم مثلما أصبت بذات الأذى عندما وصفني بأنّني بالٍ. في هذه المرحلة، صار صوتها أعلى بأوكتاف، وتحدّثت معي- عندما كانت تتحدّث معي أصلاً- بنوتات موسيقيّة مرهقة، وكانت نظراتها العابسة تتّهمني. ربّما لم أكن لألاحظ أيّ من هذا لو كنت أنغمس في العمل وأعود متعباً في المساء. كان تحقيق توازن صحّي بين الحركة والاستقرار أمراً مستحيلاً تقريباً بعد أن تقلّصت فرصي في الحركة فجأة. تابعت برنامجي للقراءة الجادة، لكنّني كنت أقضي أكثر من نصف وقتي في مراقبة أحزان كورا وأشغال منزلي غير المنظّمة. جاءت خادمة بدوام جزئي أربع مرّات في الأسبوع، وعندما رأيتها تكنس الغبار تحت السجّاد وقيلولتها في المطبخ غضبت. لكنّني لم أقل شيئاً عن الأمر، لكن العلاقة الكيديّة نشأت بيننا بسرعة. كان الأمر نفسه مع البستنجي. فإذا جلست على الشرفة للقراءة، سيأتي لجزّ العشب تحت الكرسي الذي أجلس عليه، وكان يستغرق يوماً كاملاً، بأربعة دولارات في الساعة، لجزّ العشب، على الرّغم من أنّني أعلم أنهّ يمكن القيام بذلك في وقت أقصر من هذا بكثير حسب تجربتي. أمّا بالنسبة لكورا، فقد رأيت كم كانت حياتها فارغة وخالية من الأصدقاء. فلم تخرج لتناول الغداء مع أحد. ولم تلعب الشدّة. كانت تعتني بالزهور، وتذهب إلى مصفّف الشعر، وتنمّ مع الخادمة وتنام. أصبحت أصغر الأشياء تغضبني وتغيظني، ولطالما أغاظني انفعالي غير المنطقي بشكل مضاعف. أغضبني صوت خطوات كورا الناعمة والبريئة وهي تتجوّل بلا هدف حول المنزل. حتّى أنّني اغتظت من طريقة حديثها. كانت تقول: "يجب عليّ أن أحاول العناية بالأزهار. يجب عليّ أن أحاول شراء قبّعة. يجب عليّ أن أحاول تصفيف شعري. يجب عليّ أن أحاول العثور على دفتر أصفر". وتقول وهي تغادر طاولة الغداء: "الآن عليّ أن أحاول الاستلقاء تحت الشمس". لكن لماذا تحاول؟ انسكبت الشّمس من السماء على الشّرفة، حيث كانت هناك مجموعة من قطع الأثاث المريحة، ثم بعد دقائق قليلة من استلقائها على الكرسي الطويل كانت نائمة. وعندما تستيقظ من غفوتها تقول: "عليّ أن أحاول ألّا أتعرّض لسفع الشمس". وتقول وهي تدخل المنزل: "والآن عليّ أن أحاول الاستحمام".

قدت سيارتي بعد ظهر أحد الأيّام لأشاهد قطار الساعة 6:32 وهو يصل إلى المحطّة. كان هذا القطار الذي اعتدت العودة فيه إلى المنزل. ركنت سيّارتي في صف طويل من السيّارات التي يقدن غالبيتها ربّات منزل. كنت متحمّساً كثيراً. لم أكن أنتظر أحداً، وكانت النساء من حولي ينتظرن أزواجهن فقط، لكن بدا لي أنّنا جميعاً في انتظار أكثر من مجرّد ذلك. نصب المسرح على ما يبدو. ووقف بيت وهاري، سائقا التكاسي، بجانب سيارتهما. ووقف معهم كلب بروكستونس من فصيلة آيرلدايل وهو يتجوّل حولهم. كان السيّد وينترز، مدير المحطّة، يتحدّث مع لويزا بالكولم، مديرة مكتب البريد، والتي تسكن في منزل على بعد محطّتين. هؤلاء، إذن، هم اللاعبون الحاضرون، الحمّالون الثرثارون ومثيرو الإشاعات، والذين سيرسون أسس المسرحيّة. بقيت أراقب ساعتي. وصل القطار ثم بعد لحظات اندفع الناس كالانفجار عبر أبواب المحطّة بكثرة وحرص، مثل البحّارة العائدين إلى منازلهم من البحر، على عجل، ومحبّة كثيرة، حتّى أنّني ضحكت بسرور. توجّهوا جميعهم، القصير والطويل، الغني والفقير، الحكيم والأبله، أصدقائي وأعدائي، خارج الباب بخطوة صغيرة تترك أثراً مرحاً إلى درجة عرفت معها أنّني يجب عليّ الانضمام إليهم. أود أن أعود إلى العمل ببساطة. جعلني هذا القرار أشعر بالبهجة والشهامة، وعندما عدت إلى المنزل بدت تحيّتي البهيجة معدية للحظة. إذ تكلّمت كورا لأوّل مرّة منذ أيّام بصوت زخم ودافئ، لكنّني عندما أجبتها قالت، موسيقيّاً: "كنت أتحدّث مع السمكة الذهبيّة". كانت تفعل ذلك فعلاً. فقد كانت الابتسامة الجميلة التي حجبتها عنّي موجّهة لإناء السمكة، وتساءلتُ عمّا إذا كانت تركت العالم بأضوائه ومدنه وصراع الأشياء مقابل هذا الجسم الزجاجي وقلعته الغبيّة. وأنا أراها وهي تنحني بحنان فوق إناء السمكة، تكوّن لدي انطباعٌ واضح بأنّها نظرت بشوق إلى هذا العالم الآخر.

في الصباح ذهبت إلى نيويورك، واتّصلت بالصديق الذي كان دائماً ما يثني على عملي مع دينافليكس. قال لي أن آتي إلى مكتبه مع انتصاف اليوم- قدّرت أنّه موعد الغداء. قلت له: "أريد العودة إلى العمل، أريد مساعدتك". 

