الأحد، 3 نوفمبر 2019

العبور ||| كورماك مكارثي

في السادس والعشرين من حزيران في تلك السنة، عبرت مجموعة من الأويرتاريين مدينة روديو في طريقهم إلى توريون في الشرق. وصلوا في وقت متأخّر من الليل مشياً على الأقدام وكان عدد كبير منهم سكراناً، وخيّموا في العراء لدى المتنزّه، وأحرقوا المقاعد الخشبيّة ليشعلوا ناراً وفي الفجر الرمادي اعتقلوا أولئك الذين قالوا أنّهم متعاطفون مع المتمرّدين وأوقفوهم أمام الجدار الطيني في المزرعة وأعطوهم سجائر ليدخّنوها ثم أطلقوا النار عليهم بينما كان أطفالهم ينظرون وكانت زوجاتهم وأمهاتهم ينتحبون ويقطّعون شعورهم. عندما وصل الأعمى في اليوم التالي اصطدم بدون قصد بجنازة كان تطوي الطريق على طول شارع الطيني الرمادي وقبل أن يتمكّن من تبيّن ما يحصل أمامه تناولت فتاة يافعة يده وقادته إلى المقبرة المغبرّة في أطراف المدينة. هناك وسط الصلبان الخشبيّة المهترئة وأطباق الفخّار والزجاج الرخيصة التي نُصِبَت لجمع الصدقات لأوّل التوابيت الثلاثة المصنوعة من خشب الصّندل والتي طليت، على عجل، بزيت الفوانيس وسخام المداخن ووضعت على الأرض بينما لعب عازف الترومبيت لحن "مارشال إير" الكئيب وتحدّث أحد كبار القريّة بدلاً من القسّيس لأنّه لم يكن ثمّة قسّيسين. تشبّثت الفتاة بيده، ومالت باتّجاهه.

همست: إيرا مي إيرمانو ]كان أخي[.

قال الأعمى: لو سيينتو ]أنا متأسّف[.

رفعوا الميّت من الصندوق ووضعوه في أحضان رجلين اندفعا إلى القبر. وهناك وضعوه على التراب وأعادوا وضع ذراعيه حول صدره مرّة أخرى بعد أن سقطا ووضعوا قطعة قماش على وجهه. ثم مدّ حفّارو القبور الوقحين أيديهم إلى زملائهم الذين كانوا ينتظرون ورفعوهم من القبر ثم قام كل منهم بجرف كميّة كبيرة من التراب على الرجل الميّت في ثيابه الرثّة بينما كانت ترسّبات الرمل الرماديّة تهتز بخفوت وكانت النساء تبكي، ويحمل الصندوق الفارغ على الأكتاف عائداً إلى القرية لنقل جثّة أخرى. سمع الأعمى أصوات وصول أشخاص جدد إلى المقبرة الصغيرة، وسرعان ما اقتيد عبر الحشد المتكاتف لمسافة قصيرة ليقف مرّة أخرى ويسمع تأبيناً بسيطاً آخر.

سأل همساً: كيين إس؟ ]من هذا؟[.

تشبّثت الفتاة بيده وهمست: أوترو إيرمانو ]أخ آخر[.

وبينما كانا واقفان استعداداً للدفن الثالث، مال الأعمى وسأل عن عدد المدفونين من أفراد عائلتها لكنّها قالت أن هذا آخرهم.

أوترو إيرمانو؟ ]أخ آخر؟[.

مي بادريه ]أبي[.

قعقع التراب، وانتحبت النساء من جديد. وضع الأعمى قبّعته على رأسه.

عند عودتهم، مرّوا عبر موكب آخر في طريقه إلى المقبرة وسمع الأعمى نحيباً آخر وأقداماً متثاقلة أخرى تمشي تحت وطأة الميّت المحمول. لم يتكلّم أحد. عندما مرّوا عنهم قادته الفتاة إلى الطريق مرّة أخرى وعادا حيثما كانا أوّل مرّة.

سأل الفتاة عمّا إذا بقي أحد من أسرتها على قيد الحياة لكنّها قالت أنه لم يبق هناك سواها بعد أمّها التي ماتت منذ سنوات.

كانت قد أمطرت في الليلة الماضية وأطفأ المطر بقية النار التي خلّفها القتلة وكان الأعمى قادراً على شم رائحة الرّماد الرطب. مرّا عبر المزرعة الطينيّة حيث غسلت نساء القرية الجدار الذي اسودّ من الدم كما لو أنّه لم يكن هناك دم في الأساس. أخبرته الفتاة عن الإعدامات وسمّت له كل من مات وأخبرته من كان وكيف وقف وكيف سقط. احتجزت النساء حتّى تم إطلاق النار على آخر رجل ثم وقف زعيمهم جانباً وسارعوا إليهم وهم يحاولون احتضانهم وهم يموتون.

سأل الأعمى: إي تو؟ ]وأنتِ؟[.

اتّجهت إلى والدها أوّلاً لكنه كان ميّتاً. ثم إلى كلا شقيقيها، والأكبر أوّلاً. لكنّهما كانا ميتين. مشت بين النساء اللواتي قرفصن على الأرض واحتضن الجثث وهن يهدهدن وينتحبن. غادر الجنود بعيداً. اندلع عراك بين كلاب في الشارع. بعد فترة، جاء رجال يدفعون عربات. مشت وهي تحمل قبّعة والدها. لم تعرف ماذا تفعل بها.

وكانت لا تزال تمسك بالقبّعة في حضنها في منتصف الليل وهي جالسة في الكنيسة عندما توقّف حفّار القبور للحديث معها. قال لها أنّها يجب أن تذهب إلى المنزل لكنّها قالت أن والدها وشقيقيها ماتوا في المنزل على حصائرهم وأن شمعة احترقت على الأرضيّة وأنّه ليس ثمّة مكان تنام فيه. قالت أن منزلها ذهب مع من ماتوا ولذلك جاءت إلى الكنيسة. أنصت حفّار القبور إليها. ثم جلس بجانبها على المقعد الخشبي. كان الوقت متأخّراً، والكنيسة فارغة. جلسا جنباً إلى جنب وهما يحملان قبعتيهما، هي بقبّعة القش المحبوك العريضة، وهو بقبّعة الفيدورا السوداء المغبرّة. كانت تبكي. تنهّد وبدا منهكاً ومكتئباً بدوره. قال أنّه بينما يود المرء أن يعتقد بأن الله سيعاقب أولئك الذين يقومون بهذه الأمور وأن الناس يتحدّثون بهذه الطريقة في الغالب إلّا أنّه يعلم من تجربته أنّه لا يمكن الحديث مع الله وبأن الرجال الذي يمتلكون تاريخاً آثماً يتمتّعون في الغالب بحياة مريحة وأنّهم يموتون بسلام ويدفنون بكرامة. قال أنّه توقّع الكثير من العدالة في هذا العالم كان أمراً خاطئاً. قال أنّه يجري الحديث بكثرة حول ندرة الانتقام من الشرور لأنّه إذا لم تكن هناك فائدة منه فإن الرجال سيتجنبوه ولذلك كيف يمكن أن ترتبط الفضيلة بعد ذلك بنبذها؟ كانت طبيعة مهنته تقتضي أن تكون خبرته مع الموت أعظم من خبرة الكثيرين وقال أنّه رغم صحّة الاعتقاد بأن الوقت يشفي من الفجيعة إلّا أنّه لا يتحقّق ذلك إلّا على حساب انقراض أولئك الأحبّة البطيء من ذاكرة القلب الذي هو مسكنهم الوحيد آنذاك أو الآن. تتلاشى الوجوه، وتخفت الأصوات. همس حفّار القبور: اقبضي عليهم مرّة أخرى. تكلّمي معهم. نادي على أسمائهم. افعلي ذلك ولا تدعي الحزن يخمد لأنّه زينة كل هبة.

استعادت الفتاة هذه الكلمات لتخبر الأعمى حيث وقفا أمام جدار المزرعة. قالت أن الفتيات الصغيرات جئن وغمّسن مناديلهن في دم المذبوحين حيث تجمّع في التراب أو مزّقن شرائط من حواف تنانيرهن. داومت الفتيات على ذلك جيئةً وذهاباً كما لو كنّ مجموعة من الممرّضات الخرقاوات اللواتي انتزعت منهن كل ذكرى متعلّقة بوظيفتهن الصحيحة. سرعان ما انتقعت الأرض بالدماء ومع حلول الظلام وقبل أن يهطل المطر وصلت قطعان من الكلاب ونبشت الطين المنقوع بالدماء وأكلتها ثم زمجرت وتشاجرت وانسلّت بعيداً مرة أخرى وفي اليوم التالي لم يعد هناك أثر للموت والدماء والقتل.

وقفا صامتان ثم لمس الأعمى وجه الفتاة وخدّيها وشفتيها. لم يطلب منها القيام بذلك. وقفت بسكون شديد. لمس عيناها واحدة تلو الأخرى. سألته إذا ما كان جنديّاً وقال أنّه كان وسألته إذا ما قتل العديد من الرجال وقال أنّه لم يقتل أحداً. طلبت منه أن ينحني إلى الأسفل حتّى تتمكّن من إغلاق عينيها ولمس وجهه لتفهم عمّا يمكن معرفته بهذه الطريقة وفعل ذلك. لم يقل أنّه لن يكون الأمر ذاته بالنسبة إليها. عندما وصلت إلى العينين تردّدت.

قال: آنداليه، إيستا بيين. ]استمرّي، لا تقلقي[.

لمست الجفون المنطوية داخل المحاجر. لمستهم بأطراف أصابعها بلطف وسألت إذا ما كان ينتابه ألم هناك لكنّه قال أنّه لا يوجد إلّا ألم في الذاكرة فقط وأنّه يحلم أحياناً في الليل أن الظلمة بحد ذاتها كانت حلماً وأنّه يستيقظ ويلمس تلك العيون التي لم تكن في مكانها. قال أن مثل هذه الأحلام بمثابة عذاب له ومع ذلك لن يتمنّى توقّفها. قال أنّه بينما يجب على ذاكرة العالم أن تتلاشى، ذلك يعني أنّه يجب أن تتلاشى في أحلامه حتّى يأتي وقت يخشى فيه من أن يعم فيه الظلام الدامس وأن يختفي ظل العالم الذي كان. قال أنّه يخشى ما كان يحمله الظلام لأنّه كان يؤمن بأن العالم يضمر أكثر ممّا يكشف.

كان الناس في الشارع يمشون متثاقلين. همست الفتاة: بيرسينيسيه ]باسم الصليب[. لم يرد الأعمى أن يُفلت يدها لذلك دار حول نفسه وصلّب بيده اليسرى بشكل أخرق. تجاوزهما موكب الجنازة. أحكمت الفتاة قبضتها على يده مرّة أخرى ومشيا في طريقهما.

عثرت له من بين ملابس والدها على معطف وقميص وبنطلون. وضعت القليل من الملابس التي كانت في المنزل في كيس قماشي وربطته بإحكام وأخذت سكّيناً وهاون ومدقّة وبعض الملاعق مع ما بقي من طعام ووضعتها في شال سالتيّو. كان المنزل بارداً وكانت تفوح منه رائحة التراب. كان بإمكانه سماع أصوات دجاج، وماعز، وطفل في الخارج من بين الجدران والمآرب المنصوبة. أحضرت له الماء في دلو ليحمّم نفسه وفعل ذلك بخرقة وارتدى الملابس. وقف في الغرفة الصغيرة التي كانت المنزل بأكمله وانتظرها حتّى تعود. كان الباب مفتوحاً على الطريق وكان بإمكان الناس العابرين في الشارع في طريقهم إلى المقبرة رؤيته واقفاً هناك. عندما عادت تناولت يده مرّة أخرى وقالت أنّه يبدو غوابو ]جميلاً[ في ملابسه الجديدة وأعطته تفّاحة من التفّاح الذي اشترته ووقفا في الغرفة يأكلان التفّاح ثم حملا الصرتين على أكتافهما وانطلقا معاً.

مالت المرأة إلى الوراء. اعتقد الصبي أنّها ستستمر لكنّها لم تفعل. جلسوا صامتين.

قال: إيرا لا موتشاتشا. ]كانت الفتاة[.

سي.

نظر إلى الأعمى. جلس الأعمى بوجهه المرسوم نصفه بظل ضوء مصباح الزيت. لا بد أنّه شعر بالصبي وهو يتأمّله. قال: إيس أونا كارانتونا، نو؟ ]وهذا ضمان بذلك، أليس كذلك؟[.

قال بيلي: نو. إي أديماس، نو مي ديجو كيه لوس آسبيكتوس دي لاس كوساس سون إنغانوساس؟ ]إلى جانب أنّه لم يخبرني بأن جوانب الأشياء خادعة؟[.

ولأن وجه الأعمى كان يفتقر إلى كل التعابير، لم يسع المرء معرفة متى سيتحدّث أو ما إذا كان سيتحدّث على الإطلاق. بعد فترة، رفع يداً من الطاولة بتلك الإيماءة الغريبة التي يمكن أن تكون تصليباً أو يأساً. قال: بارا مي، سي. ]بالنسبة لي نعم[.

