الجمعة، 25 نوفمبر 2011

إفرم مينوك ينتقم من الموسيقى


إذ لم يكن في المطرب عشقاً
وفي النائح ألماً
يصاب المستمع بالزمهرير.

"شمس تبریز"


في الخامس من تشرين أول/ أكتوبر 2008، قرر إفرم مينوك إيقاف فرقته A Silver Mt. Zion، وسؤال الجمهور الفينلندي عن وظائفه.
الحديث جرى هكذا: إفرم يسأل: من من الحضور يقدّم الطعام لأخوات الشراميط؟ ويرفع عدد من الحضور أيديهم. ثم يسأل: من من الحضور طالب؟ من يعمل في الجامعة؟ من يعمل في Fucking internet؟ هل هناك محامين؟ لا أحد؟ هيّا لا تخجلوا. ماذا عن السياسيين؟ هل تمثّل حزباً اشتراكيّاً؟ هل هناك من يعمل في البناء؟ بيديه؟ أيّ عمل حقيقي؟

لكن هل يعمل إفرم نفسه بأي عمل حقيقيّ؟ هل الموسيقى عمل حقيقي بالفعل؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فمن هم الموسيقيون الذين يعملون بأيديهم؟ من هم بناؤو الموسيقى ومن هم تجارها؟

يطرح إفرم الأسئلة التي سألها ثيودور أدورنو مراراً. مستعيداً تورّط الأخير في الدفاع عن الصوت الحقيقي للموسيقى، وما يجب أن تكون عليه بمواجهة انحطاط الموسيقى الشعبيّة الذي يعتبرها عملاً مضادّاً للموسيقى.

أدورنو، الذي كتب أهم مقالات وكتب التحليل السوسيولوجي للموسيقى كصناعة وكطريقة تعبير ونتاج مجتمعي وفردي معاً، اعتقد أن "اغتراب الفرد في مجتمعه يتنامى إلى درجة أن الموروث الموسيقى قاصر على حمل ما يعبّر عن هذا الاغتراب. إذ أن الشكل التقليدي والميلودي لم يستطيعا الانسجام مع ما فرضته الأزمة التي أنتجها العالم الرأسماليّ".

إفرم فعل ذلك. واجترح شكلاً موسيقيّاً جديداً سمّي، لاحقاً: Post rock.

ففي مونتريال، معقل البوست روك بامتياز، عمل على تأسيس فرق موسيقيّة تستعمل الروك لتحطيم شكله الموروث، والتقدّم به إلى مستويات حسيّة أعلى. وذلك ببساطة بتقليد صوت الاغتراب.

كان إفرم آنذاك، ولا يزال، ينتقم من الموسيقى. بقصورها عن التهاوي مع كل ما يتهاوى من حولها. بإمبراطورياتها التي تسطو على كل كلمة وكورد ولازمة وفاصلة وعنوان فرقة واسطوانة.

تمرّد إفرم على كل ذلك، وتجاوز التابوهات: أنجز مقطوعات موسيقيّة مدتها تتجاوز 30 دقيقة. جرّب من خلف المسرح وعليه. جاء بقسّ ليقرّع الدين من خلاله، وحمّل السياسيين والأنظمة دم المارينز والضحايا في البلاد البعيدة، وتضامن مع الانتفاضة الفلسطينيةّ الثانية، وكشف عمّا يمكن أن تكون عليه الموسيقى إذا كان الشخص حقيقيّاً بما فيه الكفاية. وموجوعاً من هذه الحقيقة بما فيه الكفاية.

حاول إذاً إفرم تقليد العالم المغترب من خلال الفرد المتغرّب: وضع في مقطوعة واحدة تشيلو، إليكتريك غيتار، بيانو، أشخاص يتكلمون، يصرخون، يئنون. أحياناً، يلقي معطوب ما قصيدة لمدة 10 دقائق عن أن أميركا من دول العالم الثالث. أو يتحدّث عجوز خرف عن النوم على شاطئه القريب من منزله. ويبشّر في مقطوعة أخرى قس بنهاية العالم وينادي بالخلاص بصوت مرتجف. ويصف آخر مشهد نهاية العالم: "ثم بعد ذلك قلت: قبليني، أنتِ جميلة إلى هذا الحد. نحن عالقون في بطن هذه الماكنة المرعبة. والماكنة تنزف حتى الموت. وقعت الشمس، ومالت لوحات الإعلانات، والأعلام كلها ميتة على سواريها. استيقظنا في اليوم التالي وشعرت بأنني أكثر إحباطاً من الأمس. فتحت محفظتي، لأجدها مليئة بالدماء."