قال: "طيّب الموضوع ليس بسيطاً. الموضوع ليس بسيطاً كما يبدو. بدايةً، لا يمكنك توقّع الكثير من التعاطف. فكل الذين يعملون في المجال يعرفون كم كان بينومبرا سخيّاً تجاهك. سيكون معظمنا سعداء لأن يكونوا مكانك. أعني، هناك بعض الحسد الطبيعي. لا يحب النّاس مساعدة رجل وضعه مريح أكثر من وضعهم. الأمر الآخر هو أن بينومبرا يريدك أن تبقى متقاعداً. لا أعرف لماذا، لكن ما أعرفه أن أيّ شخص كان قد ساعدك سيواجه المشاكل مع ميلتونيوم. ولأصل إلى الحقيقة البغيضة، أنت بالفعل عتيق جدّاً. يبلغ مديرنا 27 سنة. ومدير أكبر منافسينا في أوائل الثلاثينيّات من عمره. فلماذا لا تستمتع بحياتك؟ لماذا لا تأخذ الأمور بسهولة؟ لم لا تسافر حول العالم؟". ثم سألته بتواضع شديد ما إذا لو استثمرت في شركته لنقل 50 ألف دولار- هل يمكنه إيجاد وظيفة لي؟  ابتسم ابتسامة عريضة. وبدا كل شيء سهلاً. وقال بلطف: "سآخذ الخمسين ألفاً بسرور. لكن فيما يتعلّق بإيجاد وظيفة لتشغرها أخشى أن..". ثم جاءت سكرتيرته لتقول بأنّه تأخّر على الغداء.

وقفت في زاوية شارع كما لو أنّني أنتظر ضوء الإشارة الأخضر، لكنّنا كنت أنتظر فقط. كنت مذهولاً. وما أردت فعله هو أن أحمل لافتة أدوّن عليها من الجهتين جميع مظالمي. حيث سأصف خيانة بينومبرا، وأحزان كورا، والإهانات التي تلقّيتها من الخادمة والبستنجي، وكيف خرجتُ من مجرى الأمور بقسوة بدع الشباب وقلّة الخبرة. أودّ أن أعلّق هذه اللافتة على كفيّ وأتظاهر جيئةً وذهاباً أمام المكتبة العامة من الساعة التاسعة وحتّى الخامسة، وأنا أوزّع منشورات تحتوي على معلومات أكثر تفصيلاً على المهتمّين. ثم تهب عاصفة ثلجيّة، وتعصف الريح، ويتكسّر الرعد، أردتّ أن يكون مشهداً معتبراً. 

ثم دخلت إلى مطعم في شارع جانبي لتناول مشروب وأتغدّى. كان واحداً من تلك الأماكن التي يتناول فيها الرجال الوحيدين مأكولات بحريّة ويقرؤون الجريدة المسائيّة، وحيث، على الرغم من انتشار الضوء الخفيف والموسيقى البعيدة، كان يبدو مكاناً خارجاً على القانون. كان كبير النادلين شخصيّة منفعلة كما لو أنه اقتطع من شارع كورسا دي روما. كان يجرّ أقدامه جرّاً وهو يضرب الأرض بكعب حذائه الإيطالي، ويحني كتفيه كما لو كانت سترته صغيرة. وكان يتحدّث مع السّاقي بحدّة، والذي همس بعدها لنادل آخر: "سأقتله. سأقتله في يوم من الأيّام".

همس النادل: "سنقتله معاً، أنا وأنت". انضمّت فتاة المعاطف إلى التهامس. أرادت أن تقتل المدير. تفرّق المتآمرون عندما رجع كبير النادلين، لكن الجو بقي ثائراً. شربت كوكتيلاً وطلبت سلطة، ثم سمعت صوت رجل متحمّس في الحجرة بجواري. ولم يكن لدي شيء لأفعله إلّا الاستماع. قال: "رحت مينيابوليس. لازم أروح مينيابوليس، وأوّل ما وصلت الفندق وإذا التلفون بيرن. كانت بدها تقلّي إن المي الساخنة مش شغّالة. أنا هنا في مينيابوليس، وهي هناك في لونغ آيلاند وبتتصل فيّ بمكالمة دوليّة لتقولي إنه سخّان المي الساخنة مش شغّال. بعدين سألتها ليش ما اتصلتي بالمواسرجي، بعدين بلّشت تبكي. بلّشت تبكي بمكالمة دوليّة لخمسة عشر دقيقة لأنّي اقترحت إنها تتصل بالمواسرجي. عالعموم، في هون بمينيابوليس محل مجوهرات ممتاز اشتريتلها منّه حلق. من الياقوت. كلّفني 800 دولار. ما بقدر أتحمل تكلفة هيك أمور، لكنّي ما بقدر أتحمّل تكلفة ما أهديها هدايا. قصدي، بقدر أربح 800 دولار بعشر دقايق، بس محامي الضرائب قاللي ما أصرف أكتر من ثلث اللي بربحه، عشان هيك هاد الحلق اللي حقّه 800 دولار كلّفني 2000 تقريباً. على أي حال اشتريت الحلق، ورح أعطيها إياه لما أوصل البيت، بعدين بنروح على حفلة في بيت بارنستيبل. ولما نرجع، كانت ضيّعت فردة حلق. وما بتعرف وين ضيّعته. ومش فارقة معها. وولا حتّى رح تحكي مع عائلة بارنستيبل حتّى يشوفولها إذا لقوه على الأرض. بس لا، ما بدها تزعجهم. ولما أبلش أحكي إنه زي اللي بيرمي مصاري بالنار بتبلّش تبكي وتحكي إنه الياقوت أحجار باردة- وإنها بتعبّر عن برودي تجاهها. وبتحكي إنه مش حاسّة بحب من الهديّة- وإنها ما كانت أهديت بحب. وقالت إني بس كان علي أروح على محل المجوهرات وأشتريهم. وما كلفوني أي مراعاة أو عاطفة. بعدين بسألها إذا بتتوقّع منّي اقعد أصنع الحلق- إذا بتتوقّع منّي أشترك بدورة مسائيّة وأتعلّم كيف بتنعمل أساور الفضّة الغبيّة؟ وأقعد أطرق. بتعرف، يعني مع كل طرقة بتهب رياح الحب والمودّة. هاد اللي بدها إيّاه ملعون دينها؟ وهاي كانت كمان ليلة بنام فيها بغرفة الضيوف".