نظر بيلي إلى الامرأة. جلست كما كانت تجلس من قبل، بيديها المطويتان على الطاولة. سأل الأعمى إذا ما سمع عن آخرين عانوا من نفس المصيبة التي تعرّض لها على أيدي ذلك الرجل لكن الأعمى فقط قال أنّه سمع، نعم، لكنّه لم ير أو يلتق أحد منهم. قال أن العُمي لا يسعون لمصادقة العمي. وقصّ كيف سمع مرّة في آلاميدا في تشيهواهوا نقر عصى وتحدّث عن وضعه وسأل إذا ما كان الآخر موجود في تلك الظلمة المتبادلة. توقّف النقر. لم يتحدّث أحد. ثم استؤنف النقر وانسحب إلى أسفل الممشى واختفى بين أصوات المارّة في الشارع.

انحنى إلى الأمام قليلاً. إينتيندا كيه يا إيغزيستي إيسته أوغرو. إيستي تشابودار دي أوخوس. إيل إي أوتروس كوكو إيل. إيوس نو آن ديساباريسيدو ديل موندو. إي نونكا لو آران. ]نفهم أن هذا الغول موجود بالفعل. هذا سارق العيون. هو وآخرون مثله. لم يختفوا من العالم. ولن يفعلوا أبداً[.

سأله بيلي عمّا إذا كان مثل هؤلاء الرجال الذين سرقوا عيونه لم يكونوا إلا نتاجاً للحرب لكن الأعمى قال أنّه طالما كانت الحرب بحد ذاتها من صنيعهم، من الصعب أن يكون ذلك صحيحاً. قال أنّه برأيه لا يمكن لأحد معرفة أصول هؤلاء الرجال أو المكان الذي يمكن أن يظهروا فيه لكن يمكن معرفة وجودهم فقط. قال أن من يسرق عينا المرء يسرق عالماً ويبقى هو نفسه بهذه الطريقة مختبئاً إلى الأبد. فكيف يمكنه التحدّث عن مكانته؟

قال الصبي: إي سوس سوينيوس، سي آن إيتشو ماس باليدوس؟ ]وهل أصبحت أحلامهم أكثر شحوباً؟[.

جلس الأعمى لبعض الوقت. كان يمكن أن يكون نائماً. كان من الممكن أن يفكّر في كلمة غابت عنه. في النهاية قال أنّه في سنواته الأولى من الظلمة كانت أحلامه حيّة وفاقت كل التوقعات وأنّه تعطّش إليها لكن تلك الأحلام والذكريات تلاشت واحدة تلو الأخرى حتّى اختفت جميعها. لم يبق أي أثر لأي منها. شكل العالم. وجوه الأحبّة. في النهاية يختفي ذات الشخص فيه. وكل ما كان عليه اختفى الآن. قال أنّه مثل أي رجل يصل إلى نهاية شيء ما لم يكن هناك ما يمكن عمله سوى البدء من جديد. قال: نو بيودو ريكوردار إيل موندو دي لوس. آسي موتشوس آنيوس. إيسه موندو إيس أون موندو فراخيل. أولتيمامينتي لو كيه فينيه آ فير إيرا ماس دورابليه. ماس فيرداديرو. ]لا أستطيع تذكّر عالم النور. منذ سنوات عديدة. هذا عالم هشّ. في الآونة الأخيرة ما رأيته كان مستداماً أكثر. حقيقيّاً أكثر[.

تحدّث عن سنوات العمه الأولى حين كان العالم بانتظار أن يتحرّك. قال أنّه يمكن للرجال الذين يمتلكون أعيناً اختيار ما يريدون رؤيته لكن بالنسبة للعمي يظهر العالم بمحض إرادته. قال أنه كل شيء بالنسبة للعمي أصبح في متناول اليد فجأة، حتّى أن لا شيء أعلن عن نهجه. أصبحت الأصول والوجهات مجرّد شائعات. فأن تتحرّك يعني أن تتاخم العالم. اجلس بهدوء فيختفي. إين ميس مريميروس آنيوس دي لا أوسكوريداد بينيس كيه لا سيغيرا فويه أونا فورما دي لا مويرتي. إيستوفيه إيكفوكادو . آل بيردير لا فيستا إيس كومو أون سوينيو دي كايدا. سي بيينسا كيه نو آي نوغون فوندو إين إيستيه آبيسمو. سي كايه إي كايه. لا لوس ريتروسيدي. لا ميموريا دي لا لوس. لا ميموريا ديل موندو. دي سو بروبيا كارا. دي لا كارانتونيا. ]في سنواتي الأولى من الظلمة ظننت أن العمى كان شكلاً من أشكال الموت. كنت مخطئاً. فقدان البصر يشبه حلم السقوط. تعتقد أن لا يوجد قاع لهذه الهاوية. تسقط وتسقط. ينحسر النور. ذكرى النور. ذكرى العالم. من وجهه. من قناعه[.

رفع يده ببطء وأبقاها أمامه. كما لو كان يقيس شيئاً ما. قال إذا ما كان هذا السقوط سقوطاً حتى الموت فإن الموت ذاته سيكون مختلفاً عمّا افترضه الرجال. أين هو العالم في هذا السقوط؟ هل يتلاشى هو أيضاً مع النور وذاكرة النور؟ أو هل لا يسقط هو أيضاً؟ قال أنه فقد نفسه وكل ذكرى عن نفسه بالفعل في عماه، لكنّه وجد في أعماق ظلمة هذا الفقد أرضاً على المرء أن يبدأ منها.

إين إيسته بياخيه إيل موندو فيسيبله إيس نو ماس كيه أون ديسترايميينتو. بارا لوس سييغوس إي بارا تودوس لوس أومبريس. أولتيمامينتيه سابيموس كيه نوس بوديموس فير إيل بوين ديوس. فاموس إيسكوتشاندو. مي إينتينديس، خوبين؟ ديبيموس إيسكوتشار. ]في هذه الرحلة، العالم المرئي ليس أكثر من مجرّد إلهاء. للعميان ولجميع الرجال. في نهاية المطاف نعلم أنّنا لا نستطيع رؤية الله الكريم. لذلك لنستمع. هل تفهمني يا صبي؟ علينا أن نستمع[.

عندما توقّف عن الكلام سأله الصبي عمّا إذا كانت النصيحة التي نصحها حفّار القبور للفتاة في الكنيسة نصيحة سيئة لكن الأعمى قال أن حفّار القبور نصحها وفقاً لما يعرف ولا يجب أن يؤثم على ذلك. فمثل هؤلاء الرجال أخذوا نصيحة الموتى على عاتقهم. أو أنّهم يشفعون لهم عند الله بعد أن يذهب القسيس والأصدقاء والأطفال إلى منازلهم. قال أن حفّار القبور ربّما افترض أنّه قادر على الحديث عن الظلمة التي لا يعرفها، لأنّه إذا ما امتلك مثل هذه المعرفة لن يكون حفّار قبور. عندما سأله الصبي عمّا إذا كانت هذه المعرفة محصورة بالعمي قال أنّها ليست كذلك. قال أن معظم الرجال عاشوا حياتهم مثل النجّار الذي تباطأ عمله لتكاسله عن شحذ أدواته.

تساءل الصبي: إي لاس بالابراس ديل سيبولتوريرو آسيركا دي لا خوستيسيا؟ كيه أوبينا؟ ]ماذا عن حديث حفّار القبور عن العدالة؟ ما رأيك؟[.

عندئذٍ تناولت الامرأة وعاء قشر البيض وقالت أن الوقت تأخّر وأن على زوجها ألّا يضني نفسه. قال الصبي أن يتفهّم ذلك لكن الأعمى قال لهم ألّا يشغلوا أنفسهم. قال أنّه فكّر لبعض الوقت في سؤال الصبي، كما فعل الكثير من الرجال من قبله وكما سيفعلون من بعده. قال أنّه حتّى حفّار القبور سيفهم أن كل حكاية هي حكاية عن الظلام والنور وربما لن تكن خلاف ذلك. ومع ذلك، كان لا يزال ثمّة أمر إضافي وأنّه أمر لا يتحدّث الرجال عنه. قال أنّه لو علم الأشرار بعواقب أفعالهم فلن يعترض الرجال عليها. أن الرجال يتحمّلون عواقب الشرور الصغيرة وأنّهم سيعترضون عليها فقط. قال أن الشر الحقيقي يمتلك القدرة على توعية الشرير الصغير بعواقبها وأنّه يمكنه من خلال التفكّر بهذا الشر أن يجد الطريق الصحيح الذي لم تعتد خطواته عليه وربّما لا يقوى إلّا أن يسير فيه. قد يكون حتّى هذا الرجل مرعوباً ممّا انكشف أمامه وينشد نظاماً لمجابهته. لكن على الرغم من كل ذلك، يبقى هناك أمران لن يعرفهما على الأرجح. لن يعرف أنّه على الرغم من أن النظام الذي ينشده الخيّرين ليس خيّراً بحد ذاته، لكنّه ليس سوى نظام، وأن اضطراب الشر هو ذاته في الحقيقة. ولن يعرف أنّه على الرغم من تعثّر الصالحين لدى كل منعطف بسبب جهل الشر أن كل الشرور واضحة وضوح النور والظلام. سيسعى هذا الرجل الذي نتحدّث عنه إلى فرض نظام ونِسَب على الأشياء التي لا تمتلك ذلك. سيدعو العالم لأن يشهد بحقيقة ما هو في الواقع إلّا رغباته. وقد يسعى في تجسّده الأخير إلى ضمان كلماته بالدماء لأنّه بحلول هذا الوقت سيكتشف بلى الكلمات وفقدانها لطعمها، بينما يبقى الألم دوماً جديداً.

قال الأعمى: كيساس آي بوكا دي خوستيسيا إين إيسته موندو ]قد يكون هناك القليل من العدالة في هذا العالم[، ولكن ليس للأسباب التي يفترضها حفّار القبور. تكمن الأسباب في أن صورة هذا العالم هو بالأحرى العالم الذي لا يعرفون غيره، وبأن صورة هذا العالم محفوفة بالمخاطر. وأن ما وُهِب لمساعدته في شقّ طريقه في العالم يمتلك القوّة أيضاً على إعمائه عن طريقه الصحيح. لدى مفتاح الجنة القدرة على فتح بوّابات الجحيم. وسيعدم العالم الذي يتخيّل أنه ملاذ كل الأشياء الإلهيّة من كل شيء إلّا الغبار الذي يخلّفه. وذلك لأنّه كي ينجو العالم يجب تجديده يوميّاً. وعلى هذا الرجل أن يبدأ من جديد سواءً رغب في ذلك أم لا. سوموس دوليينتيس إين لا أوسكوريداد. تودوس نوسوتروس. مي إينتيينديس؟ لوس كيه بويدين فير، لوس كيه نو بويدين. ]نحن نعاني في الظلام. كلنا. هل تفهمني؟ أولئك الذين يبصرون والذين لا يبصرون[.

تأمّل الصبي في القناع على ضوء المصباح. قال الأعمى: لو كيه ديبيموس إينتيندير، إيس كيه أولتيمامينتيه تودو إيس بولفو. تودو لو كيه بوديموس توكار. تودو لو كيه بوديموس فير. إين إيسته تينيموس لا إيفيدينسيا ماس بروفوندا دي لا خوستيسيا، دي لا ميسيريكوردا. إين إيستو فيموس لا بينديسيون ماس غرانديه دي ديوس. ]ما يجب أن نفهمه هو أن كل شيء في نهاية المطاف عبارة عن غبار. كل ما يمكننا لمسه. كل ما يمكننا رؤيته. وهذا أبلغ دليل على العدالة وعلى الرحمة. ففي ذلك نرى أعظم نعم الله[.

نهضت الامرأة. قالت أن الوقت تأخّر. لم يبد الأعمى أيّ ردّة فعل، وجلس في مكانه كما كان. نظر الصبي إليه، ثم سأله أخيراً لماذا تعدّ هذه نعمة لكن الأعمى لم يجب ولم يجب، ثم قال في النهاية إن ما يتحوّل إلى غبار عندما نلمسه لا يمكن أن نعتبره أمراً حقيقيّاً. هي مجرّد آثار لما كان حقيقيّاً في أحسن الأحوال. ربّما هي ليست حتّى حقيقيّة. ربّما لا تشكّل أكثر من عقبات يتم التفاوض عليها تحت ظل عمه العالم المطلق.

عندما خرج في الصباح ليسرج حصانه كانت الامرأة تنثر الحبوب من كيس للطيور في الفناء. هبطت شحارير بريّة من الأشجار بخلسة لتأكل مع الدواجن لكنّها أطعمتها جميعاً من دون تمييز. راقبها الصبي. كان يفكّر أنّها جميلة جدّاً. سرج الحصان وتركه واقفاً وودّعهم ثم ركب حصانه وقاده مغادراً. عندما نظر إلى الخلف رفعت له يدها. كانت الطيور تتزاحم من حولها. قالت: فايا كون ديوس ]الله معك[.

قاد الحصان ليسيرا في الطريق. لم يسر بعيداً حتّى خرج كلب من الأحراش وسقط بجانب الحصان. كان قد تورّط في قتال وامتلأ جسده بالجروح والدماء وكان يضع مخلبه على صدره. أوقف بيلي الحصان ونظر إلى الكلب الذي مشى وهو يعرج بضعة خطوات وتوقّف.

قال بيلي: أين بويد؟

نخس الكلب أذناه ونظر إليه.

يا حمار.

نظر الكلب نحو المنزل.

كان في الشاحنة. ليس موجوداً هنا.