ومن برد مونتريال، ونزعتها اليساريّة الاشتراكيّة، ظهرت فرق Godspeed You Black Emperor و A Silver Mt. Zion وThee Silver Mt. Zion Memorial Orchestra & Tra- La- La Band. إضافة إلى عمله الصولو Plays ‘High Gospel’ الذي أصدره مؤخراً.

في النص المترجم، يكتب إفرم إلى بوبي دارين، أحد أبرز الوجوه الأميركيّة المشهورة في المسرح والسينما والتلفزيون والموسيقى. وأحد أكثر الكائنات هشاشةً وإنسانيّة بالنسبة لكل من عاصروه. توفي دارين عندما كان عمره 37 عاماً، وإفرم كتب هذا النص عندما اقترب من بلوغ نفس العمر سنة 2003.

هذا النص لا يمكن الاعتداد به كمرجع لحركة البوست روك. بل لا يمكن الاعتداد به كنص أدبي أو حتى نص يمرر أيّة معلومة حول مبادئ هذه الحركة التي يمكن اعتبار إفرم عرّابها. لكنه مجرّد نص مليئ بالجمل الشعرية المهزومة. نص يمرّر لنا إحساس اللحظة التي تخلق بها الموسيقى.



لا تقع في غرام الموسيقى لأنها فقط ستحطّم قلبك، مفهوم؟

إلى بوبي دارين

إفرِم

ثمّة وعد يتحقق. هناك، حيث يسقط صوت عالٍ وسماويّ من سماعات ما في مكان ما: أنتَ سكران أو مخدّر أو حتى يقظ جداً. و/أو لم تكن قد نمت حقّاً من مليون يوم. وهناك ذلك الثّقل داخلك. الثّقل الذي يمكن أن يكون صديقك الوحيد والأقرب والأكثر وحدةً. هذا الثّقل الحميم الذي يمكنه أن يلوّث أصغر شعرة على ذقنك.

لكن، ثمّة وعد يتحقّق. هناك: مدفون في الكوردات الصاخبة، أو أهدأ نقرة على وتر أو خرخشة همسات: هناك في الموسيقى، الموسيقى، الموسيقى. في المساحة بين النوتات مثل صفوف من الحشائش على مقدّمة أصابع القدمين. أو مثل ستائر ضخمة من الرصاص الفولاذي، أو النفط المشتعل. الموسيقى مؤلمة إلى الحد الذي يمكنها إيجاد ثقوب صغيرة بك حتى تستطيع ملائكة صغار عذبة أن تعشعش فيها، لتلاطف أوتار قلبك بصقورها المكسوّة بالريش.

ثمّة وعد يتحقّق وأكثر الناس لا يفهمونه أبداً؛ هؤلاء المشوّش عليهم بالألعاب الناريّة المزيّفة في سماء الآخرين، إلى الحد الذي لا يمكنهم فيه سماع احتراق الأشجار في الزاوية. مع ذلك، تتشكّل هناك نواة الإنسان التائه لسنوات، والذي يتوق للوعود. ربما لذلك، ننفق مبالغ صغيرة من النقود حتى نستطيع التحديق في بئر بائس قد جفّ منذ سنوات.

لن يستطيع معظمنا أن يصبح في السابعة عشرة من عمره مرة أخرى، لكن الكثير منا حمقى بما فيه الكفاية ليستطيعون الإيمان بهذا الوعد: الكلمات العَرَضيّة التي تخرج عن امرأة نحيلة مع غيتار. أو الهالة فوق رأس الدرمر بعيونه الجاحظة. أو عازف البيانو الذي يتحودب في الزاوية ويئنّ، حيث البيانو يشتعل من الهواء الذي يحترق في الوادي، بينما يلعب معوّق لحناً على الباص مرة بعد مرة.

أقسم بأنني رأيتُ أموراً على المسرح، في الزوايا والأرضيات أكثر سماويّةً وعذوبةً من غروب على أفق أرض بعيدة تحتلها جيوش من العصافير التي تزقزق. نعم، لا أزال أؤمن بهذا الخراء، ولا أزال ألاحق الأضواء الخافتة في الصحراء. على الرغم من أنني أتساءل عن تأخّري، لأنني أخاف أن أتقدّم في العمر بهذه الكنيسة الملعونة. هذه الكنيسة التي تزدحم برعيّة عاجزة يضحكون ويصرخون طيلة الوقت: "أنا أنا أنا".