بقيت آكل وأستمع. انتظرت رفيق الغريب ليدخل في المحادثة لإبداء نوعاً من التعاطف أو الموافقة، لكن لم يفعل، وتساءلت للحظة عمّا إذا كان يتحدّث مع نفسه. التففت برقبتي حول حافة الحجرة، لكنّه كان في الزاوية البعيدة. استكمل قائلاً: "عندها مصاري إلها، وأنا بدفع عنها الضرائب، وهي بتصرفهم عالملابس. عندها مئات ومئات من الفساتين والكنادر، وثلاث معاطف فرو، وأربعة باروكات. أربعة. أمّا إذا أنا اشتريت بدلة بسمع منها مية كلمة. لازم أشتري ملابس من وقت للتاني. قصدي ما بقدر أروح عالمكتب وشكلي زي المتشرّدين. بس إذا اشتريت أي شغلة فأنا بضيّع المصاري. السنة الماضية اشتريت مظلّة عشان ما أتبلّل. تضييع مصاري. السنة اللي قبلها اشتريت جاكيت خفيف. تضييع مصاري. ما بقدر حتّى أشتري اسطوانة لإني عارف رح أسمع مية كلمة. تخيّل إنّه براتبي ما بنقدر ناكل لحم خنزير مقدّد عالإفطار إلا أيام الآحاد. اللحم مقدّد تضييع مصاري. بس لو شفت فواتير تلفوناتها. عندها صديقة من أيام كانوا زميلات بغرفة وحدة بالجامعة. عالأغلب كانوا قراب من بعض. وهلق هي عايشة بروما. ما بحبها. كانت متزوجة من شخص لطيف جدّاً كان صديقي، بس حطّمته. وتخلّصت منه. طيب هي عايشة بروما، وفيرا بتضل تتصل فيها. كانت فواتير الشهر الماضي لمكالمات روما أكثر من 800 دولار. حكيتلها: "فيرا إذا بدك تحكي مع صاحبتك هالقد، ليش ما تسافري على روما؟ رح يكون أرخص". قالت: "ما بدي أسافر على روما، بكره روما. كلها ضجّة وزبالة".

"بس بتعرف لما أفكر بماضي وماضيها كمان بلاقي إنه جذور اللي عم يصير موجود من زمان. كانت جدتي امرأة متحرّرة جدّاً، وكانت رأيها واضح بموضوع حقوق المرأة. لما كان عمر أمي 32 سنة دخلت كلية الحقوق ودرست محاماة رغم إنها ما مارستها أبداً. قالت وقتها إنها درست محاماة عشان يكون في أمور مشتركة مع والدي، لكن اللي عملته فعلاً هو إنّها دمّرت الحنيّة الخفيفة اللي بقيتلهم. ما كانت تضل بالبيت تقريباً، ولما تكون كانت دايماً تدرس لامتحاناتها. كان الوضع دايماً: "هششش أمّك بتدرس قانون". كان والدي وحيد، لكن في كتير رجال وحيدين في العالم. بس ما حد منهم بيحكيلك طبعاً. مين بيحكي الحقيقة؟ بتلتقي صديق قديم بالشارع شكله مرعب زي الخرا، وجهه رمادي وشعره بيتساقط وقاعد بيرجف من كل أطرافه. فإنت بتحكيله: "تشارلي، تشارلي، شو هالحلاوة". فهو بيحكيلك، وهو بيرجف من كل أطرافه: "عمري ما حسيت أحسن، نهائيّاً". وكل واحد بيروح بطريقه.

بعرف إنه الموضوع مش سهل على فيرا، بس شو لازم أعمل؟ وشرفي مرّات بخاف إنها تؤذيني- إنها تضربني بشاكوش على راسي وأنا نايم. مش بسببي أنا، لكن بسبب إني رجل. مرّات بحس إنه الستّات اليوم هم أكثر المخلوقات بؤساً في التاريخ. يعني، هيهم بنص البحر ]لا غرقانين ولا عايشين[. على سبيل المثال، مرّة مسكتها وهي بتتباوس مع بيت بارنستيبل في غرفة المونة. وهاي كانت الليلة اللي ضيّعت فيها حلقها، لمّا رجعت من مينيابوليس. فلما وصلت البيت، وقبل ما ألاحظ ضياع الحلق قلتلها: "شو هاد؟ شو هالمباوسة مع بيت بارنستيبل؟". وقالت- بكل تحرّر إنّه مش متوقّع من أي امرأة إنّها تحدّد حالها باهتمام رجل واحد. بعدين سألتها: وأنا؟ هل هالحكي بينطبق علي أنا كمان؟ يعني إذا بتقدري تتباوسي مع بيت بارنستيبل، يعني إني بقدر آخذ ميلدريد ريني لموقف السيارات؟ بعدين قالت إنّي بحوّل كل شي بتحكيه لزبالة. قالت إنّه عقلي وسخ وما بتقدر تحكي معي. بعدها لاحظت إنها ضيّعت الحلق، بعدين مشهد كيف إنه الياقوت حجار باردة، وبعدين..
انخفض صوته ليتكلّم همساً في نفس الوقت الذي بدأت فيه النساء في حجرة على الجانب الآخر هجوماً صاخباً على صديقة مشتركة. كنتُ متلهّفاً جدّاً لرؤية وجه الرجل ورائي، فطلبت الحساب، لكنّني عندما تركت حجرتي كان قد غادر، ولن أعرف شكله أبداً.