قاد الحصان إلى الأمام وتبعه الكلب في الخلف وانطلقوا شمالاً على الطريق.

وصلوا قبل الظهر إلى الشارع الرئيسي الذي يقع إلى شمال كاسا غرانديس وجلس في مفترق الطريق الصحراوي ونظر إلى الأرض العالية ثم إلى الجنوب لكن لم يكن ثمّة شيء يمكن رؤيته عدا السماء والطريق والصحراء. انتصبت الشمس عاموديّاً تقريباً. تناول البندقيّة من غمدها الجلدي المغبر ونزع الماسورة ونظر إلى الحشوة ليعرف قياس الطلقات التي تلقمها. كان قياس رقم 5 وفكّر في أن يضع رصاص خردق لكنه أعاد وضع رصاص رقم 5 في المخزن وأعادها إلى الغمد وانطلق شمالاً على طول الطريق المؤدّي إلى سان دييغو بينما كان الكلب يعرج في أعقاب الحصان. قال: أين بويد؟ أين بويد؟

نام تلك الليلة في حقل متغطياً بالبطانية التي أعطته إياه الامرأة. تقع تصدّعات نهر يجري عبر السهل على بعد ميل ربّما، يبدو أنّ الحصان ذهب هناك. استلقى على الأرض الباردة ونظر إلى النجوم. بدا الشكل القاتم للحصان على يساره حيث ربطه. يرفع الحصان رأسه فوق خطّ الأفق لينصت السمع إلى ما بين تشكيلات النجوم ثم ينحني ليرعى مرّة أخرى. تأمّل في تلك العوالم المترامية الأطراف في أجيجها الشاحب في ليلة بدون اسم وحاول أن يخبر الله عن شقيقه وبعد لحظات سقط في النوم. كان ينام ويستيقظ من حلم مقلق ولم يستطع أن ينام مرّة أخرى.

كان يسير بصعوبة في حلمه في الثلج المتراكم على طول سلسلة تلال باتّجاه منزل مظلم بينما لحقت به الذئاب حتّى السياج. ضربت الذئاب خواصر بعضها بأفواهها الهزيلة وتزاحموا عند ركبتيه وجرفوا الثلج بأنوفهم وهزّوا رؤوسهم وتجمّعت أنفاسهم في البرد لتحيط به كمرجل وبدا الثلج أزرق تحت ضوء القمر وبدت تلك العيون كأكثر توباز شحوباً حيث جثموا وعووا وطووا ذيولهم وتزاحموا وارتعدوا وهم يقتربون من المنزل ويكشّرون عن أسنانهم البيضاء ويدلون ألسنتهم الحمراء. توقّفوا لدى البوابة. نظروا إلى أشكال الجبال القاتمة في الخلف. ركع في الثلج ومد ذراعيه إليهم ليلمسوا وجهه بخطومهم البريّة وانطلقوا من جديد وكانت أنفاسهم دافئة وكانت رائحتهم تشبه رائحة الأرض وقلب الأرض. عندما وصل آخرهم وقفوا في شكل هلال أمامه وبدت أعينهم ككشّافات تضيء إحداثيّات العالم ثم التفتوا وساروا بعيداً ووثبوا فوق الثلج واختفوا كالدخان في الليل الشتوي. كان والديه نائمان في المنزل، وعندما انسل إلى سريره التفت بويد إليه وهمس له بأنّه كان يحلم، وأن بيلي كان يهرب من المنزل وعندما استيقظ من الحلم ورأى سريره الفارغ اعتقد أنّه كان حقيقةً.

قال بيلي: عد إلى النوم.

لن تهرب وتتركني، أليس كذلك يا بيلي؟

لا.

أتعد بذلك؟

نعم أعدك.

ولا تحت أي ظرف؟

نعم، ولا تحت أي ظرف.

بيلي؟

عد إلى النوم.

هش. ستوقظهم.

لكن في الحلم قال بويد بهدوء أنّهم لن يستيقظوا.

طال بزوغ الفجر. نهض ومشى بعيداً على مروج الصحراء وبحث في الشرق عن النور. ومع باكورة اليوم الرماديّة، انطلقت نداءات الحمام من شجيرات السنط. وهبّت الرياح من الشّمال. لفّ البطانيّة وأكل آخر قطع التورتيّا والبيض المسلوق الذي أعطته إيّاه وسرج حصانه وركبه بينما كانت الشمس تطلع من الشّرق.

في غضون ساعة كانت تمطر. حلّ البطانيّة من ورائه ووضعها فوق كتفيه. كان بإمكانه رؤية المطر قادماً من بعيد كجدار رمادي، وسرعان ما بدأ يضرب المنحدرات الطينيّة المسطّحة التي كان يسير عليها. تهادى الحصان في مسيره. ومشى الكلب بجانبه. وبدوا وكأنّهم منبوذون في أرض غريبة: مشرّدون ومطاردون ومنهكون.

الثلاثاء، 22 أكتوبر 2019

الانتحار كنوع من الحضور | دايفيد فوستر والاس



ترجمة فصل Suicide as a Sort of Present من رواية Brief Interviews with Hideous Men | دايفيد فوستر والاس


في يوم من الأيّام، كانت هناك أم عانت عاطفيّاً بشدّة في داخلها.

لطالما كانت تعاني حسبما تعود إليها ذاكرتها، وحتّى عندما كانت طفلة. ومع أنّها لا تتذكّر إلّا القليل من تفاصيل طفولتها، إلّا أن كل ما تتذكّره هو كرهها لذاتها، والرعب، واليأس الذي لطالما رافقها دوماً.

من وجهة نظر موضوعيّة، لن يكون من الخطأ اعتبار أن هذه الأم المستقبليّة عانت من حمل نفسي خرائيّ عندما كانت طفلة، وأن جزءاً من هذا الخراء وصف على أنّه سوء معاملة الوالدين. ومع أن طفولتها لم تكن بسوء طفولة البعض، إلّا أنّها لم تكن نزهة سعيدة. وعلى الرّغم من دقّة هذه المعلومات، إلّا أنّها ليست أهم ما في الأمر.

يكمن أهم ما في الأمر في أنّها لطالما كرهت هذه الأم المستقبليّة نفسها منذ عمر مبكّر حسبما تعود إليها ذاكرتها. وأنّها تعاملت مع كل شيء في الحياة من منطلق الفزع، كما لو كانت كل مناسبة أو فرصة تشكّل نوعاً من الامتحانات المهمّة للغاية والتي منعها كسلها أو غبائها المفرطان من التحضير إليها بشكل مناسب. وبدا الأمر كما لو كان إحراز العلامة الكاملة في مثل هذه الامتحانات أمراً ضروريّاً لتجنّب عقوبات ساحقة. كانت مرعوبة من كل شيء، وكانت مرعوبة من إظهار ذلك.

عرفت الأم المستقبليّة جيّداً، ومنذ سنّ مبكّرة، أن هذا الضغط الرهيب المتواصل الذي شعرت به كان مصدره داخليّ. وأنّه لم يكن خطأ أيّ شخص آخر. ولذلك، كرهت نفسها أكثر. كانت تتوقّع من نفسها أن تكون مثالية مطلقة، وفي كل مرّة شعرت أنّها قصرّت عن الكمال، كانت تمتلئ بيأس غامر لا يطاق ينذر بتحطيمها كمرآة رخيصة. انطبقت هذه التوقّعات المثاليّة على كل جزء من أجزاء حياة الأم المستقبليّة، خاصّة تلك التي تستدعي قبول أو رفض الآخرين. لذلك، كان ينظر إليها في طفولتها ومراهقتها على أنّها فتاة لامعة، وجذّابة، وذات شعبيّة، ومثيرة للإعجاب. وبدا أن أقرانها يحسدون طاقتها، ودافعها، ومظهرها، وذكائها، وسجيّتها، ومراعاتها الدائمة لاحتياجات ومشاعر الآخرين، إذ كان لديها عدد قليل من الأصدقاء المقرّبين. وخلال فترة مراهقتها، أشارت السلطات، مثل المعلمين، وأرباب العمل، وقادة الفرق، والقساوسة، ومجلس مستشاري الكليّة، إلى أنّه يبدو]بدا[ على الأم المستقبليّة توقّعات كبيرة للغاية من نفسها، وبما أن هذه الإشارات كانت في كثير من الأحيان ما تصدر بنَفَس قلقة أو لوّامة، لم يكن هناك أيّ لبس في تمييز الإشارة الطفيفة، لكن الجليّة، بالقبول- قبول حكم السلطة المنفصل والموضوعي- وعلى كل المستويات، شعرت الأم المستقبليّة (في الوقت الحالي) بالقبول. وشعرت بأنّها مرئيّة: فمعاييرها كانت عالية. وشعرت بالفخر الدنيئ تجاه قسوتها على نفسها.

وبحلول الوقت الذي كبرت فيه، سيكون القول بأن الأم المستقبليّة كانت تعاني بشدّة في داخلها بالفعل أمراً دقيقاً.

عندما أصبحت أمّاً، أصبحت الأمور أكثر صعوبةً. واتّضح أن توقّعاتها من طفلها الصغير كانت مرتفعة للغاية أيضاً. وفي كل مرّة يقصّر الطفل، يدفعها ميلها الطبيعي لأن تكرهه. وبعبارة أخرى، في كل مرّة تنذر تصرّفات الطفل بخرق المعايير المرتفعة التي شعرت الأم في داخلها أنّها تتمتّع بها فعلاً، تسلّط كراهية الأم الغريزيّة لذاتها على الطفل نفسه. وما يضاعف من هذه النزعة حقيقة أنّه لا يوجد، في ذهن الأم، سوى فاصل ضئيل للغاية بين هويّتها وهويّة الطفل الصغير. إذ بدا أن الطفل، في معنى من المعاني، انعكاس لذات الأم في مرآة مصغّرة ومتصدّعة بشكل عميق. وبالتالي، وفي كل مرّة يكون فيها الطفل وقحاً، أو جشعاً، أو بذئياً، أو مغفّلاً، أو أنانيّاً، أو قاسياً، أو متمرّداً، أو كسولاً، أو أحمقاً، أو عنيداً، أو طائشاً، كان ميل الأم الأكثر طبيعيّة وعمقاً إلى كرهه.

لكنّها لم تستطع أن تكرهه. لا يمكن لأيّ أمّ صالحة أن تكره طفلها أو أن تحكم عليه أو تسيء إليه أو تفكّر في إيذائه بأيّ طريقة. كانت الأم تعرف ذلك. وكانت المعايير التي وضعتها لنفسها كأم، كما يتوقّع المرء، عالية للغاية. وهكذا، كلّما "غاب عن بالها"، أو "فقدت سيطرتها فجأة"، أو "فقدت صبرها" لتعرب عن (أو حتّى تشعر) بكره (مهما كان ضئيلاً) الطفل، تغرق الأم على الفور في هوّة اليأس واللوم لأنّها شعرت أنّه لا يمكن تحمّله. ومن ثم كانت الأم في حالة حرب. وكانت توقّعاتها تواجه صراعاً مصيريّاً. كان صراعاً شعرت فيه أن حياتها كانت على المحك: فالفشل في التغلّب على خيبتها الغريزيّة من طفلها سيؤدّي إلى عقوبات رهيبة ومدمّرة تعلم أن عليها تدبيرها مع نفسها في داخلها. كانت مصمّمة- بيأس- على النجاح لتلبية توقّعاتها من نفسها كأم، وبغض النّظر عن الكلفة.

من وجهة نظر موضوعيّة، نجحت الأم في جهودها للسيطرة على نفسها بشكل كبير. وفي سلوكها الظاهر تجاه الطفل، كانت الأم محبّة، ورحيمة، ومتعاطفة، وصبورة، ودافئة، ومنفتحة بلا شروط وبلا كلل أو ملل، وكانت تصرفاتها خالية تماماً من أيّ حكم أو رفض أو كبت حبّها بأي شكل من الأشكال. وكلّما كان الطفل أكثر كراهةً، كانت تتطلّب الأم من نفسها حبّاً أكبر. ولم يشب سلوكها، بأي معيار يمكن قياس سلوك الأمهات المتميّزة فيه، أيّ شائبة.

في المقابل، كان الطفل الصغير أثناء نموّه يحب الأم أكثر من كل الأشياء الأخرى في العالم مجتمعة. ولو كان يمتلك القدرة على التعبير عن نفسه الحقّة بطريقة ما، لكان الطفل قال أنّه شعر أنّه طفل شرّير، طفل كريه حصل، بضربة حظّ غير مستحقّة، على أفضل وأجمل أمّ وأكثرهن محبّةً وصبراً في العالم كلّه.

وبينما كان الطفل يكبر، امتلأت الأم في داخلها بالكراهية واليأس. من المؤكّد أنّها شعرت بأن كذب وخداع الطفل وترويعه لحيوانات الجيران الأليفة كان خطأها، فمن المؤكّد أن الطفل كان يري للعالم ببساطة أوجه القصور البشعة وعجزها المثير للشفقة كأم. لذلك، عندنا سرق الطفل أموال اليونيسيف من صفّه، أو لوّح بقطّة من ذيلها وضرب بها زاوية طوب المنزل المجاور مراراً وتكراراً، نسبت هذا الخلل البشع إلى نفسها، وكافأت دموع الطفل ولومه لنفسه بتسامح محب غير مشروط، ما أدّى بالطفل إلى اعتبارها ملجأه الوحيد في عالم الآمال المستحيلة والأحكام القاسية والاضطرابات النفسيّة الخرائيّة. وبينما كان (الطفل) ينمو، نسبت كل عيوبه إلى نفسها وتكبّدتها، وبالتالي: عُفي عنه، وأُعتق وولد مرّة أخرى، حتّى أنّها أضافت المزيد من الكره لمخزونها الداخلي.