وأنا أشعر كأنني أهنت أو كأن حُمقاً فخوراً بتقدمه في العمر يهزّ عصاي. نعم، لأنني لا أزال بانتظار ذلك الوعد السماويّ العظيم ليظهر على شكل قبلة على الجبين، على شكل جيش من أجنحة حمام مرفرفة، على شكل قطار بخاري ضخم على سعة الأرض، على شكل التفاتة وادعة حقيقيّة تسكن في الهمس ولا تخرج منه.

هذا الوعد الملعون مدفون في خراء الكوردات والبلغم. وهذا الشيء الخرائيّ الذي كسر عمودي الفقريّ النيّئ وحطّم قلبي الغبي العنيد لا يزال وعداً: الوعد، صانع العجائب، الوعد الوعد الوعد.

أقسم بأن الموسيقى كانت في وقت من الأوقات تنتمي إلى الناس. ذلك الوقت الذي كانت فيه الأغاني هي ما نقدّمه لبعضنا بغض النظر عن أجمل تعبير أو أشد الترنيمات غضباً وحزناً. كانت هذه الأغاني تجري بيننا كمعانقة أو مصافحة، كأقدس قربان لأحلام البشريّة، آمالهم، تأمّلهم والتباسهم. أو مثل كوردات تقرع في جِرسٍ مثاليّ تصيب السياسيينوالقضاة أو الجيوش المحتلّة القميئين بالذعر. أو مثل كل الفوضى الهائلة التي تغمر حيواتنا المرتحلة، والتي تطوّق الالتفاتات، أو اختناق يمزّق الحنجرة من كوردات تلعب على لحن مبهم.

كانت الموسيقى تنتمي إلى الناس الذين ينتشرون عبر هذه الصخرة الموحلة التي تدور. مجرّد بخار ناريّ من لعاب متماسك، مثل الضباب على أرض باردة باردة. على هذه الأوساخ المجانيّة على أجمل أرض جوعى. معلّقة هناك كقيثارات مقدّسة في الضباب. تحتضن أطفالاً نحيلين جميلين مصابون بالسلّ. كانت الموسيقى كان يوماً ما خلاصاً. خلاصاً لا يزال يشتعل كحمّى عظيمة أحياناً، صوتاً لحنيننا العنيد، توقنا لأن نتحرّر، رغباتنا المدفونة، شعلة الشمعة الذاوية التي تشتعل مرة أخرى. الأشياء التي تزأر في صدرك والتي تطلقها مثل كلاب شائخة ودائخة، أو مثل بهلوانات مهرجي سيرك. كل هذا، يشكل المشهد أحياناً. وعلى الرغم من أن النار تشتعل أحياناً بين أشخاص يتجمعون في غرف متناثرة، وعلى الرغم من أن صرخة عظيمة تدوّي حول العالم لثانية ضد كل الخلافات القميئة. تدرك فجأة بالضبط موقفك، وتتابع حياتك على أساسه، مجتمعاً مع كل التواقين والمشتعلين: تكافحون من أجل دمعة خرائيّة تضاجعون فيها كس أخت هذا الخراء.

ولكن لماذا؟ لماذا يقيّد هذا الوعد؟ لماذا يخنق ويطعن في الظهر ويرمى في نهر البول هذا؟ لماذا يهجر في العليّة مع رصاصات صدئة ومخلّفات تكسر القلب؟

وكيف يمكن أننا في العام 2003، ونحن المؤمنون الصادقون، تائهين في الصحراء الخرائيّة مرة أخرى؟ في هذا الميدان كالسبتيين، نعيش على أكثر قليلاً من مجرّد شوربة رديئة ونوستالجيا فظيعة لماضٍ متخيّل لم يكن إلا غباراً ووعداً على أيّ حال.