عندما رجعت، ركنت السيارة في الكراج ودخلت المنزل من باب المطبخ. كانت كورا منحنية على طبق من الأضلاع على الطاولة. كانت تحمل بيد علبة مبيدات. لم أتمكن من التأكّد لأنّني أعاني من قصر النّظر، لكنّني أعتقد أنّها كانت ترش اللحم بالمبيد. فوجئت عندما أتيت، وبحلول الوقت الذي ارتديت فيه نظّاراتي، وضعت العلبة على الطاولة. ولأنّني ارتكبت خطأً سلفاً بسبب قصر النظر، لم أكن أرد أن أرتكب خطأً آخر، لكن كانت هناك علبة مبيدات بجانب الطبق، ولم يكن ذلك المكان الصحيح لوجودها. إذ تحتوي على كميّة عالية من السم العصبي. وسألتها: "ماذا تفعلين؟".

قالت وهي لا تزال تتحدّث في الأوكتاف الذي يقع فوق C المتوسطة: "ما الذي يبدو أنّني أفعله؟".

قلت: "يبدو أنّك تضعين المبيدات في الأضلاع".

قالت: "أعلم أنّك لا تسلّم بأنّني ذكية للغاية، لكن أرجو أن تسلّم بأنّني أمتلك ما يكفي من الذكاء لئلا أفعل ذلك".

سألتها: "لكن ماذا كنتِ تفعلين بالمبيد؟".

قالت: "كنت أنفض الغبار عن الزهور".

هزمت بطريقة ما، هزمت وذعرت. خمّنت أن اللحم الذي يحتوي على كميّات كبيرة من المبيدات التي يمكن أن تكون قاتلة. وكان هناك احتمال أن أموت لو أكلت من الأضلاع. لكن الحقيقة المذهلة هي أنّني، وبعد زواج عشرين عاماً، لا أعرف كورا جيّداً بما يكفي لأفهم ما إذا كانت تنوي قتلي أم لا. كنت أثق في عامل التوصيل أو عاملة التنظيف، لكنّني لم أثق في كورا. بدا وكأن الرياح المسيطرة لم تزح غبار معركتنا عن اتّحادنا. سكبتُ كأس مارتيني وذهبت إلى غرفة المعيشة. لم أكن في أي خطر لم أستطع الفرار منه بسرعة. يمكنني الذهاب إلى النادي الريفي لتناول العشاء. لكن تردّدي في الذهاب كان نابعاً من الماضي، وذلك بسبب الجدران الزرقاء للغرفة التي أقف بها. كانت غرفة جميلة، بنوافذها الطويلة التي تطل على الحديقة وبعض الأشجار والسماء. بدا أن ترتيب الغرفة يفرض بعض الانتظام على تصرّفاتي- كما لو كان تغيّبي عن الطاولة يسيئ بطريقة ما إلى ترتيب الأشياء. فإذا ذهبت إلى النادي لأتناول العشاء، فسأخضع لشكوكي وأنسف آمالي، وكنت مصمّماً على البقاء آملاً. بدا أن جدران الغرفة الزرقاء هي حلقة ضمن سلسلة الوجود الذي سأسيئ إليه لو قدت سيارتي إلى النادي وتناولت ساندويش ستيك وحدي في البار.

أكلت شريحة من الأضلاع على العشاء. كان لها طعم غريب، لكن بحلول ذلك الوقت، لم أعد أميّز بين قلقي والحقائق المعنيّة. شعرت بغثيان شديد في الليل، لكنّ قد يكون هذا في مخيلتي. قضيت ساعة في الحمّام أعاني من عسر هضم حاد. بدا أن كورا نائمة، وعندما عدت من الحمّام لاحظت أن عيناها مفتوحتان. كنت قلقاً، وفي الصباح حضّرت إفطاري بنفسي. أعدّت الخادمة الغداء وشككتُ في أنّها ستسمّمني. قرأت بعضاً من كتاب لهنري جيمس في الحديقة، لكن مع اقتراب العشاء، وجدتّ أنّني كنت خائفاً. ذهبت إلى غرفة المونة لأسكب مشروباً. كانت كورا تحضّر العشاء، لكنّها ذهبت إلى جزء آخر من المنزل. هناك خزانة لحفظ المكانس في المطبخ، فدخلتها وأغلقت الباب. سمعت خطوات كورا عائدة. نحن نبقي مبيدات الورود في خزانة في المطبخ. سمعتها وهي تفتح تلك الخزانة. ثم خرجت إلى الحديقة حيث سمعتها وهي تنفض الغبار عن الورود. ثم عادت إلى المطبخ، لكنّها لم ترجع المبيد إلى الخزانة. وكان مجال رؤيتي عبر ثقب المفتاح محدوداً، وكان ظهرها في وجهي وهي تتبّل اللحم، ولم أستطع معرفة إذا ما كانت تستخدم الملح والفلفل أو السم العصبي. ثم عادت إلى الحديقة، وخرجت من الخزانة. لم يكن المبيد على الطاولة. ذهبت إلى غرفة المعيشة، ودخلت غرفة الطعام من هناك عندما كان العشاء جاهزاً. وسألت بينما كنت أجلس: "أليس الجو حاراً؟".

قالت كورا: "لا يمكننا أن نتوقّع أن نشعر بالراحة إذا ما اختبأنا في خزانة المكنسة، أليس كذلك؟".