وهكذا مرّت السنوات، في طفولته ومراهقته، وبحلول الوقت الذي أصبح فيه الطفل كبيراً بما فيه الكفاية للتقدّم بطلبات الحصول على التراخيص والتصاريح المختلفة، كانت الأم ممتلئة بالكامل تقريباً بالكراهية في داخلها: تجاه نفسها، تجاه الطفل المنحرف وغير السعيد، تجاه عالم الآمال المستحيلة والأحكام القاسية. لم تستطع أن تعبّر عن أيّ من هذا بالطبع. وهكذا قام الإبن- المستميت مثل كل الأبناء على رد الحب المطلق الذي قد نتوقّعه من الأمهات فقط- بالتعبير عن كل شيء بدلاً منها.


الخميس، 17 أكتوبر 2019

تنويعات ذات الشعر الذهبي | روبرت كوفر



ترجمة للقصة القصيرة The Goldilocks Variations | روبرت كوفر. والذي أعاد فيها كتابة قصّة الأطفال "ذات الشعر الذهبي والدببة الثلاث" مقلّداً هيكل مقطوعة تنويعات غولبيرغ المشهورة لباخ.


آريا
تدخل جي الكوخ غير المأهول. عصيدة، وكراسٍ، وأسرّة. ساخنة جدّاً، باردة جدّاً، عالية جدّاً، عريضة جدّاً، قاسية جدّاً، ناعمة جدّاً. مناسبة تماماً. جي تأكل، وتكسر، وتنسلّ. يعود المالك. متسلّل.
تدخل جي، قاطفة الزّهور البريّة، الكوخ الصّغير الدّافئ في الغابة، وهي تعرف أو لا تعرف من في داخله، بينما غاب المالكين كما لو جرى ترتيب الأمر. ثلاث أوانٍ من العصيدة، ثلاثة كراسٍ، ثلاثة أسرّة. ساخنة جدّاً، باردة جدّاً ، عالية جدّاً، عريضة جدّاً، قاسية جدّاً، ناعمة جدّاً. مناسبة تماماً. قاعدة الثلاث مرّات. جي تأكل، وتكسر، وتنسلّ. يعود المالكين. ثمّة متسلّل.
تلتقط جي، المتململة بطبيعتها، الزّهور البريّة وتطارد الفراشات في الغابة، حتّى أتت على كوخ صغير دافئ في بقعة منعزلة. وهي تعرف أو لا تعرف من في داخله (ثمّة قصص متداولة حول الموضوع). تتلصّص من ثقب المفتاح. واتتها فرصة غياب المالكين، لذلك تدخل. ثمّة ثلاث أوانٍ من العصيدة على الطاولة تركت لتبرد. تتذوّقها: ساخنة جدّاً، باردة جدّاً، مناسبة تماماً (تأكلها كلّها). ثمّة ثلاثة كراسٍ. تجلس عليها: عالية جدّاً، عريضة جدّاً، مناسبة تماماً (تكسرها). تشعر بالنعاس. ثمّة ثلاثة أسرّة في الطابق العلوي. تجرّبها كلّها: قاسية جدّاً، ناعمة جدّاً، مناسبة جدّاً (تنسلّ إلى السرير). يعود المالكين. ثمّة متسلّل. توقّعوا ذلك.
تدخل جي، التي تطارد الفراشات بنفاذ الصبر، الكوخ الصغير في الغابة، وهي تعرف على الأرجح من في داخله (ثمّة قصص متداولة حول الموضوع)، وواتتها فرصة غياب المالكين. ثلاث أوانٍ من العصيدة، ثلاثة كراسٍ، ثلاثة أسرّة. ساخنة جدّاً، باردة جدّاً ، عالية جدّاً، عريضة جدّاً، قاسية جدّاً، ناعمة جدّاً. مناسبة تماماً. قاعدة الثلاث مرّات. جي تأكل، وتكسر، وتنسل. يعود المالكين. وصل المتسلّل الذي كانوا يتوقّعونه.
تدخل جي الكوخ غير المأهول. عصيدة، وكراسٍ، وأسرّة. ساخنة جدّاً، باردة جدّاً، عالية جدّاً، عريضة جدّاً، قاسية جدّاً، ناعمة جدّاً. مناسبة تماماً. جي تأكل، وتكسر، وتنسل. يعود المالكين. متسلّل. لكن أين هي الآن؟

التنويعة الأولى
هي في مطبخ الكوخ الصغير الدافئ الذي أتت عليه في الغابة، وترفع أغطية الثلاث أواني من العصيدة على الطاولة، وكلّ منها بلون أساسي كما لو كانت تلك قاعدة ما. لا تعرف لمن الكوخ، لكن بينما كانت تلتقط الزهور، شاهدت عائلة أشياء وحشيّة وافترضت أن الكوخ لها. هل كان التطفّل على منزلهم في غيابهم أمراً غير مناسب؟ أو هل غادروا حتّى تتطفّل عليهم؟ قرأت جي وتقرأ قصصاً عن هذه الأكواخ وشاغليها الهمجيين الذين كانت تحذو حذوهم، وهي تحذو حذوهم الآن بينما تتذوّق أواني العصيدة بملاعق خشبيّة لتختبر حرارتها. الأولى ساخنة جدّاً، والتالية باردة جدّاً، والصغيرة مناسبة جدّاً. سبرت معنى هذا الأمر واعتقدت أنّها تعرفه، وتعرف ماذا سيحدث بعد ذلك. ستكون هناك كراسٍ- ثمّة كراسٍ- وأسرّة وصحوات خشنة. تلتقط أصغر كرسي وهي متحمّسة تجاه رائحة الأشياء الوحشيّة وترقص معه متخيّلةً الرقصات الأخرى التي لم تأت بعد.

التنويعة الثانية
ترقص عائلة دال أيضاْ. يرتقي دال 1 ودال 2 وينخفضان ببطء من قدم إلى قدم، ويثب دال 3 بخلاعة وهو يستعرض براعة شبابه. يرى الجميع جي وهي تعبر بعينين مضاءتين بالترقّب البهيج، بالزهور البريّة على شعرها الذهبي، حتّى شعروا بالبهجة هم أيضاً. وبينما يتحدّث الآخران بحماس حول ما سيجدانه ويفعلانه، يجترّ دال 1 الاقتحامات التي جرت في الماضي، ومطاردات الفراشات الآخرين والشمطاوات السارقات، والثعلبات الخبيثات في تلك الأيّام التي لم يكن يتواجد فيها إلّا الدببة والثعالب. لكنّه يفكّر في الفتيات الملولات ذوات الشّعر الذهبي بينما يرفع قدماً ثمّ الثانية. تتذكّرهم دال 2 أيضاً. فبالفعل، الكوخ مسكون بوجودهم العابر. ثمّة من نام في سريري: شيئاً ستقوله وتسمعه اليوم مرّة أخرى. يقول دال 3 أنّه يريد أن يأكل هذه المتسلّلة. تقول دال 2 أن ذلك يخالف القواعد. يقول دال 3 أن ذلك أدعى لفعلته بينما يدوس ببهجة على الزهور البريّة والفراشات المتبعزقة هنا وهناك. وبينما كان يشاهده، يفترض دال 1 أنّه كان كذلك ذات مرّة، ويثب وثبة حزينة.

التنويعة الثالثة
ثمّة من كان يتذوّق عصيدتي، يتذوّق عصيدتي، عصيدتي. ثمّة من كان يجلس في كرسيي، يجلس في كرسيي، في كرسيي. تستمع جي في السرير إلى الأشياء الوحشيّة وهم يقرأون نصوص أدوارهم بينما ينبثقون من الغابة الشائكة ويسيرون حول الكوخ ثلاثة مرّات (قاعدة الثلاث مرّات)، ويردّدون الكلمات بدقّة، رغم أنّ كلّ منهم، على اختلاف أصواتهم، يتراجع خطوة عن الآخر كما لو كانوا صبياناً يلعبون. يمتلك الزعيم صوتاً قديماً هادراً، عميقاً ومزمجراً، كتابعيه الذين يمتلكون أصواتاً مزمجرةً أيضاً، لكنّها ليست عميقة. ثمّة من كان يستلقي في سريري، يستلقي في سريري، في سريري. هي تلك الـ"ثمّة" التي تلتفّ حول نفسها تحت غطاء أصغر سرير، المناسب تماماً، وهي تعرف ما يجب أن يحدث تالياً، لكنّها لا تعرف ما إذا كان سيحدث. الأمر مثير للغاية وهي تعزم على ألّا تنام لكنّها تفعل كما لو مسّتها لعنة فجأة. ثمّة من كان يتذوّق عصيدتي، يتذوّق عصيدتي، عصيدتي. يعرف دال 3 أنّه غير محظوظ لأن عصيدته ستؤكل، كسر كرسيّه، وتمّ اجتياح سريره، ولكن على الرّغم من صرامة قبضة الماضي على الحاضر، يمكن أن تحدث التنويعات التي ستكبّله بالخوف، لكن يمكن تخيّل نهايات جديدة على الرّغم من ذلك، وستنكسر إيقاعات قديمة. رآها. شهيّةً لكنّها غضّة. ثمّة من كان يجلس في كرسيي، يجلس في كرسيي، في كرسيي. تعتقد دال 2 أن دال 2 يعاني من أوهام الشباب التي تمنعه من رؤية أن التغيير بحد ذاته ليس تغييراً، وأن الإيقاعات الجديدة مجرّد استعادة للقديمة. فما الذي لم يتم تخيّله أو تخيّله حدث بالفعل؟ لكنّها لا تتعاطف مع المتسلّلة على أيّ حال. ففي الماضي، كانت مثل هذه المخلوقات تتخوزق على قبب الكنائس، ولن تمانع في أن يفعلوا ذلك الآن. يتّفق دال 1، الذي يقودهم حول الكوخ لدورة أخيرة بصوته الهادر العميق، مع دال 2 حول التغيير، لكنّه يعلم أن وهم التغيير يولّد الرغبة، وأن تحريض الرغبة الناعم هو ما يجعل الحياة ممكنة. انظروا إلى دال 3 الآن وهو يتقافز هنا وهناك بفرح ومتعة. لكن أيضاً هناك صراع الرغبات الذي لا مفر منه أيضاً. ثمّة من كان يستلقي في سريري، يستلقي في سريري، في سريري. انتهت مسيرتهم الاحتفاليّة، وهم يدخلون الكوخ.

التنويعة الرابعة
تحلم جي بأنّها ترقص مع الأشياء الوحشيّة وهي نائمة في أصغر سرير، المناسب جدّاً، في الكوخ الصغير. لا ترتدي أيّ ملابس لأنّها أيضاً شيئاً وحشيّاً. تحلم أنّهم يعتبرونها واحدةً منهم، ويحبّونها ويشاركون عصيدتهم معها، وأنّها تحبّهم. ترقص مع كل واحد منهم بدوره، واحداً تلو الآخر، وهي تضحك مبتهجةً، وهم يرفعونها إلى الأعلى ويضعونها على الأرض برفق مرّة أخرى. تشعر أنّها أميرة جميلة، أنّها أميرة الأشياء الوحشيّة، وهي ترتقي إلى الأعلى ليتيّموا بها. ثم يستمر أحدهم برفعها من دون أن يضعها على الأرض، يرفعها عالياً بحيث يمكنها رؤية سطح الكوخ وقمم الأشجار. تخاف فجأةً وتتوسّل إليه أن يضعوها على الأرض، لكنّهم يضحكون بعيداً هناك في الأسفل كأنّهم ينبحون بوقاحة. تسقط. تستيقظ. أين هي؟

التنويعة الخامسة
تفوح رائحة المتسلّلة المثيرة في كل مكان، لكنّهم يعرفون مكانها. يتقافز دال 3 كما لو كانت النّار في أثره، ويريد أن يقفز مباشرة إلى النهاية، لكن دال 1 يصرّ على الإلتزام بالشّكل الذي يبدأ بدلالات الملاعق الخشبيّة القائمة في أواني العصيدة. لكن على الرّغم من إبداء موافقته على الإسراع في الأمر، يكاد ألّا يخفي طغيانه الغامر هيجانه إلّا بشقّ الأنفس. فيندفعون بسرعة عبر محطّات تذوّق العصيدة والجلوس على الكراسي بينما يذرع دال 3 المحطّات جيئةً وذهاباً بفارغ الصّبر، وتقف دال 2 ببلادة في المنتصف لتؤدّي دورها رغماً عنها بأدنى قدر من الالتزام ومن دون بهرجة، ثم ينشد دال 3 (وهو يندفع سلفاً عبر الأدراج ليلحق به دال 1 ودال 2): ثمّة من كان يجلس في كرسيي، وكسّره تكسيرا. وفي غرفة نومهم، يتشمّمون بطّانياتهم لبرهة (مثير، خطير، لذيذ)، لكنّهم يتجاوزون إنشاد مقاطعهم ليتجمّعوا حول السرير الذي تنام فيه المتسلّلة ذات الشعر الذهبي. وبينما تفتح عينيها، تفتر وجوههم ببطء عن ابتسامة متشدّقة.