هذا يعني أن ليس هناك من يؤمن بأن الموسيقى تشكّل تهديداً بعد الآن. هذا يعني أنه ليس هناك من داعٍ لأن يكسر قتلة فاشيون أصابع فيكتور جارا التي تنقر الغيتار في مركز اعتقال بعد الآن. ذلك لأننا خسرنا المعركة، وأن كل الأشخاص الجيدين حزموا أمتعتهم وتركوا الخطوط الأولى منذ زمن بعيد. ولا يتّفق الجميع، كما كان الوضع، وكما سيبقى، على أن الموسيقى عبارة عن مهرّج بلاط، ودبب باندا مع دفوف لطيفة.

ويا إلهي على كل هذا الخراء، كل هذا الخراء المقيت المنتشر في الموسيقى الخرائية الخرائية. "الموجة الخرائية الجديدة"، أو "الخراء المقبل". لا نهاية لكل الخراء المعالج والسريع التحضير الذي يتناسل على لوحات الإعلانات في كل مدننا العفنة.

كل المسيرات المحزنة التي لا نهاية لها مع كل الدمى التي تئن وتسير ببطء والتي تملأ جيوبها بلازمات موسيقيّة أنيقة وتهويمات للبحث عن نجوم. وهؤلاء الأولاد والبنات الفخورين والأذكياء والفقراء مقتنعين بأنهم سيهزمون الماكنة قبل أن تهزمهم. كل هذا لمصلحة هذه الصناعة الكريهة الملعونة التي تقوم على الأكاذيب حتى تتبختر، معميّةً، إلى الأمام. وتبيع تساؤلاتنا لنا بأرباح مضاعفة. وهذه السرقات تتمكيج بذرائع لطيفة حتى يصبح من الصعب تحديها. ويا إلهي، يا إلهي، كم من أيدٍ كسولة وممنكرة توضع على أكباد تلك الماكنات الرثّة.

وكلهم تروبادورات مضللون يتمسّحون ببيض الإمبراطور مثل جحوش كبيرة معميّة مع عرف مسرف الطول، مزينين بسروج وسلاسل من الفضة، كاشفين عن مؤخراتهم بعيونهم الجميلة الجميلة جداً. وأنا أدعو الله أن يضعني في رصاصة، في شيء صغير ودقيق وموجع، ويا الله أطلقني بهيبتك بخلودك بحكمتك، ودعني في طريقي. أو أن أطلب غالوناً من بوظة بالشوكلاته و300 سيجارة وأصرخ: اخرس، ألا ترى بأنني أحاول أن أشاهد التلفزيون؟

أسأل الآن: ما هو، بحق جهنّم، كل هذا؟ وإلى أين نذهب؟ إنه يشبه برنامجاً تلفزيونيّاً أميركيّاً عن مطاردة لا نهائيّة لسيارات شرطة خلف شخص سيء. وبينما يقترب الأخير من الهرب، ينفجر إطار سيارته أو تنقلب السيارة وينتهي مقيّداً بالأغلال. الأسلحة فوقه، وذقنه على الرصيف: حكاية سخيفة ومنيوكة تقوم فقط بتحطيم قلبك.

أحياناً، يبدو لي أن كل الموسيقى المعاصرة تشبه ذلك: نظام متلاعب إلى حد أن لا أحد يمكنه النجاة من كل هذا الخراء لفترة طويلة، وحيث لا شيء يتغيّر. لذا: كس أخت هذا النظام لأن عالمنا تحكمه الفوضى. لكنني أقسم بأنني لا أزال مغرماً بكل اكتئاباتنا الرخيصة وكل صرخاتنا المبتهجة. وبأنني لم أجد الأجوبة إلا وأنا مسحوق، أو متهتّك في الفيضانات والانحسارات المتتالية المجنونة. وبأنني لا أزال، بشكل ما، أتلقى البهجة من الأصدقاء والغرباء. وبأنني لا أزال مذهولاً من الفاصل الأبدي بين الذين يحصلون على قوت عيشهم بالكتابة أو الحديث عن الموسيقى، وبين أولئك الذين يبحثون عن الأجوبة على المسارح المعتمة.