تشبّثت بكرسيي، وتناولت طعامي، وتحدّثت قليلاً وأنهيت الوجبة. وبين الحين والآخر، كانت ترمقني بابتسامة صافية وخبيثة. بعد العشاء ذهبت إلى الحديقة. كنت بحاجة ماسّة للمساعدة، ثمّ فكّرت بابنتي. علي أن أشرح أن فلورا تخرّجت من فيلا ميموزا في فلورنسا، وتركت جامعة سميث في منتصف سنتها الدراسيّة الأولى لتعيش في شقّة في الجانب الشرقي الأدنى مع مهووس بالجنس. أرسل لها مصروفها كل شهر، وقد وعدتّ بأن أتركها وحدها، لكننّي شعرت بأنّني حلّ من هذا الوعد نظراً لخطورة موقفي. شعرت أنّني لو استطعت رؤيتها سأقنعها بالعودة إلى المنزل. اتّصلت بها وقلت بأنّه يجب أن أراها. بدت ودودة للغاية ودعتني للقدوم لشرب الشاي.

في اليوم التالي، تناولت الغداء في المدينة، وقضيت العصر في النادي وأنا ألعب الشدّة وأشرب الويسكي. أعطتني فلورا الاتّجاهات، فاستقلت القطار إلى وسط البلد لأول مرة منذ لا أعرف كم سنة. كان الأمر غريباً. إذ كثيراً ما فكّرت بزيارة ابنتي الوحيدة وحبّها الأوحد، وأنا أخيراً كنت أقوم بهذه الزيارة. تخيّلت أن اللقاء سيحدث في نادٍ ما، وسينحدر من عائلة جيّدة، وستكون فلورا سعيدة، سيكون لديها وجه فتاة مشرق تحبّ لأوّل مرة. سيكون الصبيّ جادّاً، لكنّ ليس جادّاً كثيراً، سيكون ذكيّاً، ووسيماً، ومتموضعاً كشخص يقف حرفيّاً على عتبة مهنة طويلة. كان يمكنني ملاحظة حماقة هذه التخيّلات، لكن هل كانت تخيّلاتي مبتذلة وخاملة إلى هذا الحد الذي أستحق معه أن أنتهكها في كل لحظة؟ حتّى يتغيّر المشهد من النادي إلى أفقر أحياء المدينة، واستبدل الشاب الجاد بمسخ بلحية؟ كان لدي أصدقاء تزوّجت بناتهم من شباب لائقين من عائلات لائقة. هبط عليّ الحسد في القطار المزدحم، ثم التذمّر. لماذا لم يدعوني أتدخّل في هذه الكارثة؟ أحببت ابنتي. بدت طاقة الحب التي شعرت بها تجاهها طاقة نقيّة وقويّة وطبيعيّة. فجأة شعرت بالحاجة إلى البكاء. فتحت أمامها كل أنواع الأبواب، وشاهدت أجمل المناظر، واستمتعت، كما اعتقدت، بصحبة أولئك الذين أكثر حريّة في تنمية مواهبهم. 

كانت تمطر عندما خرجت من محطّة القطار. اتّبعت الاتجاهات التي أعطني إياها عبر حي فقير إلى بناية سكنيّة خمّنت أنّها تعود إلى ما يقارب 80 عاماً، بعموديها الرخاميين المصقولين اللذين يسندان قوساً من مدرسة العمارة الرومانسيّة. حتّى أنّها كان لها اسم. كان اسمها "عدن". رأيت الملاك الذي يحمل سيفاً مشتعلاً، والزوجان العاريان المنحنيان ويديهما على أعضائهما الخاصة. مازاتشو؟ كان ذلك عندما ذهبنا لزيارتها في فلورنسا. فدخلت عدن كملاك ثائر، لكن عندما كنت تحت القوس وجدت ممرّاً ضيّقاً ضيق سلالم الغوّاصات، وكان الضوء يشّع بشدّة على معنويّاتي التي كانت محبطة جدّاً. وكان الضوء في البهو بدائيّاً ومؤسفاً. تظهر طوابق الأدراج عادةً في أحلامي، أما الأدراج التي بدأت أصعدها فكانت تمتلك مظهراً واقعيّاً صاخباً. سمعت حديثاً بالإسبانيّة، وهدير مياه من حمّام، وموسيقى، ونباح كلاب. 

صعدت ثلاثة أو أربعة طوابق من الأدراج بسرعة شديدة على وقع الغضب أو ربّما بسبب المشروبات التي تناولتها في النادي، حتّى وجدت نفسي منهكاً فجأة، لأضطر أن أتوقّف قليلاً وأنخرط في صراع مهين حتّى أتنفّس. مرّت عدّة دقائق قبل أن أتمكّن من المتابعة، واستكملت بقيّة الطريق ببطء. كانت فلورا قد وضعت واحدة من بطاقاتها التعريفيّة على الباب. طرقت الباب. قالت بمرح: "مرحبا بابا"، وقبّلتها على حاجبها. آخ كم كان هذا القدر فقط جيّداً ومنعشاً وقويّاً. شعرت باندفاع ذكريات كل السعادة التي شاركناها. فتح الباب على المطبخ الذي كانت وراءه غرفة أخرى. قالت: "أريدك أن تقابل بيتر".

قال بيتر: "مرحبا".

قلت: "كيف الحال".

قالت فلورا: "انظر ماذا فعلنا، أليس رائعاً؟ انتهينا للتو منه. كانت فكرة بيتر".

كان ما فعلوه أنّهم اشتريا هيكلاً عظميّاً ألبسوه حديداً من مركز الإمدادات الطبيّة وألصقوا فراشات هنا وهناك على العظام المصقولة. تعرّفت على بعض العيّنات من شبابي، وأدركت أنّني لم أكن قادراً على تحمّل تكاليفها في ذلك الوقت. كانت هناك عشتروت كاتاغرام على عظمة الكتف، وسافرة في محجر إحدى العينين، ومجموعة كبيرة من آبيا زارنيدا في العانة. قلت: "رائع" وأنا أحاول إخفاء نفوري. وبالمقارنة مع مهام الحياة المفيدة، جعلتني فكرة أن يلصق شخصان بالغان فراشات غالية الثمن على عظام شخص غريب وفقر المصقولة أشعر بغضب شديد. جلست على كرسي من القماش وابتسمت لفلورا. "كيف حال يا عزيزتي؟".

قالت: "أنا بخير بابا، أنا بخير".