التنويعة السادسة
تستيقظ. أين هي؟ تتذكّر أنّها دخلت كوخ الأشياء الوحشيّة كما لو كانت مدعوّة، لتجرّب العصيدة والكراسي والأسرّة- لكن هل كان هذا حلماً؟ لا، ها هم يميلون عليها بشدّة ويظهرون أسنانهم جميعها. ثمّة من كان يستلقي، يستلقي، يستلقي، يهدرون، في سريري، سريري، سريري. كان أكبرهم ذو الصوت الأجش العميق يقودهم، لكن الآن يتقدّمهم أصغرهم. وها هي، هي، هي. ثم ضحكوا جميعاً بصخب، لكنّها لم تكن ضحكة لطيفة، إنّما بدت كنباح متوحّش. تبتسم على أمل وهي تسحب البطّانية حتّى ذقنها، وتبدأ الأشياء المتوحّشة بجرجرة أقدامهم ببطء في طقس احتفالي حول السرير. ستشجّعها هذه الرّقصة إذا كان ذلك الهدف منها لولا ذلك البريق المتوحّش في عيونهم. تتذكّر الآن حلمها الذي رقصت فيه معهم. حدث أمر سيئ. هل ترتدي ملابساً؟

التنويعة السابعة
كانوا قد سمعوا القصص التي تتحدّث عن فتيات بشعر ذهبي، وعن بهائهن الإلهي، وقدراتهنّ الشيطانيّة. تنتاب هذه القصص وتجسيداتها حيواتهم. إذ أن دال 2 بشكل خاص موبوءة بمثل هذه المخلوقات وتريد أن ترى هذه المخلوقة تتخوزق على قبب الكنائس مثلما كان يحدث للصوص في الماضي. تطارد القصص البائدة دال 3 أيضاً، والذي يرغب في أن تخلو حياته منها بأي وسيلة كانت وإلى الأبد. بينما يفضّل دال 1، الذي يبدو أنّه مرتاح لهذا التقليد، أن يرحّب بالمتسلّلة في العائلة، حيث لكل عضو الحريّة في استعمالها بالطريقة التي تحلو له. يقود فيتبعونه. يخرجها من تحت البطّانيّة ويرفعها عالياً. لا تزال ترتدي ملابسها، لكنّه يخلعها بضربه من مخلبه حتّى تصبح أقرب لعضو في العائلة، ثم يرقص رقصة مرحة قصيرة معها. تصدر أصواتاً يمكن أن تكون ضحكات أو صرخات، لا يسع المرء أن يتأكّد.

التنويعة الثامنة
كانت جي سعيدةً للغاية عندما اكتشفت كوخ الأشياء الوحشيّة. كان ذلك كقصّة خياليّة تتحقّق. فبعد النظرة الخاطفة الإلزاميّة عبر ثقب المفتاح، دخلت ووجدت كل شيء تماماً كما تخيّلت: ثلاثة من كل من العصيدة والكراسي والأسرّة تبعاً للقاعدة. لذلك، فعلت جي كل ما كان من المفترض أن تفعله بفرح، وهي جوهر الفرح،  وهي تنتظر المغامرة القادمة بفارغ الصبر. كان الأمر مثيراً للغاية، حتّى أن رائحتهم كانت مثيرة. كان الانسلال إلى أسرّتهم يشبه الانسلال إلى كهف دافئ في الغابة. كم كان أمراً مفاجئاً عندما رفعوا البطّانيّة. كانت تعرف بالطبع ما يحدث عادةً. وشاهدت النافذة المفتوحة. لكنّها اعتقدت هذه المرّة أن الأمر سيكون مختلفاً. هذه المرة كانت ستبقى لترى ما سيحدث تالياً. تفكّر الآن بينما تحلّق في الهواء النفّاث أنّه ربّما ضلّلتها القصص. إذ كانت تعتقد أن الأشياء الوحشيّة ستكون مثلها تماماً. لكنّهم ليسوا كذلك.

التنويعة التاسعة
يمرّرون المتسلّلة من يد إلى يد، قرصاً أحياناً ومداعبةً أحياناً أخرى، وفي بعض الأحيان قذفاً أو تأرجحاً من كاحليها، ويتم تكرار كل حركة ثلاث مرّات (القاعدة)، حيث يقودهم دال 1، والبقية يتبعونه. تصدر صريراً لا يمكن تحديد إمّا إذا كان صادراً عن السعادة أو الرعب، ما يضفي على متعتهم. حتّى دال 3 يقرّ بأن هذا أفضل من تناولها، على الرغم من أن هذا الخيار لا يزال مطروحاً إذا جاز التعبير. تقول دال 2: علينا تسمينها أوّلاً. يقول الآخرين: تسمينها، تسمينها. فهي مخلوقة نحيلة تخلو من الشّعر، وبالكاد سيحصل كلٌّ منهم على قضمة. قضمة بالكاد، قضمة بالكاد. خالية من الشعر، نعم، باستثناء خصلها الذهبيّة التي تنسج أشكالاً جميلة في الهواء بينما تحلّق، أشكالاً تعبّر عن بهجة العائلة بالحصول على متسلّلة للعب معها. وثمّة الكثير من الألعاب التي يمكنهم لعبها. ولن يسمح لدال 3 بأن يفسد متعتهم بنهاية متسرّعة للغاية.

التنويعة العاشرة
تدخل جي الكوخ غير المأهول. عصيدة، وكراسٍ، وأسرّة. ساخنة جدّاً، باردة، عالية، عريضة، قاسية، ناعمة. مناسبة تماماً. تأكل جي وتكسر وتنسل. يعود المالكين. متسلّل. لكن أين هي الآن؟
معلّقة من قدميها بعارضة فوق أسرّة عائلة دال، حيث يستلقون بعد جهودهم الممتعة، وهم يأكلون عصيدتهم الباردة ويتأمّلون في الألعاب التي لعبوها حتّى الآن ويتخيّلون الألعاب التي سيلعبونها لاحقاً. تتطاير خصلها الذهبيّة كالحرير فوقهم في النسيم المتدفّق من النافذة المفتوحة، وتسقط آخر الزهور البريّة المشبوكة بشعرها على بطّانيّاتهم. وعندما تسحب المتسلّلة نفسها لتنظر حولها (حيث لا مكان تذهب إليه، لتسقط مرّة أخرى إلى الأسفل)، يراقبها دال 1 بمتعة، ودال 2 بمقت، ودال 3 برغبات متناقضة.
تنظر جي وهي مقلوبة إلى العالم المقلوب رأساً على عقب. تتمدّد الأشياء الوحشيّة على أسرّتهم من تحتها وهم يراقبونها، مدمدين بأصواتٍ مستأنسة من حين إلى آخر. انتهى الغليظ منهم من عصيدته، بينما كانت الوسطى تأكل حصّتها، لكن كان على أصغرهم الذي يبدو أنّه الأكثر خطورة (بينما كان يتم إلقاؤها كان يقرصها من كل الأماكن كما لو كان يختبر كميّة اللحم الموجودة على عظامها) أن يستغني عن الأكل. يقول أكبرهم: يعيدني منظر الثعلبة المتحفّزة إلى الأيام الخوالي. تقول الوسطى: سأحتفظ بشعرها وأصنع منه شيئاً جميلاً. بينما يتمتم أصغرهم لنفسه بشيطانيّة: مع الثوم والزّعتر البري وعيش الغراب، وهو يلعق أضلاعه المشعرة.

التنويعة الحادية عشرة
تقتضي قواعد "اللعب بالمتسلّلة كالكرة" إبقائها طافية في الهواء بتمريرها سريعاً من يد إلى يد من دون إمساكها أو تهدئتها أو ترك أيّ جزء منها يلمس الأرض. فأثناء سقوطها، يقوم كلّ منهم بدوره بلطمها إلى الأعلى مرّة أخرى، ما يؤدّي إلى تحوّل المخلوقة الشاحبة إلى اللون الوردي، ممّا يزيد من سعادتهم. يضيف دال 3 بعض البهارات على اللعبة ويتحدّاهما بأن يضربا السقف بها حتّى ترتدّ بشكل أقوى وتتورّد المتسلّلة أكثر، وبينما ترتد أعلى وأعلى في الهواء، يغنّي لها تلك الأغنية الصّارخة والعالية. لكن تنجح دال 2 في النهاية باستخدام كلتا يديها لإيصالها إلى السّقف، وحين تسقط إلى الأسفل، تضربها ضربةً مدويّة لترتفع إلى الأعلى مرّة أخرى، لترفرف مثل الفراشة وتزيح الغبار عن العوارض الخشبيّة، ثم ترتفع إلى الأعلى للمرّة الثالثة (قاعدة الثلاث مرّات). وهنا عندما تسقط، يلتقطها دال 1 من كاحليها ويلوّح بها حول رأسه معلناً أن اللعبة التالية ستكون "تكنيس الأرض".

التنويعة الثانية عشرة
تشاهد جي العالم مقلوباً مرّة أخرى بينما تكنّس الأشياء الوحشيّة أرض الكوخ بخصلاتها الذهبيّة وهم مستمتعون، ويمرّرونها من يد إلى أخرى بإيقاع ثابت، بحيث يدور رأسها بعنف على بعد شعرة، كما يقولون، من الأرض. يغنّون: تكنيس الأرض متعتنا القصوى، متعة، متعة، يقودهم أضخمهم وهم يقشّون الأرض بها. تشعر جي بالرعب الشديد الذي يمنعها حتّى من الصراخ، إذ لا تستطيع إلّا أن تصرّ على أسنانها وتحدّق للأمام مباشرة بينما تحلّق الأرض تحتها وهي تفكّر، وليس للمرّة الأولى، أنّه ربّما أخطأت بالمجيء هنا. بحثنا عن مكنسة وهذه المكنسة مناسبة تماما، مناسبة تماماً، مناسبة تماماً. تكنّس الوسطى بها الأرض تحت الطاولة وتنفض الغبار عن سطحها، بينما يزيل أصغرهم شباك العناكب بها ببراعة عن الزوايا. يضرب أكبرهم خصلاتها بالخفافيش القابعة على العوارض، ثم يهزّها قليلاً لينفض الغبار. تعطس جي ليرتطم رأسها بالأرض، وتضحك الأشياء الوحشيّة بضحكاتهم المزمجرة. مناسبة تماماً، مناسبة تماماً، مناسبة تماماً.

التنويعة الثالثة عشرة
ترتفع جي وتسقط ببطء، ترتفع وتسقط كما لو أنّها علقت في حلقة لا نهاية لها، حلقة لم تعد مرتبطة تماماً بالأشياء الوحشيّة الذين قد لا يكونوا موجودين باستثناء أيديهم. لا تستمر حركتها طيلة الوقت، إذ تتوقّف للحظات في أسفل كل سقوط عندما تمسك بها تلك الأيدي المشعرة (التي تبدو وكأنّها علامة من علامات الترقيم)، قبل أن ترتفع ببطء نحو العوارض مرّة أخرى. تتكرّر هذه الدورة المتهتهة بدقّة متناهية بحيث تبدو ثابتة وساكنة حتّى في حركتها المستمرّة، لتثير فيها شعوراً غريباً لا يختلف عن الذعر. تصرخ: دعوني، أو تعتقد أنّها تصرخ رغم أنّها ترتفع وتسقط بصمت. مع ذلك، يجب أن يكون قد سمعها شخص ما، لأنّها تطير فجأة عبر الغرفة باتجاه النافذة المفتوحة. مهرب. يمر رأسها عبر النافذة لكنّها تشعر أنّها تُسحب من الخلف لتطير عائدة إلى أيديهم المشعرة. تطير مراراً وتكراراً باتّجاه النافذة وعبرها لترجع مرّة أخرى. يبدو الأمر وكأن المنزل مائل إلى جانبه بينما تستمر بالصعود والسقوط. وتطير ذهاباً وإياباً بشكل أسرع (أو إلى الأعلى والأسفل) حتّى حينما تترك الكوخ كلّه (أخيراً)، يتوقّف إيهام الحركة وتستيقظ لتجد نفسها ممدّدة على طاولة في المطبخ، حيث كانت أواني العصيدة، بتفّاحةٍ في فمها، وحيث تحوم الأشياء الوحشيّة حولها وهم يكشّرون متوعّدين.

التنويعة الرابعة عشرة
تجلس المتسلّلة، التي تتعافى من الضربة التي تلقّتها عندما عطست وارتطم رأسها بالأرض، على حافّة الطاولة وهي لا تزال تعضّ على التفّاحة وتنظر برعب إلى ثلاثتهم وهم يتجمهرون حولها بطريقتهم الوديّة العملاقة. يفكّر دال 3 بمتعة وهو  يثني مخالبه أنّها ربّما ستحاول الفرار حتّى يمكنهم أن يلعبوا لعبة الزقّيطة. أصبح الآن الجسد الشاحب الخالي من الشّعر ملطّخاً وامتلأ الشعر الذهبي بالعناكب، وهذا تحسّن في رأي دال 3، على الرّغم من أنّها لا تزال تمتلك رائحة غريبة دخيلة، والتي شبّهها برائحة بركة من المياه. يعتقد دال 3 أنّه وعلى الرّغم من أن ألعابهم تمثّل متعة كبيرة لجميع أفراد الأسرة، إلّا أنّها تعود إلى زمن بائد ويريد إنهائها. كان يتخيّل سلفاً المتسلّلة مشوية بالعسل على العشاء. لكن يصرّ دال 1 على المزيد من الألعاب. تمّ اقتراح العديد منها، مثل "مهد القطّة الذهبيّ"، و"شبك الدبّوس على ذيل المتسلّلة"، لكن دال 1 يقول أنّه كان يفكّر في ألعاب أكثر تقليديّة مثل "دببة وثعالب". تلتقط دال 2 إناء عصيدة وتحطّمها بغضب على الجدار.