لكنني متأكد بأنني أعرف شيئاً واحداً: في هذه الأوقات، الأجوبة، التي نحاول ترقيعها إلى بعضها في الغرف المليئة بالدخان، هي تعويض على ما أعتقد. وربما هي أملنا الوحيد والأخير. وتلك الشعلات النحيلة التي تشتعل أحياناً لا تزال بحاجة إلى الحماية من الريح والمطر. ونحن: المؤمنون الأغبياء، يجب علينا أن نساند بعضنا بطريقة أو بأخرى على الرغم من أي شيء. حتى نكون قادرين على بناء صاروخ هائل من البصاق، وعلب الصفيح، والخيوط، ثم العثور على بقعة صالحة وغير مصطنعة، على ألا نخرج منها أبداً، ماشي؟

هذا الدفء الصالح يتفشّى في بطوننا لثانية أو اثنتان. ألا يتحق غذاء القلب الأساسي هذا أن نطيل مدة تدفقه؟ ألا نمتلك نحن، معالجو الشيفرات، والباحثون عن الأجوبة، الحق به؟

لذلك، علينا ألا نطمع بتراث الطرف الآخر، هذا التراث الإنساني الذي ينتج الضوضاء ويظهر جليّاً في التلعثم والاتقان سوياً. مثل ذلك الغموض الرائع لخلق الإنسان العظيم الأغاني من اللاشيئ: التلاعب بالخشب، والأسلاك والبصاق لإنتاج الضوضاء المقدّس.
ألم نخرج جميعنا من بطون أمهاتنا ونحن نقرقر ونغني ونبكي؟ ألم نزل جميعنا نغني ونقرقر ونبكي؟ وألا نحب تلك الأمور التي تكسر قلوبنا أكثر من أي شيء؟

والمقطع الأول سيبدأ: "اهتك عرضي بالقُبل". والمقطع الثاني: "كرّر حتى تموت". وعندما يأتي وقت الكورس، أرجوكم، لنتشقلب كلنا سوياً كحمامات مجنونة في الريح.



ترجمة: أ. ز

المراجع

مقالات في الموسيقى. ثيودور أدورنو

الاثنين، 14 نوفمبر 2011

حياة غير مستعملة تُشحن بدون أن تُمَس (II)

إلى زياد العناني


قبل أكثر من شهرين حبستُ نفسي في المطبخ. لا أذكر ممّ كنتُ منفعلاً فصفقت الباب بقوّة ولم يعد ينفتح. لديّ مشكلة مع الأبواب. أو ربّما أفكّر أنها لا يجب أن تكون بهذه الكثرة. ثمّة شيء في شكلها يدفعني دائماً إلى خلعها أو على الأقل صفقها بقوّة- وهذا ما حصل. حبستُ نفسي مع كل ما تعفّن وكل ما نسيت أن أخلطه بماء. في مشغل البكتيريا هذا- قلت لنفسي، إذا بقيت الليلة سأؤكل وأنا أنظر إلى القمر وهو يلتهم منخل الشبّاك المتسخ. ولكي أدّعي أمام نفسي أنني جرّبت كل الحلول، خلعت المقبض كله من الداخل. أعني الآليّة كلها: اللسان والزرفيل وما يشدّهما إلى جهتي.


في الجهة الأخرى كان المنزل يتّسع ويزداد إضاءةً. 


فكّرت في الأبواب التي ستنفتح مباشرة أمامي بنصف دفعة. فكّرت في جسدي وهو يميل إلى الأمام ببطء، ويلمس المقبض، ويحقّق شيئاً ميكانيكيّاً يوميّاً.


هناك حلم مشترك للبشريّة كلها، الحلم الذي يختزل كل الجهد والمعرفة والبذل النفسي. ومعرفة أن هذا الحلم لن يتحقّق يزيد من ضراوة السعي نحوه. الأديان تسميّه الجنة، الطبيعة تسمّيه الانقطاع عن العالم المادّي، لوتريامون يسمّيه الانتحار، كيركيغارد يسمّيه الانغماس في العدم، ويسمّيه وديع سعادة "المناطق النائمة في الدّماغ".


في تلك اللحظة، كان علي أن أبذل جهداً مضاعفاً للوصول إلى تلك المنطقة. كان عملاً استقلت منه مؤخّراً. إذ قررت بأنني لن أبذل أيّ جهد فائض باتجاه أي شيء أو شخص أو عدم.


في كل ليلة، أهيّئ نفسي لهذا الحلم، وأسمّيه النوم. واللحظة التي أنقطع فيها عن التفكير في هذا الحلم أكون داخله. مجرّد ثوانٍ أكون فيها أطفأت اللابتوب، ومددت أرجلي، ومسكت كتاباً، وفكّرت بالانتحار.