منعت نفسي من التعليق على ملابسها أو شعرها. كانت ترتدي ملابس باللون الأسود، وكان شعرها مسرّحاً. لم أعرف المغزى من هذه الملابس التنكريّة أو الموحّدة. ولم تبد ملابس لائقة. ولم تكن على ذوق أي شيء. بدا وكأن ملابسها انعكاس لثقتها بذاتها، كانت ملابس حداد أو كفّارة، أو إعلان للامبالاتها للحرير الذي أحبّه على النساء، لكن ما هو سببها لرفض الأناقة؟ كانت ملابسه محيّرة بشكل أكبر. وتساءلت: هل كان أصله إيطاليّاً؟. كان الحذاء مخنّثاً، وكان الجاكيت قصيراً، لكنّه بدا وكأنّه طفل في شوارع لندن في القرن التاسع عشر بشكل أفضل مما لو كان من شارع إيطالي. كل ذلك ما عدا شعره. كان يمتلك لحيةً، وشارباً، وشعراً طويلاً قاتماً ومجعّداً ذكّرني بحواريّ ثانوي في مسرحيّة الآلام. لم يكن وجهه مخنّثاً، لكنّه كان ناعماً، وكان، بالنسبة لي، يشير إلى الافتقار إلى الالتزام.

سألت فلورا: "هل تريد قهوة بابا؟".

قلت: "لا يا عزيزتي شكراً. هل هناك شيء يشرب؟".

قالت: "ليس لدينا أي شيء".

سألت: "هل يتكرّم علينا بيتر ويذهب ليأت لي بمشروب؟".

قال بيتر بحزن: "أعتقد ذلك". وقلت لنفسي أنّني على الأرجح كنت وقحاً من دون قصد. أعطيته 10 دولارات وطلبت منه أن يجلب لي بعض البوربون.

قال: "لا أعتقد أن لديهم بوربون".

قلت: "حسناً، سكوتش".

قال بيتر: "الناس هنا في الحي غالباً ما يشربون النبيذ".

ثم صوّبت باتّجاهه نظرة واضحة وطيّبة، معتقداً أنّها ستقتله. ما أعرفه عن العالم أنّه لا يزال هناك قاتلين مأجورين، وسأدفع لواحد منهم أن يغرس سكّيناً في ظهره أو يدفعه من السطح. كانت ابتسامتي عريضة، وواضحة، وقاتلة بأصالة، ثم دخل الصبيّ في معطف أخضر كأنّه قطعة أخرى من المومياء وذهب في طريقه.

سألتني فلورا: "ألا تحبّه؟".

قلت: "أحتقره".

قالت فلورا: "لكن بابا أنت لا تعرفه".

"لو أعرفه أكثر يا عزيزتي لفرمت رقبته".

قالت فلورا: "إنه طيّب جدّاً وحسّاس- وكريم جدّاً".

قلت: "أستطيع أن أرى أنّه حسّاس للغاية".

قالت فلورا: "إنه ألطف شخص عرفته في حياتي".

قلت: "أنا سعيد لسماع ذلك، لكن دعينا نتحدّث عنك الآن، هل نفعل؟ لم آتِ إلى هنا للحديث عن بيتر".

"لكنّنا نعيش مع بعضنا بابا".

"هذا ما سمعته. لكن السبب الذي دفعني للقدوم هنا يا فلورا هو أنّني أريد معرفة ما هي خططك وما إلى ذلك. لن أرفض خططك مهما كانت. أنا أريد أن أعرف ما هي ببساطة". لا يمكنك قضاء بقية حياتك في لصق الفراشات على الهياكل العظميّة. كل ما أريد معرفته هو ما تنوين فعله بحياتك".

رفعت رأسها وهي تقول: "لا أعرف بابا، لا أحد من عمري يعرف".

"أنا لا أقوم بعد أصوات جيلك، أنا أسألك أنتِ. أسألك عمّا تريدين أن تفعليه في حياتك. أسألك عن الأفكار التي تملكينها، الأحلام التي تشاهديها، الآمال التي تعقديها".

"لا أعرف بابا، لا أحد من عمري يعرف".

"أتمنّى لو تقضين على بقية جيلك. أعرف خمسين فتاة على الأقل في عمرك يعرفن ماذا يردن. يردن أن يكن مؤرّخات، ومحررات، وطبيبات، وربات منازل، وأمّهات. يردن أن يفعلن أمراً مفيداً".

عاد بيتر مع زجاجة بوربون لكنّه لم يرجع لي بقيّة النقود. وتساءلت: هل كان ذلك جشعاً، أم نسياناً؟ أحضرت لي فلورا كأساً وبعض الماء، وسألتهما إذا كانا يودّان مشاركتي الشرب.

قال بيتر: "نحن لا نشرب كثيراً".

قلت: "سعيد لسماع ذلك. بينما كنت في الخارج تحدّثت مع فلورا حول خططها. فقد اكتشفت أنّه ليس لديها أيّ خطط، ولأنّها لا تملك خططاً، سأعيدها إلى بوليت بارك حتّى تفكّر بشكل أكثر حسماً".

قالت فلورا: "سأبقى مع بيتر".

سألت: "لكن لنفترض أن بيتر كان عليه أن يغادر؟ لنفترض أنّه تلقّى عرضاً مثيراً للاهتمام كستّة أشهر في الخارج مثلاً، فماذا ستفعلين؟".

سألت: "أه يا بابا، لن تفعل ذلك، صحيح؟".

قلت: "نعم سأفعل، سأفعل ذلك بالتأكيد. سأفعل ما يتطلّب الأمر حتّى تستعيدين حواسك. هل ترغب بالسفر إلى الخارج يا بيتر؟".

قال: "لا أعرف". لا يمكن القول أن وجهه أشرق، لكن بدا لوهلة أن ذكاءه بدأ بالعمل وقال: "أود أن أذهب إلى برلين الشرقيّة".

"لماذا؟".

