الاثنين، 5 سبتمبر 2011

وكذلك الحريق الذي لم يبدأ بعد

لا تكن شاحباً by Latakon




اجلس أمامي، وضعْ على المنضدة ذلك البهاء الذي
أتعبَ مديحي؛ والمسافة أيضاً، مسافة الغضب المؤطّرة كصورة جدّ.. هاتها، وهات المساء المتدلي على صدرك كربطة عنق.
وافتح أزرار سترتك لأرى ما تبقّى. نعم: نجمة مختبئة، وبقايا معركةٍ؛ مسرحٌ وبلابل نائمة فوق سيفٍ..
ضعها كلها هنا، كلها، وكذلك الحريق الذي لم يبدأ بعد.

لا تكن شاحباً، فمعي ما تريد.

سليم بركات. من "الضباب المتّزن كسيّد"

السبت، 3 سبتمبر 2011

غرافيتي على الجدران الداخليّة

كالعادة: أكتب وأراسل أشخاصاً أتخيلهم مشدودين بكيبلات إلى عقولهم. أتلقى مكالمات دافئة عن أشخاص حانقين. يكاد صوت المتكلّم أن يقصي كل شتيمة تلمع برأسي. أشعر بأنهم يتكلمون عن شخص آخر، ولشخص آخر. أكتب. وأسمي القط الجديد "باشو". وأستضيف "جو" في الصالون لأنظفه من الدم المتجلّط على ذيله. أكره "ميمي" الآن بكل طاقتي، ولو لم تكن ترضع أبناءها الثلاثة، لكنتُ منعت عنها كلّ ما لن آكل.
أكتب عن فنان استشراقيّ يعترف بأنه مستشرق طارئ على المكان، ولا شيء يشدّني إلى شكلي الذي أحب انعكاسه على زجاج السيارات إلا قائمة أغانٍ عشوائيّة: إيليني كارايندرو، شجريان، مونو، Godspeed You Black Emperor، حسين عليزاده، آنيا ليخنر وفاسيليس تاسبروبولس، كيشاوا دايسكو، غريغور سامسا. أستطيع أن أستعرض الأسماء الصعبة التي أحبّها، لكنني دوماً أحب غريغور سامسا لأنه استيقظ في صباح إحدى الأيام ليجد أنه يشبه نفسه تماماً: صرصور.
على هامش معرض منى حاطوم في مركز بيروت للفن قبل عام، تصفحّتُ كتاباً توثيقياً لأعمالها القديمة. في تاون هاوس بالقاهرة، وإلى جانب باب موارب، وبدلاً من صورة الغائب، وضعت حاطوم لوحة بإطار وكتبت عليها "لأنك لا تزال هنا".
أدركت فجأة بأني بحاجة لإحاطة نفسي بغرافيتي على الجدران على رأي إدواردو غاليانو.
وهذا ما سأفعله على جدران مدينة بليدة، وعلى الجدار الداخلي لرجل بليد.

الخميس، 1 سبتمبر 2011

حياة غير مستعملة تُشحن بدون أن تُمَس (I)