التنويعة الخامسة عشرة
تدخل جي، مطاردة الفراشات الملولة، مطاردة، مطاردة، مطاردة، الكوخ الصغير في الغابة المنعزلة، غابة، غابة، غابة، كبير جدّاً، صغير جدّاً، صارم جدّاً، طائش جدّاً، خال من الشعر جدّاً، مشعر جدّاً، مشعر، مشعر، مشعر، فارغ جدّاً، ممتلئ جدّاً، بليد جدّاً، مضحك جدّاً، مخيف جدّاً- مخيف، مخيف، مخيف.
مع تحطّم إناء العصيدة، خيّم الصمت على مطبخ الكوخ. ونظروا إلى الشظايا بحزن. يبدو الأمر كما لو أن جزءاً من المرح الذي تمتّعوا به كان متواجداً في هذا الإناء الذي أصبح حطاماً. وهل كان أمراً ممتعاً بحق، أم كان مجرّد جهداً يائساً لدرء الفراغ؟ تنتزع المتسلّلة الشّاحبة التي تجلس على حافّة الطاولة التفّاحة من فمها وتقول بخجل: أريد العودة إلى المنزل. لا يسع دال 1 إلّا أن يهز رأسه ويكشّر عن أسنانه. يحطّم دال 3 إناءه على الجدار. بدأ كل من دال 2 ودال 3 بالأمر، لكن دال 1 لا يريد أن يتبعهما. لكنّه يعلن رسميّاً عن وجوب تغسيل وإلباس المتسلّلة لتتجهّز للألعاب التي لم تلعب بعد.
عقاباً على تحطيم آنية العصيدة الخاصّة به، أسندت إلى أصغر الأشياء الوحشيّة مهمّة تغسيلها وإلباسها. تكره جي يداه المشعرتين وعيناه التي تشعّان ببريق الرغبة، لكنّها لا تمتلك خياراً سوى الخضوع. سيفعلون بها ما يحلو لهم، حتّى أنّها تخشى أن تصبح عشائهم. تخيط الوسطى مئزرها الممزّق، وتمشّط العناكب عن شعرها الذهبي ويبدو عليها أنّها تتلذّذ بفك الخصلات المتشابكة. جاءت جي هنا متأمّلة بأمور كثيرة. حسناً، ربّما ذلك كان خطؤها: الأمل. شدّتها الأشياء الوحشيّة في ربطة مهد القطّة التي صنعوها من حبال حريريّة، وربطوا تنّورتها بحبل صيد سمك. أعلن أضخمهم أن "رقصة المشاغبة ماريونيت" ستفتتح لعبة "دببة وثعالب".
تدخل جي، مطاردة الفراشات الملولة، ملولة، ملولة، ملولة، الكوخ في الغابة المنعزلة، منعزلة، منعزلة، منعزلة، كبير جدّاً، صغير جدّاً، سعيد جدّاً، حزين جدّاً، مظلم جدّاً، مضاء جدّاً، مضاء، مضاء، مضاء، فارغ جدّاً، ممتلئ جدّاً، حاد جدّاً، ممل جدّاً، متوحّش جداً، مناسب جدّاً، مناسب جدّاً، مناسب جدّاً.

التنويعة السادسة عشرة
مع نفخة استهلاليّة من لعبة ترومبيت دال 3، تنزلق المتسلّلة على الطاولة وقدميها تكشط السّطح. وعندما تتوقّف تتأرجح قدميها. ترتدي مئزراً وبرنساً وتحمل سلّةً من الزهور البريّة. انحنت ركبتيها، وعلى الرّغم من أن يداها متدليّتان بحريّة على جانبيها، إلّا أن تنّورتها مرفوعة كأنّها تؤدّي تحيّة متحفّظة. يدمدم جمهورها ويصفّر. مناسب جدّاً.
عندما تظهر المتسلّلة بعد ذلك يشيّعها مرّة أخرى ترومبيت الصفيح، يكون مرسوماً على وجهها رسومات مبهرجة، وتنتصب خصلاتها الذهبيّة كأنها أشواك، ويملأ جيب مئزرها بالتفّاح. تركل ساقيها إلى الأعلى وتهزّ وركيها الصغيرين، ثم تدور حول نفسها، وتنحني، وعلى الرغم من أن يداها متدليّتان بحريّة على جانبيها، ترتفع تنّورتها كاشفةً عن محمرّ برّاق. يهدر ضحك كالعواء. شقيّة جدّاً.
تظهر المتسلّلة بشعرها الذهبي مرّة أخرى وهي تحمل سلّة من الزهور البريّة، وتنزلق على سطح طاولة المطبخ، وتتأرجح قدميها. وجهها ملطّخ بالدموع. ترتدي فقط برنساً فوق ذيل أحمر كثيف تلوّح به ذهاباً وإياباً وتهزّ وركيها الشاحبين الخاليين من الشعر بحصافة. يصفق دال 2 ودال 3 مخالبها سويّاً ببهجة. مناسبة جدّاً.

التنويعة السابعة عشرة
تنزلق الثعلبة الشّاحبة ذات الخصلات الذهبيّة على الطاولة وهي جاثمة ورأسها بين أقدامها الأماميّة ومرفقيها تكشطان السّطح، بينما يرتفع ذيلها الكثيف عالياً. يتسبّب لاعب الدمى في ارتفاع قدمي المخلوقة الثعلبيّة الخلفيّتين إلى الأعلى، وإلى تأرجح ذيلها جيئةً وذهاباً بشكل استفزازي، لذلك ينبح المتفرّجون ويضربون بمخالبهم على بعضها. تتدحرج الثعلبة الصغيرة على ظهرها وتلوّح أطرافها في الهواء كأربعة راقصين على مسرح جذعها الشاحب، وتتقاطع وتتشابك وهي تتماوج، ثم تثب على ساقيها الخلفيتين لتؤدّي حركة استعراضيّة رشيقة وهي تهز ذيلها بشدّة، ثم تكرّر نفس الحركة عكسيّاً على قدميها الأماميّتين، ثم على مرفقيها، وعلى رأسها الذهبي، وعلى أصابع قدميها مرّة أخرى. تستأنف جثومها وذيلها الكثيف مرتفع إلى الأعلى وهي تتطلّع إليهم عبر عيونٍ دامعة. ثم تبدأ في تكرار أداءاتها السابقة بشكل هوسي، إلّا أن الأداء هذه المرّة أسرع، وأطرافها تطير في كل مكان. يطرق المتفرجون على الطاولة وينبحون بعنف. تهزّ وتلفّ أسرع وأسرع حتّى يطير ذيلها من مكانه. يتزايد الطرق على الطاولة بينما ترتفع لتتدلّى بإرهاق من فوق الطاولة. ويعلن لاعب الدمى عن نهاية العرض قائلاً: "هذا عقاب نفاذ الصبر".

التنويعة الثامنة عشرة
بينما يلبسها أكبرهم مئزرها الأبيض الرثّ مرّة أخرى، ويضع جواربها، ويعيد ربط جميع أربطتها الحريريّة، يقود الآخرين في جولة أخرى من الهتافات الجذلة. ليصفوا، بأصوات متداخلة، فتاة ملولة تمتلك شعراً ذهبيّاً وتلتقط الزهور البريّة وتطارد الفراشات، والتي تدخل كوخاً منعزلاً من دون إذن، وتأكل عصيدة شخص آخر، وتكسر كرسيّ، وتنسل إلى سرير شخص آخر، وتنهض بوقاحة. ومع تكرار كل عبارة، تصبح الهتافات مخيفة أكثر فأكثر، مع كشراتهم التي تكشف عن أسنانهم، وضحكاتهم القاسية. ما الذي حدث للنافذة المفتوحة؟ تتمنّى الآن لو أنّها تعود إلى منزلها مرّة أخرى، لكنّها تشكّ في أنها داخل قصّة تتحقّق فيها الأمنيات. ثمة من كان، من كان، من كان، ينام في، في، في، سريري وهاي هي، هاي هي، ها هي، ذي، ذي، ذي. علّقت سلّة من الزهور البريّة بمعصمها، وترتفع بالأربطة لتعلّق فوق طاولة المطبخ. تلمع أعين جمهورها بترقّب. البقاء في المنزل أمر ممل للغاية. والرقص مع الأشياء الوحشيّة أمر مرعب للغاية. فأين المفر؟

التنويعة التاسعة عشرة
يعلن ترومبيت الفصيح الحركة التالية، لتنزلق الفتاة في المئزر على الطاولة بينما تتأرجح قدماها، وتتعلّق سلّة من الزهور البريّة بذراعها. تعبّر الفتاة عن البراءة بحد ذاتها. لكنّها ليست بريئة. فهي متسلّلة ملولة. وتمسك بإناء العصيدة بيديها وركبتيها. ترفعها إلى فهما، وتميل إلى الخلف بركبتيها إلى الأعلى: تتحمّم بالعصيدة. ثمّة من يدمدم متّهماً، لكن ثمّة من ينبح بضحكات وقحة أيضاً. يقفز أصغرهم على الطاولة ليلعقها وينظّفها لكن لاعب الدمى يزيحه بعنف. يظهر كرسي. تجلس الفتاة عليه. لا يحدث شيء. ثمّة من يرفعها ويعيدها عليه. لا شيء يحدث. ثمّة من يرفعها إلى العوارض. تصرخ. يضحكون. تسقط بعنف هذه المرّة لتكسر الكرسي. المزيد من الدمدمات الطقوسيّة والنباح. تسحب الأربطة وتُنزع ملابسها لتبقى مرتدية شعرها الذهبي. تبقى آثار حمرة الخد، لكن اختفت الآن آثار البهاء الإلهي والقدرات الشيطانيّة. يأخذها لاعب الدمى ويتحرّك باتّجاه الدَّرَج. وعندما يلحق به الآخرين، يلتفت ويزمجر. زمجرات ممتعضة.

التنويعة العشرين
حلمت جي بالرقص مع الأشياء الوحشيّة. وفعلت ذلك. ولم يكن الأمر مثلما تخيّلت. ففي قصّة أخرى، ربّما كانوا جميعاً أمراء وسيمين في هيئة حيوانات. لكنّها الآن في هذه القصة، وهي في طريقها إلى أعلى الدَّرَج بين ذراعي وحش ضخم لاهث، ومربّطة بكتلة من الأربطة الحريريّة. تمّت معاقبتها بشدّة، لكن من الواضح أنّه ثمّة المزيد على الطريق. قاعدة الثلاث مرّات. يسمّيها ثعلبته الصغيرة ذات الذيل الكثيف. وفي مكان ما في الكوخ، يمكن سماع تحطّم أواني العصيدة. وفي المطبخ، يقوم دال 3 بتحضير صلصة روبرت، والذي يقول أنّها صلصة مثالية للمتسلّلة المشويّة- بصل مفروم مقلّى مع الزّبدة وقليل من النبيذ الأبيض والفلفل، مع إضافة صلصلة ديمي غلايز مع الخردل- لكنّه لا يمكنه إيجاد الخردل. هي التي تغلي العصيدة كل يوم، وتحافظ على نظافة غرفة الجلوس، وتسوّي أسّرتهم، وتطيح ببقايا الآنية جانباً لتريه الخردل. إذ قامت بإعداد صلصة ديمي غلايز بالعسل سلفاً. وستلقّن المتسلّلة الصغيرة الخبيثة درساً.