قال: "أود الذهاب إلى برلين الشرقيّة وأعطي جواز سفري الأميركي إلى شخص مبدع هناك، كاتب أو موسيقي حتّى يتسنّى له الفرار إلى العالم الحرّ".

سألت: "لماذا لا تختم على طيزك كلمة "سلام" وتقفز من عمارة باثنتي عشر طابقاً؟".

كان ذلك خطأً، مصيبة، كارثة، وسكبت لنفسي بعض البوربورن. قلت: "أنا آسف. أنا متعب. على العموم لا يزال عرضي قائماً. إذا أردت الذهاب إلى أوروبا يا بيتر سأكون سعيداً بدفع مصاريفك".

قال بيتر: "أوه لا أعرف. أعني أنّني رأيت معظم أوروبا".

قلت: "طيّب ضعها في اعتبارك. أما بالنسبة إليك يا فلورا، أريدك أن تعودي إلى المنزل معي. تعالي لأسبوع أو اثنان على أيّ حال. ذلك كل ما أطلبه منك. بعد عشر سنوات من الآن ستوبخينني لأنّني لم أقودك للخروج من هذه الفوضى. بعد عشر سنوات من الآن ستألينني: "بابا بابا يا بابا لماذا لم تعلّمني ألّا أقضي أفضل سنوات حياتي في أحد الأحياء الفقيرة؟". لا أتحمّل فكرة أنك ستأتيني بعد عشر سنوات لتلومينني لأنّني لم أجبرك على الأخذ بنصيحتي".

"لن أذهب إلى المنزل".

"لا يمكنك البقاء هنا".

"يمكنني لو أردت".

"سأمنع عنك المصروف".

"سأجد وظيفة".

"ما هي الوظيفة؟ لا تستطيعين الطباعة، والا الاختزال، ولا تعرفين أبسط أمور عن أي نوع من إجراءات العمل، لا يمكنك حتّى تشغيل لوحة مفاتيح".

"يمكنني الحصول على عمل موظّفة تنظيم ملفات".

زمجرت قائلاً: "يا إلهي. يا إلهي. بعد كل دروس الإبحار ودروس التزلّج، بعد كل اللقاءات ورقصات الكوتيلون، بعد سنة في فلورنسا، والأصياف الطويلة في البحر- بعد كل هذا يتّضح أن كل ما تريديه حقّاً هو أن تكوني موظّفة تنظيم ملفّات عانس بتصنيف مدني منخفض، وتتمثّل أكثر أوقاتها إثارة في الذهاب مرّة أو مرتين في السنة إلى مطعم صيني من الدرجة الرابعة مع موظّفات تنظيم ملفّات عانسات والسّكر على كأسين سويت مانهاتن".

عدت إلى مقعدي وسكبت المزيد من الويسكي. هناك هناك ألمٌ حاد في قلبي، كما لو كان ذلك العضو المتكتّل قد تخطّى كل اضطّهاد ليبتلى بالشقاء. كان الألم حادّاً، وشعرت أنّني سأموت- ليس في هذه اللحظة وأنا جالس على كرسي القماش، لكن بعد أيّام قليلة، ربّما على سرير مريح في مستشفى في بوليت بارك. لم ترعبني الفكرة، بل كانت عزاءً. سأموت، ومع عزل التوتّر الذي أظهرته أخيراً، ستسعيد ابنتي، ابنتي الوحيدة حياتها. كان اختفائي المفاجئ من المشهد سيعمل على إيقاظها بالحزن والتضليل. سيعمل موتي على إنضاجها. ستعود إلى سميث، وتنضم إلى نادي غلي، وتحرّر الجريدة، وتصادق فتيات من مستواها، وتتزوّج شابّاً ذكيّاً يتمتّع ببصيرة نافذة، والذي يبدو لي الآن أنّه يرتدي نظّارات، ويربّي ثلاثة أو أربعة أطفال أصحّاء. ستشعر بالندم. هذا هو، وسيظهر لها الحزن الليليّ أنّها غير قادرة على العيش في أحياء فقيرة مع شخص طائش.

قالت وهي تبكي: "إذهب إلى المنزل بابا. إذهب إلى المنزل بابا ودعنا وحدنا. أرجوك إذهب إلى المنزل بابا".

قلت: "حاولت دائماً أن أفهمك. كنت تضعين أربع أو خمس أشرطة على الجهاز في بوليت بارك، وبمجرّد أن تبدأ الموسيقى تخرجين من المنزل. لم أفهم أبداً سبب قيامك بذلك، لكن في إحدى الليالي خرجت من المنزل محاولاً العثور عليك. مشيت عبر الحديقة بينما كانت الموسيقى تصدح من الشبابيك المفتوحة، وشعرت بأنّني فهمت. أعني، اعتقدت أنّك تضعين الأشرطة وتغادرين المنزل لأنّك أحببت سماع الموسيقى وهي تتدفّق من الشبابيك. أعني، اعتقدتّ أنّك أحببت أن تعودي إلى المنزل بينما لا تزال الموسيقى تصدح. كنت على حق، أليس كذلك؟ هل فهمتك إلى هذا الحد؟".

قالت: "عد إلى المنزل بابا، أرجوك عد إلى المنزل".

قلت: "الأمر لا يتعلّق بك فقط يا فلورا. أنا أحتاجك، أحتاجك كثيراً".

قالت: "عد إلى المنزل بابا". ففعلت.