طيب. سأكتب ما حلمت به الليلة مباشرة بما أنني استيقظت للتو. حلمت بأنني أنا نفسي: لست مخنوقاً وأستطيع الكلام والصراخ والمشي بحريّة. كان شيئاً يشبه Lucid Dream: واعياً بأنني أحلم، وقادراً على أن أتحرك في المساحة التي اقتصرت على مستشفى، سفح تل، منزل، ومقبرة على جانب الطريق.
لا أذكر كيف بدأ الحلم بالضبط، لكنني أذكر أنني وصلتُ إلى سفح تل، حيث كان مرسيل خليفة ينتظرني لأنسخ عنه شعره الرديء. كنتُ مريداً أحمل ورقاً أصفر ويابساً تآكلت أطرافه. وكان مرسيل بعيداً عني 10 أمتار: بشع، وأقصر من العادة، وأكثر سمرة، وأقل كارزميّةً. وشعرتُ بأنني محظوظ لأن الشمس، التي توشك على المغيب، تهبط خلفه مباشرة. ليمنعني وهجها من النظر إليه مباشرة.
أذكر أنني فكّرت: لا يهمني: لا أحبه على أية حال. كان عملاً من المفترض أن أنجزه وكفى. كنتُ موكّلاً بإنجاز هذا العمل فلأقم به. نشوتي الوحيدة تمثّلت في منظر سنابل القمح التي تصفرّ وتموت على سفح هذا التلّ تحت الشمس الحمراء. فكّرت: في حلم آخر سأكون أحد مريدي فان كوخ.
كنتُ في الواقع سعيداً، رغم فزعي الآن بأنني كنتُ قادراً على استحضار الهواء متى حوّلت نظري إلى السنابل الصفراء لتهب عليها. كنتُ داخل لوحة متحرّكة لفان كوخ، وكان لديّ عمل لأنجزه: حياة بسيطة غير مستعملة لا تُمَسّ.
وعندما اعتقدتُّ أنه انتهى من قصيدته، جاءني خبر بأنّ أبي في المستشفى. لا أعرف للآن كيف وصلني الخبر، وكيف انتقلتُ بسرعة إلى باحة مستشفى. عرفتها من اللون الأبيض الذي كان ينجز جدران الباحة. وكثير ممّن مثلي: "مرضى بطول البال"**، ينتظرون فيها.
هناك، اكتشفتُ أن شيئاً ما ورّطني بالقلق على مريضين آخرين رأيت، لاحقاً، أحدهما. كان المريض الأول، الذي لم أره إلا متمدداً على سريره أينما ذهبت، طويلاً وضخماً. أسمر بعينين منتفختين. شفتاه مزمومتان بشدّة كأنه لم يتكلّم منذ زمن طويل. ولأنني لم أر المريض الثاني، فتخيّلته ممتلئاً، باهت البشرة، عنقه مترهّلة وعيناه ممتلئتان بنقط صفراء.
يبدو أنني شعرت بالاطمئنان على أبي فعدتّ إلى التّلة مرة أخرى. هذه المرة إلى واديها. منظر العشب الأخضر وطويلي البال عليه والهواء الساكن وضعني مباشرة في لوحة "غداء على العشب" لإدوار مانيه. ورغم أنه كان نهار رمضان، إلا أن الوادي كان ممتلئاً بالناس من دون ازدحام. كان الجميع يتحرّك ببطء ويتحدّث من دون أن يتكلّم. حاول أحدهم أن يثير انتباهي ليلقي التحيّة بالابتسام لي. كان شوفير تاكسي ودوداً عاد لتوّه من نبع مياه غير مرئيّ عبّأ منه في بكرج الشاي. أومأت إليه مبتسماً وتابعته وهو يمشي إلى زاوية تجمّعت فيها زوجته المحجّبة وابنته المراهقة.
وعلى نفس المسافة التي فصلتني عن مرسيل، جلست "ر" تقرأ. الشيء الوحيد الذي كان يقطعها عن القراءة هو انزعاجها الواضح من أمر تفكّر به ولا تستطيع إقصاءه بالقراءة. تجاهلتني تماماً. ولم أستطع إلا أن أبصبص وأنا أطفو في الوادي على مسافة سينتيمترات قليلة، مفكّراً بأنني يجب أن ألمس الأرض على الأقل كي لا أفزعها.
بعد أن غادرتْ الوادي وهي تنظر إلى حيث أطفو من دون أن يتناقص غضبها، انتقلتُ إلى منزل مرسيل الذي كان حانقاً. فهمت أنه يبحث عن قصيدته التي نسختها له في السفح. فهمت أيضاً أنه يحتفظ بنسخة عنها. شعرتُ بالإهانة لأنه استكتبني من دون داعٍ. كان يؤشر بيديه ويصرخ ويدور في المنزل المتقشّف، إلا من قطع أثاث من الخشب، وهو يزداد سمرة وقصراً وبشاعة. فكّرت أن هناك أمور أهمّ: ثمّة مرضى يموتون، ومرضى يقرؤون، ومرضى يشربون الشاي في نهار رمضان في الوادي. التمعت في رأسي "كس أختك" مكتوبة بلون أسود حين انتزع الأوراق من يدي ووضعها على لوح خشبي في بهو المنزل. وعندما لم يجد القصيدة التي اختفت، والتي كنت متأكداً بأنني كتبتها، غادرت إلى المستشفى مرة أخرى. تاركاً معه شخصاً آخر غير مرئيّ شعرت به إلى جانبي طيلة الحلم.
كانوا ثلاثة: أبي ومريضان. لا يزال أبي مريضاً، لكنه كان قد دفن المريض الثاني للتوّ. ساعدته بحمل نقالة الموتى الخشب التي نام عليها المريض الأول ملفوفاً بالكامل بالباندج ووجهه إلى الأسفل. 
عندما ألقينا به في قبر إلى جانب الشارع قال لي أبي: "جهّزت القبر من قبل". ولم يبقَ عليّ إلا أن أهيل التراب الأصفر بمجروف وجدته مرميّاً على جدار منزل مجاور. وعندما انتهيت، لم أفاجأ عندما رأيت آثار عجلات سيّارة على القبر قبل أن ألحق بأبي.
كانت السماء واسعة ورطبة وتحتمل الكثير من الغيوم الرماديّة؛ كأنّنا فرغنا من رسمها للتوّ. وكنّا نسير معاً في الشارع المتّسخ: مرضى بطول البال.




* العنوان مقطع من قصيدة لعبّاس بيضون: "الواقع يعاد كما هو إلى الصناديق: حياة مستعملة تشحن بدون أن تمسّ".
** "مرضى بطول البال" عنوان مجموعة شعريّة لزياد العناني.