التنويعة الحادية والعشرين
يستلقي دال 1 مع المتسلّلة ذات الشعر الذهبي في السرير، وهو يستغرق في التفكير بحزن في خيانة الوقت الذي يعد ويتراجع عن وعوده. يحلم بنهايات سعيدة، لكنّه يجب أن يستغني عنها في القصّة التي يخوضها الآن، وهي قصّة كل المخلوقات. لن تجدي مقاومة هذه القصّة. وتتمثّل العواقب في اليأس الذي يغري بتجنّب النهاية العقيمة.
حلمت جي، التي تستلقي على سرير الشيء الوحشي المضمخ بالعطر، أيضاً مرّة بنهايات سعيدة. ومع ذلك، تنبعث الآن رائحة البصل المطبوخ من الطابق السفلي، حيث يقلّيه دال 3 في المطبخ مع صلصة ديمي غلايز، والذي يكمن اهتمامه الوحيد بمرور الوقت في الزّمن الذي يتطلّبه إعداد الصلصة. تفكّر دال 2 بالوقت وخياناته، لكن كأمر لا يستحق التفكير فيه.
يؤمن دال 1 بأنّه يحب اختراع الحياة إذا ما كان على المرء أن يعيشها طولاً وعرضاً. لذلك، جرّب كل تنويعة يمكن تخيّلها من فن تحريك الدمى، وهي خلاصة صحيحة- متجذّرة في التقليد- للبراعة الخلّاقة. فكّر في الأمر على أنّه محاولة شجاعة للتخلّص من اليأس، وذلك إن لم يكن للمكوث في الوقت، سيكون لتمديده. لكن حركة الوقت، للأسف، منفردة وعنيدة.
للتخلّص من رائحة المتسلّلة التي تشبه رائحة بكرة مياه، يوزّع دال 3 صلصلة روبرت مع الحليب بالعسل والمتبّلة بالبهارات، لتقرّ دال 2 أنّها لمسة مبتكرة. إذ أنّها تتبّع أسلوباً تقليديّاً في طبخها، من دون أن تعير اهتماماً للابتكار أو البراعة، على الرّغم من أنّها تقدّر شهيّة دال 3 الفتيّة لكل ما هو جديد. وهي شهيّة تشاركها فيه جي على الرغم من أنها اختفت لأنّها كانت مثار عقاب.
فشل عرض الدمى الأخير الذي قدّمه دال 1 عرضاً فاشلاً ذريعاً. إذ حاول، عبر الإمساك بالأربطة الحريريّة، أن يثبّت الدمية الصغيرة في وضعيّة مفيدة على السرير- مثل تثبيت الفراشات على الأسطح- لكن كانت الأربطة متشابكة للغاية، ولم يقدر، بأصابعه الخرقاء، على أن يفكّ عقدها. وفي النهاية، كان عليه أن يتخلّى عن طموحاته المتسامية ليستعمل مقصّاً.
تبقي دال 2 المقصّ في متناول اليد متعزمةً على الاستفادة من خصلات شعر المتسلّلة لصناعة مفارش حريريّة لكراسيهم ربّما، حيث تكمن براعتها وابتكاراتها. لا تزال صاحبة الخصلات تشعر بأنّها مثبّتة رغم قصّ أربطتها. أليس هناك مهرب؟ ربّما. يفكّر دال 3 أنّه قد يكون دال 1 استمتع بالفقرة النهائيّة المَرَضيّة، لكنّه يطمح في لعب لعبة إضافيّة.
يتأمّل دال 1، بكسل، في ادّعاءات الجمال والابتكار، وحدودهما الكئيبة، والفراغ الذي يتثاءب وراءهما. فبعد كل شيء، ثمّة مقدار معيّن من اليأس الذي يصاحب الألعاب التي كانوا يلعبونها، وثمّة محاولات غير مجدية لدرء اليأس عبر خلق شيء من لا شيء، شيء من لا شيء، شيء من لا شيء.
تجمّع الاثنان الآخران لدى سريره وهما ينظران إليه وإلى المخلوقة الحزينة التي يخلو جسمها من الشعر بقصد إصدار حكمهما. فقد خاب أملهما. وخاب أمله. ورفع صوت المرء هو بمثابة الصراخ بيأس في الفراغ، في الفراغ، في الفراغ. ولكن ماذا بإمكانهم أن يفعلوا. سيأتون عليها على أمل انتظار التالية. سيرتاح لبرهة ويبدأ من جديد، يبدأ من جديد، يبدأ من جديد، يبدأ من جديد.

التنويعة الثانية والعشرين
انتهت عقوبة جي على أنّها متسلّلة ملولة. وأصبحت الآن هي ذاتها شيئاً وحشيّاً، حتّى أن رائحتها بدأت تشبه رائحتهم. نام لاعب الدمى. وصدرت عن الطابق السفلي قعقعة المقالي وروائح الطبيخ. تُركِت وحدها من دون مراقبة. فهل هي شجاعة بما يكفي للقفز من هنا؟ نعم. وسيغطّي شخير الأشياء الوحشيّة المدوّي أي حركة تقوم بها. تنسل من السرير مع عودة الأمل الملتبس. لكن النافذة مغلقة بإحكام. كانت تبكي، وهي تبكي مرّة أخرى. يدخل أصغر الأشياء الوحشيّة، والذي يفوقها ضخامةً، خلسةً ويفتح النافذة. كان قد ربط بعض الشراشف معاً حتّى لا تحتاج إلى القفز. لقد أساءت الحكم عليه وشعرت بالامتنان وتريد أن تعبّر عن ذلك، لكن يداه المشعرتان تدفعان بها إلى خارج النافذة. تنزل على عجل وتنطلق ركضاً عبر الغابة. تجرح الصخور والجذور قدميها الحافيتين، وتنهمر الدموع على بشرتها، لكنّ بهجتها تفوق ألمها. فهي حرّة الآن. تتوقّف لبرهة لتلتقط أنفاسها. يمكنها سماع خطوات تشق الأشجار المتشابكة. لا، ثمّة من يطاردها.

التنويعة الثالثة والعشرين
يتمكّن دال 3، بسرعته التي تفوق سرعة المتسلّلة حافية القدمين، ومعرفته بالغابة التي تفتقر إليها، من قطع الطريق عليها أو مطاردتها من جانب إلى آخر، ما يجبرها على تغيير وجهتها مراراً وتكراراً حتّى تضيع وتبدأ بالصراخ. يميل دال 3 إلى فعل ما فعله دال 1، لكنّه يستمتع بهذه المطاردة المتداخلة إلى حدٍّ بعيد.
يشاهد دال 1 هذه الحفلة الجامحة من نافذة الطابق العلوي. عندما استيقظ ليكتشف فرار الثعلبة الصغيرة والنافذة المفتوحة، شعر بالذّعر في البداية، ثم بالسعادة الشّفيفة. فقد ساعدته على العودة من حافّة اليأس. فتركها. والآن يرى اللعبة التي يلعبها دال 3. وإذا أعادها، سيشعر بالسعادة أيضاً.
بينما تركض جي بشكل محموم عبر الغابة في اتجاه واحد الآن، وثم في اتجاه آخر، تشعر أن دزّينة من الأشياء الوحشيّة تتعقّبها من كل الجوانب. تبخّرت مشاعر البهجة. كانت قد رأت كوابيس غريبة حيث تمزّقها فيها كلاب ضالّة. تقول لنفسها أنّه قد يكون هذا كابوساً آخر بينما تنهمر الدموع على خدّيها. ربّما لا تزال في سرير أكبرهم.
يقطع دال 3 الطريق عليها ويطوّقها مجبراً إيّاها على العودة باتّجاه كوخهم. وبينما تركض في الغابة الشّائكة، تتعرّض للخدش لنظهر قطرات قرمزيّة على خواصرها الخالية من الشعر. في بعض الأحيان، يسمح لها بالركض لفترة ليتهيّأ لها أنّها نجحت بالهرب قبل أن يقترب منها مرّة أخرى وهو يعلم أن ركض المخلوق المذعور قبل طهيها سيضفي عليها نكهة حارّة.
تشاهد دال 2 استعراض دال 3 الهزلي من نافذة المطبخ، مبديةً إعجابها بوثباته وقفزاته، وضاحكةً على صرخات المتسلّلة البعيدة. تركها دال 1 تهرب تبعاً للتقاليد، لكن دال 3 يعمد إلى تغيير هذا التقليد. تقطّع دال 2 المكسّرات والفواكه المجفّفة لتحضّر الحلوى وهي تحرّك الصلصة بملعقة خشبيّة. يسقط عنكبوت من العوارض في الصلصة كأنّه علامة ترقيم. فتتابع التحريك.
لا يسع جي أن تركض أكثر من ذلك، لتجثم في تجويف شجرة وهي تشعر بالألم يقرصها من كل جانب، وتتنفّس من خلال شهقاتٍ مخنوقة. يلتقطها أصغرهم وهو يضحك من مؤخّرة عنقها ويحملها عالياً ويضربها مستمتعاً. كان يلعب معها لعبة القط مع فأرة عرجاء. تشعر جي أنّها قفشة نكتة سيّئة.

التنويعة الرابعة والعشرين
يحثّ دال 3 المتسلّلة البائسة إلى الدخول إلى الكوخ، وهو يقرصها ويلكزها بمرح، متمنيّاً لو أن وقت المطاردة استمر لفترة أطول، حيث ينتظر الآخران بالشوك والسكاكين، وحيث يرتدي دال 1 رداء النوم، وترتدي دال 2 مئزرها. يغنّون: ثمّة من كان يتذوّق عصيدتي، يتذوّق عصيدتي وهم يرقصون بإيقاع متأرجح من قدم إلى الأخرى وهم يرتفعون ويسقطون. ثمّة من كان يجلس في كرسيي، يجلس في كرسيي. يرفع دال 3 غنيمته بفخر من شعرها. يظهر الآخران أسنانهم ويشحذون شوكهما وسكاكينهما معاً وهم يستمران بأداء رقصتهما. ثمة من كان ينام في سريري، ينام في سريري. يضع دال 3 المتسلّلة على الأرض حيث تنهار كدمية منزوعة الأربطة، ثم يرفعها عالياً من كاحليها. يضع دال 1 واحدة من أواني العصيدة الكبيرة تحت رأسها المتدلّي. ويهتفون: طويلة جدّاً، طويلةً جدّاً، طويلة جدّاً بقيادة دال 3. تتقدّم دال 2 إلى الأمام وهي تحمل مقصّاً. قص، قص، قص. ذهبت الخصلات لتتحوّل إلى كومة خيوط ذهبيّة لتستعملها دال 2 في أعمالها الفنيّة، ويصبح رأس المتسلّلة خالياً من الشّعر كبقيتها. مناسبة جدّاً، مناسبة جدّاً، مناسبة جدّاً.

التنويعة الخامسة والعشرين
تستمع جي، التي جزّ شعرها، إلى نباح الأشياء الوحشيّة السّاخر وهم يحملونها إلى داخل الكوخ وهي تتساءل عمّا إذا كانت القصة تنتهي دوماً على هذا النحو. ربّما لم تكن هناك نافذة مفتوحة على الإطلاق، لكن لم يرغب أحد في الإفصاح عن ذلك. وكانت نوعاً من الأكاذيب اللطيفة التي تسعى للتخفيف من وطأة الخوف ممّا هو محتوم. وإذا كان ذلك صحيحاً، فهي عرفت عن الأمر في وقت متأخّر إلى حدٍّ ما، على الرغم من أنّه قد يكون صحيحاً دائماً: النوم الطويل، ثم- لفترة وجيزة، وبعد فوات الأوان- استيقاظ فظّ. يضعونها على طاولة المطبخ التي تم تحضيرها لجلوس ثلاثة أشخاص كما ترى. ترفرف الخفافيش على العوارض فوقها. الجو دافئ. لا بد أن الفرن موقد. تتذكّر الأواني، والكراسي، والأسرّة، وتشعر بالحنين الشفيف إلى تلك الأكاذيب المريحة، لكنّها تشعر بالغضب أيضاً لأنها ضلّلت إلى هذا الحد وطوردت طيلة حياتها من قبل حكايا فاسدة قصّها حكواتيّون ماتوا منذ زمن طويل. شعرت أيضاً بالطبع برغبة محفوفة بالخطر للرقص مع الأشياء الوحشيّة، وحتّى أن تكون واحدة منهم بطريقة ما، وهي رغبة فكّرت فيها وحدها تماماً. لكن هل كانت هذه الرغبة مسّاً ما؟ وهل حقّاً كل شيء خاص بها باستثناء المصير الذي ينتظرها الآن؟
تستلقي المتسلّلة الشّاحبة على طاولة المطبخ كأنّها دجاجة منتوفة الريش، وأصبح الآن رأسها الذي جزّ شعره الجزء الأكثر بياضاً فيها. لطالما عانوا من مثل هذه المضايقات كما تذكر دال 2، وعلى الرّغم من أن الآخرين حزنا من انتهاء ألعاب هذا اليوم، إلّا أنّها لم تشعر كذلك. فقد كانت الثعالب والعجائز الشمطاوات في العصور القديمة سيّئة بما يكفي، لكن تسبّبت هذه الشقراوات البذيئات باعتبار السلوك الإجرامي أمراً تافهاً، وحتّى أمراً مسموحاً به على حساب خصوصيّة وسمعة عائلتها. كل هذا الهراء السيء. حسناً، احترسوا، سيكونون كذلك. يميل دال 1، الذي بدأ المزاج السوداوي يغلب مزاجه المرح، وتكتسب ضحكاته المدوية بعداً أجوف مع الوقت، إلى استبعاد الفتيات الشقراوات الملولات لأنّهن محض إزعاج. من المسلّم بع أنّه استمتع بزياراتهن بطرق لا يتمتّع بها الآخران، لكنهنّ يجلبن معهن أوهام المواساة، وإشارات جميلة لتزيين الأيّام العابرة، وإلّا كانت أيّاماً كئيبة وبلا معنى. اغتصبت سلطته وهو يشاهد دال 3 يحوم في المطبخ معتدّاً بنفسه، مكرّساً لا للانسجام، بل للإخلال به. يفكّر دال 1 أنّه ربّما عليه إيجاد نافذة مفتوحة ليشوّش على الارتباك. يشكّر دال 3 عن أسنانه وهو يغمس فرشاة طريّة في العسل.
يقومون بطلاء شيء لزج عليها وكأنّهم يخفون عريها. أو لتلميعها. كانت أواني العصيدة الملوّنة واللامعة التي حطّموها جميلة، كما كانت ذات مرّة. لكن القطع المكسورة جميلة أيضاً، ويمكنها أن تجرح. ربّما صنعوا لها معروفاً، إذ كانت تعرف بخصلاتها الذهبيّة، لكنّها تحرّرت منها الآن لتبحث عن أمور جديدة لتعرف بها. ربّما يمكنها حتى تحقيق رغبتها القديمة مع الوقت المتبقّي لها. تجلس على الطاولة وهي تضع ساقيها تحتها، وتحدّق بعيونهم اللامعة. يبدو أن الأشياء المتوحشّة تضحك عليها. لا ينبغي لهم فعل ذلك. ثم تميل بسرعة لتقتنص مشرطاً وسكّيناً وتكشف عن أسنانها وتزمجر. ينبحون: روف، هوف، هوف.، وهم يضربون مخالبهم معاً. يعتقدون أنّها تقدّم لهم عرضاً. تستخدم أقدامها الخلفيّة لتركل الأطباق عن الطاولة وهي تفكّر بهم، ليطير وعاء السائل اللزج بعيداً، وبضربة جريئة من المشرط، تطيح بالقدر عن الموقد. يتوقّف الضحك. يمدّ أصغرهم مخلبه عليها وهو يزمجر لتطعنه.