تناولت العشاء في المدينة وعدت إلى المنزل حوالي الساعة العاشرة. كنت أسمع دورا وهي تحضّر للاستحمام، فأخذت دوشاً في الحمام القريب من المطبخ. عندما صعدت إلى الطابق العلوي، كانت كورا تجلس لدى طاولة التزيين وهي تمشّط شعرها. أعترف بأنّني أهملت القول بأن كورا جميلة وبأنّني أحبّها. تمتلك كورا شعراً أشقر شاحب، وحاجبان داكنان، وشفتان ممتلئتان، وعينان كبيرتان وخاليتان من الهموم وفاتنتان بشكل مذهل، لدرجة أنّني أشعر أحياناً أنّها قد تنزعهما وتضعهما بين صفحات كتاب وتتركه على الطاولة. بياض عيناها أزرق فاتح، واللون الأزرق نفسه ذو عمق غير عاديّ. امرأة رشيقة، وليست طويلة. تدخّن باستمرار كما كانت طيلة حياتها، لكنّها تتعامل مع سجائرها ببلادة خرقاء ساحرة كما لو كانت بدأت بممارسة هذه العادة الراسخة للتو. كل شيء فيها جميل وبقياساته الصحيحة: ساقيها، جبهتها. أحبّها، وبحبّها أعلم أن الحب ليس مساراً منطقيّاً. فلم أتوقّع أو أرغب بالوقوع في الحب عندما رأيتها لأوّل مرة في عرس في الريف. كانت كورا واحدة من المدعوين. وكان العرس في الحديقة، حيث اختفى نصف أعضاء الفرقة الخماسيّة الذين يرتدون التوكسيدو وراء شجيرة الورديّة. ومن الخيمة فوق التل، يمكن سماع موظفي متعهّد المناسبات وهم يرشّون السكّر المنكّه على النبيذ في دلاء غسيل. وكانت ثاني القادمين وهي ترتدي زيّاً من الأزياء الغريبة التي صمّمت لحفلات الزفاف، كما لو أن القران المقدّس قد وجد لنفسه مكاناً فريداً وغامضاً في القرون الوسطى. كان فستانها أزرق على ما أذكر مع أشياء تتدلّى منه، وكانت ترتدي على شعرها الباهت قبّعة عريضة الحواف بدون قمّة. تمايلت على العشب بحذائها ذي الكعب العالي وهي تحدّق بخجل وبؤس بمجموعة من الزهور الزرقاء، وعندما وصلت إلى مكانها رفعت وجهها وابتسمت بخجل للضيوف، ورأيت للمرّة الأولى تعقيد وكبر عينيها، وشعرت للمرّة الأولى أنّها ستخلعهما وتضعهما في جيبها. وسألت بصوتٍ عالٍ: "من هي، من هي؟".

همس أحدهم: "هشش". كنت مفتوناً، قفز قلبي وقفزت روحي قفزاً. لم أر أي شيء من بقية العرس على الإطلاق، وعندما انتهت المراسم، كنت أركض على العشب وأعرّف نفسي عليها. لم أكن راضياً عن أي شيء حتّى واقفت على الزواج منّي بعد سنة. والآن، يقفز قلبي وتقفز روحي قفزاً وأنا أشاهدها تمشّط شعرها. قبل أيام قليلة، اعتقدت أنّها انطوت على نفسها لتطفو في مياه إناء السمكة الذهبيّة. واشتبهت في أنّها تحاول قتلي. فكيف يمكنني أن أحتضن، بكامل جسدي وعقلي، شخصاً كنت قد اتّهمته بالقتل؟ هل كنت يائساً إلى هذه الدرجة؟ وهل كان شغفاً فاحشاً لأنّني لم أرَ في ذلك العرس قبل عدّة سنوات في عينيها الكبيرتين جمالاً على الإطلاق، بل قسوةً؟ جعلتها في مخيّلتي سمكة ذهبيّة، قاتلة، والآن عندما آخذها بين ذراعي تصبح بجعة، طابقاً من الأدراج، نافورة، الحدود المفتوحة إلى الجنّة. 

لكنّني استيقظت السّاعة الثالثة وأنا أشعر بالحزن الشديد، وأنا أشعر بالعصيان. لذلك، لم أرد أن أبحث في الحزن، والجنون، والكآبة، واليأس. كنت أرغب في دراسة الانتصارات، وإعادة اكتشاف الحب، أن يكون كل ما أعرفه في العالم مناسباً، ومشرقاً، وواضحاً. ثم امتلأتُ بكلمة "الحب" ودافع الحب في مكان ما من جوفي. وبدا أن الحب يتدفّق منّي في جميع الاتجاهات وفيراً كالماء- حب كورا، وحب فلورا، وحب كل أصدقائي وجيراني، وحب بينومبرا. لم يكن ممكناً احتواء هذا التدفّق الهائل للحيويّة في تهجئته، وبدا أنّني استوليت على قلم خطّاط وكتبت "الحوب" على الجدار. كتبت "الحوب" على بيت الدّرج، "الحوب" على النمليّة، "الحوب" على الفرن، على الغسّالة، على غلّاية القهوة، حتّى عندما تنزل كورا في الصّباح (ولن أكن هناك)، ستقرأ "الحوب"، "الحوب"، "الحوب" في كل مكان تنظر إليه. ثم رأيت مرجاً أخضرَ وجدولاً متلألئاً، وأكواخاً بأسقفٍ من القشّ، وبرج كنيسة مربّع على قمّة التلّة، فعرفت أنّه لا بد من أنّها إنجلترا. صعدتُّ من المرج إلى شوارع القرية لأبحث عن الكوخ الذي تنتظرني فيه كورا وفلورا، لكن يبدو أنّه ثمّة خطأ ما: لم يعرف أحد أسمائهما. سألت في مكتب البريد، لكن الجواب كان ذاته. ثم خطر لي بأنّهما في القصر. كم كنتُ غبيّاً. غادرت القرية ومشيت في حديقة منحدرة لأصل إلى بيت من العصر الجورجي، حيث سمح لي خادم بالدخول. كان الإقطاعي مسلّياً. وكان هناك 25 أو 30 شخصاً يشربون الشيري في القاعة. تناولت كأساً من صينيّة وبحثتُ في الجمع عن فلورا وزوجتي، لكنّهما لم يكونا هناك. ثم شكرت مضيفي ومشيت عبر الحديقة الواسعة عائداً إلى المرج والجدول المتلألئ، هناك حيث استلقيت على العشب وسقطت في نومٍ لذيذ.