في البداية، كنت أفكر في الانتحار على أنه مجرّد نوم طويل. مساحة أعرّض فيها خلاياي إلى النوم، وأتخلّص من التفكير في طريقة جديدة كل مرة. كان الأمر مزعجاً آنذاك، إذ كان علي استثناء طريقة كل ليلة واختيار أخرى. لا أريده مؤلماً بالتأكيد، ولا صاخباً- اتّفقت مع خلاياي التي تشعر بالنعاس على ذلك. ثم طرأت مسألة المكالمة الأخيرة. ومسألة التردّد الأخير لمن أريد أن أهجس باسمه. والثياب التي سأرتديها، والهيئة التي أريد أن أغادر بها. لا أعلم بالفعل إن بدأت أتسلّى بالأمر، أو أنني انغمست فيه أكثر من اللازم. لكن ما أعرفه بالتأكيد أنني كل ليلة أذهب إلى نصف الطريق. وبأنني لا أعتقد أنه عندما سيحدث، سيكون أكثر إيلاماً من نصف الطريق.


هناك حيث تبدأ المشاهد بالتذبذب أمامي حتى أنام: بورتريهات خفيفة وبطيئة تتمشّى على حواف أعصابي التي حاربت من أجل إخمادها.


في العام 2004، قام لبنانيّ اسمه عمر نعيم بكتابة وإخراج فيلم The Final Cut، متحدّياً فيه فرضية ميلان كونديرا عن المشاهد البطيئة. ما قام به الأول أنه اخترع رقاقة لتسجيل حياة الشخص في دماغه. وبذلك يصبح لمحبيه، بعد موته، أرشيف كامل بين أيديهم. أما كونديرا فيعتقد أنه إذا أراد أحد تذكّر ما يستطيع من حياته، فلن يجمع الشريط الذي سيمرّ في ذهنه إلا بضعة ثوانٍ.


لا أعرف كم بقيت على الحافة التي تفصل شبّاك المطبخ عن شبّاك الصالون وأنا أحاول القفز مسافة متران. كنتُ معلّقاً بيد وقدم. اليد والقدم الأخريتان كانتا في منتصف الطريق. لكن مشهداً واحداً كان يتخدّر في ذهني وأنا أنظر إلى السماء المعكوسة بين الغيوم: زياد العناني في غرفة العناية الحثيثة: مستيقظاً بعد غيبوبة فشل الأطباء في إخراجه منها. يده في يدي، ممتنعاً عن الكلام، عيناه مركّزتان إلى حيث أحاول أن أتجنّب التحديق فيهما. 


كلانا كنا نعرف أننا قطعنا نصف الطريق. 

الجمعة، 11 نوفمبر 2011

كجثّة طفت على سطح نهر

قلنا له: أنصِفنا: إنّنا نحمل صورتك أينما حللنا. لم تسمَّ البلاد بأسمائها، بعد، لنصفَ لك غربتنا. 
تعبنا من الوصف- قلنا له: نتحرّك كالغبار في شوراع ظنّنا أنكَ حاميها. 
حتى أن أطلنا شعورنا، ووقفنا نمشّط أمام المرايا، طَفَتْ جثّتك على سطح نهر، وقرّرنا أننا سنحبّك.
أحببناكَ، وسمّيناكَ غريقنا الأجمل.
وهكذا كان لك اسماً من مقطعين، وكانت لنا أسماءً قصيرة، كأسماء غزاةٍ بشعر طويل وأوتار نشدّها على جلدٍ قاسٍ وصفيح مضروب.
وكنا عندما نتذكّرك، نشير لك بقبضاتنا التي رفعناها، كالأنتينات، إلى الأعلى.
وقلنا لك: أعنّا على قتلنا: هذا سخام بارد.
كلّ ما في الأمر أنّنا كنّا نفتقدك. لكنّك كنت ترتدي قمصاننا، وتنظر إلى نهرنا، وتربّت، مثلنا، على بؤسنا، وتطفو وحدكَ على أسطح منازلنا.
هناك، بينما كنّا نفسّر لكَ لغتنا، ونعدّ خطاك.
حتى أن وجدناك على الباب: الدم يقطر من أسنانك، وفي عينيك دموع حمر.
سألناك عن اسمك، لم تجب. وفكّرنا: أكان ينبغي أن ننادي طبيباً؟
لكننا استلقينا إلى جانبك، وأمسكنا بيديك. وأصبحتَ الآن حبيبنا.
وهكذا، وقعنا في غرام صبيٍّ ميّت.