التنويعة السادسة والعشرين
س. في لحظة شاطحة أصبحت جي شيئاً وحشيّاً. لماذا؟ مجرّد الرغبة في أن تكون غريبة؟
ج. كان القدوم هنا أمراً غريباً، لكن ليس لديها خيار آخر الآن، وليس ثمّة ما تخسره.
س. دال 3 ينزف ويهدر من الألم والغضب. المتسلّلة الصلعاء تبتسم بخبث. ألن ينتقم أحد.
ج. تنتقم دال 2. تقفز على الطاولة وتضرب المتسلّلة التي تبتعد راقصة وهي تضحك.
س. جي مجرّد عفريتة هزيلة. ما هي فرص نجاتها أمام هذه الأشياء الوحشيّة الثلاثة؟
ج. تفترض، رغم ذكائها، أن فرصها معدومة ما لم تجد نافذة مفتوحة.
س. تتشبّث جي بأسطورة النافذة المفتوحة. هل يستطيع أحد إنقاذها الآن؟
ج. يمكن لدال 1، مبتكر هذا الواقع، أن يفعل، لكن على حساب فقدان دوره الأسري التقليدي إلى الأبد.
س. قام دال 3، الذي يكره التقاليد، بتخريب طقوس العائلة ساعياً إلى التغيير الجذري. ما هي رغبته؟
ج. الحريّة. السلطة. لكن على شخص آخر أن يخسرها إذا ما كسبها. شريعة الغاب.
س. تتأرجح دال 2 في هذه الأثناء بعنف لتتعثّر وتسقط على أواني الطعام المكسورة. من يثأر لها؟
ج. على دال 1، الذي يحاول إخفاء ضحكته، أن يفعل ذلك، لكنّه يتردّد. إذ فقد شهيّته للمتسلّلة المشويّة.
س. هل فقد دال 1 مصداقيته كقائد للأشياء الوحشيّة مع تردّده الذي اكتشف مؤخّراً؟
ج. فقد مصداقيته لدى دال 2 ودال 3، لكن لا تزال جي تخاف منه أكثر من غيره.
س. تغمر الأشياء الوحشيّة الفوضى، إذ تم تخريب وليمتهم، ووقعت المتسلّلة المشاكسة في الشرك. فماذا بعد؟
ج. ربّما يتم تناول جي. ربّما يخترع دال 1 نافذة مفتوحة. يمكن معرفة ذلك فقط مع مرور الوقت الذي لا يرحم.

التنويعة السابعة والعشرين
ينتهي شيء ما. قضت اللحظة الشاطحة. استنكف أكبر الأشياء الوحشيّة. يدنو الآخران وهما يهدران متوعدّان، الطاولة التي تجثو عليها. تحذّر الوسطى قائلةً: ثمّة من كان يتذوّق عصيدتي، بينما يكرّر الآخر الجملة برتابة باردة وهو يمسك بمخلبه المضمّد معترضاً. لا يسع جي، التي لم تعد ملولةً، إلّا أن تنتظرهما وسط طاولة أنقاض الوليمة وهي تحمل المشرط والسكّين في قبضتيها. ثمّة من كان يجلس، كان يجلس في كرسيي، يزحفون على الطاولة بمخالب مسلولة. ثمّة من كان ينام- تضرب الطاولة بأسلحتها لتقاطع صلواتهما المقدّسة، وتلتقط شعرها المقصوص من إناء العصيدة وتوزّعه على جسدها اللزج، وتحوّل نفسها إلى شيء وحشي ذهبي. يزمجران ويتراجعان. تلتقط المزيد من الشعر الذهبي وتقذفه عليهما. يحاولان تفادي الشّعر ويسقطان عن الطاولة بشدّة، لكن سرعان ما يصعدان مرّة أخرى وهما يكشّران تكشيرتيهما المخيفة. يشي تدفّق نسيم خافت من مكان ما بوجود نافذة مفتوحة الآن، لكنّها تعرف أيضاً، للأسف، أنّها لن تتمكّن من الوصول إليها.

التنويعة الثامنة والعشرين
يستلقي دال 1 في سريره في الطابق العلوي وهو يتأمّل في أمر شقراوات العالم الملولات بحزن، واللواتي يساهمن في خيانة الوقت كسبب لسعادتهن، ويتأمّل مباشرة في المتسلّلة المشاكسة الفاشلة في المطبخ في الطابق السفلي، والتي يخدعها الأمل. فقد قام بفتح نافذة لها، لكن بعد فوات الأوان بالتأكيد. ستكون هناك أخريات تجمعن الزهور البريّة وتلتقط الفراشات، لكنّه يشعر بالحزن على ضياع هذه الفتاة: دميته البارعة، ثعلبته الصغيرة المؤذية. ينهض من سريره بقلب مثقل وينزل الدَّرَج. الفتاة محاصرة في إحدى زوايا الطاولة، بينما يقطع دال 3 عليها الطريق، وتبقى دال 2 على الأرض تحتها لتسدّ عليها المخرج. ابتسم من تحوّل المتسلّلة الجسور. لا تزال تبدو من الخلف شيئاً شاحباً غير منطقي وخالٍ من الشعر، لكن صدرها وبطنها المجعّد يتألّقان باللون الذهبي. ولم تثر رغبتها اللاطبيعيّة في تجاوز نوعها فيهم شعوراً بالاحتواء الأسري، بل غضباً قاتلاً. تتحرّك برشاقة، لكنّها ليست كافية: إذ لا تزال في متناول مخالب دال 3. يرفع دال 1 نفسه على الطاولة، ويضرب دال 3 ضربة تطيح به بعيداً. ويهتف هادراً كالرعد: ثمّة من كان يتذوّق عصيدتي. لم يكن هناك جواب، باستثناء دمدمة شرسة خفيضة.

التنويعة التاسعة والعشرين
قوبل هدير أكبر الأشياء الوحشيّة بتمرّد هيّاج، ليدفعه الآخران عن الطاولة وهما يكشّران بلا رحمة، ليضرب الأرض بشدّة. وتستعد جي للأسوأ.
تلوّح دال 2 ودال 3 بشوكهما وهما يطاردان المتسلّلة التي ألّبَت عائلة 2 على بعضها، لذلك يجب معاقبتها. يعود دال 1 ليطيح بهما من على الطاولة. وتقعقع المقالي والأطباق بعنف.
تكتشف جي، التي أصبحت الآن من دون أسلحتها، المقص الذي استعمل لجزّ شعرها. تجثم لتقبض عليه بشراسة وتستعد للمواجهة وهي تفكّر أنّها شيء وحشي ذهبي لرفع معنويّاتها.
يعود دال 3 وهو يكزّ على أسنانه ويهدر بوحشيّة. يطلق مخالبه على المتسلّلة المسلّحة التي تتفادى الضربة لتقع في أحضان دال 2. يخطفها دال 1 بعيداً قبل أن تعضّها.
أصبحت طاولة الدمى الآن منصّة لرقصة كابوسيّة من اللكم والركل ومخالب الأشياء الوحشيّة بينما تقبع جي في منتصف كل هذا، وتقول لنفسها الجاحدة وهي تبكي: هذا أمر ممتع.
يقف دال 1 مباعداً ما بين قدميه أمام المتسلّلة المرعوبة ليضرب مهاجميها. ويتلقّى دال 3، كبطل، الضربة تلو الأخرى من الطاغية. تضرب دال 2 رأس دال 1 بمقلاة. وترفرف الخفافيش المهتاجة عبر المطبخ وهي تزعق.
انتزع مقص جي من يدها، لتلتقط ملعقة خشبيّة وتلوّح بها بعنف، لكنها تخطئ مهاجميها وتضرب أكبرهم بدلاً منهما، والذي يباغت ليهدر بغضب. آه آه.
ثمّة نافذة مفتوحة. لا يزال الفرن موقداً. قد تهرب المتسلّلة أو تصبح عشاءً لهم. أو ربّما (ثلاثة) سيتقاتلون عليها ويمزّقوها. شريعة الغاب.

التنويعة الثلاثين: كودلبيت
بعد العشاء، تأخذهم عائلة دال البهجة فيغنّون بعض الأغاني القديمة- أغانٍ حزينة، وأغانٍ ملهمة، وأغانٍ كوميديّة- حول نشوات الحياة، والتغيير الذي لا يتغيّر، وإثارة الرغبة الرقيقة، حول سلخ فراء الثعالب، وحول خزوقة العجائز الشمطاوات على قبب الكنائس، وحول جز خصلات العفريتات الشقراوات الذهبيّة. يقرعون الملاعق الخشبيّة ويرقصون بتثاقل، لكن بجذل وهم يتجشّؤون ويشخرون حول الطاولة. الجو حار في المطبخ، لكن ثمّة نافذة مفتوحة يتدفّق منها النسيم في مكان ما. ترتدي دال 2 مئزراً رثّاً على رأسها كقبّعة بيجامة ما يضحك الجميع، بينما يقوم دال 3 بإصدار ضوضاء جلفة من ترومبيت اللعبة. يغنّون حول إغراء المتسلّلات لدخول كوخهم، ويهدرون بإغواء ضاحكين: "اقتربي أكثر، اقتربي أكثر"- بينما ينتابهم شعور بالحنين المحزن، في نفس الوقت، إلى القصص التي كانت تحكى لهم، والأكاذيب التي جعلت حياتهم أسهل.

آريا دي كابو
تدخل جي الكوخ غير المأهول. عصيدة، وكراسٍ، وأسرّة. ساخنة جدّاً، باردة جدّاً، عالية جدّاً، عريضة جدّاً، قاسية جدّاً، ناعمة جدّاً. مناسبة تماماً. جي تأكل، وتكسر، وتنسلّ. يعود المالك. متسلّل.
تدخل جي، قاطفة الزّهور البريّة، الكوخ الصّغير الدّافئ في الغابة، وهي تعرف أو لا تعرف من في داخله، بينما غاب المالكين كما لو جرى ترتيب الأمر. ثلاث أوانٍ من العصيدة، ثلاثة كراسٍ، ثلاثة أسرّة. ساخنة جدّاً، باردة جدّاً ، عالية جدّاً، عريضة جدّاً، قاسية جدّاً، ناعمة جدّاً. مناسبة تماماً. قاعدة الثلاث مرّات. جي تأكل، وتكسر، وتنسلّ. يعود المالكين. ثمّة متسلّل.
تلتقط جي، المتململة بطبيعتها، الزّهور البريّة وتطارد الفراشات في الغابة، حتّى أتت على كوخ صغير دافئ في بقعة منعزلة. وهي تعرف أو لا تعرف من في داخله (ثمّة قصص متداولة حول الموضوع). تتلصّص من ثقب المفتاح. واتتها فرصة غياب المالكين، لذلك تدخل. ثمّة ثلاث أوانٍ من العصيدة على الطاولة تركت لتبرد. تتذوّقها: ساخنة جدّاً، باردة جدّاً، مناسبة تماماً (تأكلها كلّها). ثمّة ثلاثة كراسٍ. تجلس عليها: عالية جدّاً، عريضة جدّاً، مناسبة تماماً (تكسرها). تشعر بالنعاس. ثمّة ثلاثة أسرّة في الطابق العلوي. تجرّبها كلّها: قاسية جدّاً، ناعمة جدّاً، مناسبة جدّاً (تنسلّ إلى السرير). يعود المالكين. ثمّة متسلّل. توقّعوا ذلك.
تدخل جي، التي تطارد الفراشات بنفاذ الصبر، الكوخ الصغير في الغابة، وهي تعرف على الأرجح من في داخله (ثمّة قصص متداولة حول الموضوع)، وواتتها فرصة غياب المالكين. ثلاث أوانٍ من العصيدة، ثلاثة كراسٍ، ثلاثة أسرّة. ساخنة جدّاً، باردة جدّاً ، عالية جدّاً، عريضة جدّاً، قاسية جدّاً، ناعمة جدّاً. مناسبة تماماً. قاعدة الثلاث مرّات. جي تأكل، وتكسر، وتنسل. يعود المالكين. وصل المتسلّل الذي كانوا يتوقّعونه.
تدخل جي الكوخ غير المأهول. عصيدة، وكراسٍ، وأسرّة. ساخنة جدّاً، باردة جدّاً، عالية جدّاً، عريضة جدّاً، قاسية جدّاً، ناعمة جدّاً. مناسبة تماماً. جي تأكل، وتكسر، وتنسل. يعود المالكين. متسلّل. لكن أين هي الآن؟