الأربعاء، 1 أبريل 2020

Player Piano | كيرت فونيغيت


ترجمة الفصل الأول من رواية Player Piano | كيرت فونيغيت

تقسم مدينة إيليوم في نيويورك إلى ثلاثة أجزاء.

يقيم المدراء والمهندسون وموظّفو الخدمة المدنيّة وعدد قليل من المحترفين في الشّمال الغربي، بينما تتواجد الآلات في الشّمال الشّرقي. أمّا بقيّة النّاس تقريباً، فيعيشون جنوباً، في الجانب الآخر من نهر إريكوا في المنطقة التي تعرف لدى سكّانها باسم "هومستيد".

لن تتأثّر الحياة اليوميّة بشكل كبير إذا ما تم تفجير الجسر المقام على النّهر، إذ ليس لدى الكثير من النّاس على جانبي النّهر أسباب أخرى غير الفضول للعبور إلى الجهة المقابلة.

تعلّم المدراء والمهندسون أثناء الحرب، وفي مئات مدن الإيليوم في أرجاء أميركا، أن يتدبّروا أمرهم بدون رجالهم ونسائهم الذين ذهبوا ليقاتلوا. كان الفوز بالحرب بمثابة معجزة بعد أن دارت عمليّة الإنتاج من دون أيّ طاقة بشريّة تقريباً. وفي أفنية الجانب الشّمالي من النّهر، كسبت الحذاقة الحرب. الديمقراطيّة مدينة بوجودها للحذاقة.

بعد مرور عشر سنوات على انتهاء الحرب، وبعد عودة الرجال والنساء إلى منازلهم، وبعد أن تم إخماد أعمال الشّغب وسجن الآلاف بموجب قوانين مكافحة التمرّد، كان الطبيب بول بروتيوس يرعى قطّةً في مكتبه. كان الطبيب أهم وأكثر النّاس تألّقاً في إيليوم، حيث كان مدير شركة أشغال إيليوم على الرّغم من أنّه كان يبلغ 35 عاماً فقط. كان طويلاً ونحيلاً وأسمرَ، بينما شوّهت نظّارات ذات حواف داكنة مظهر وجهه الطويل اللطيف.

لم يشعر بأهميّته أو تألّقه في تلك اللحظة، ولم يشعر بذلك منذ بعض الوقت، إذ كان جلّ اهتمامه منصبّاً على قناعة القطّة السوداء بمحيطها الجديد.

قال الذين عاشوا بما فيه الكفاية ليتذكّروا، وأولئك الأكبر سنّاً من أن يتنافسوا بينهم، بانفعال أن الطبيب بروتيوس كان يشبه والده تماماً عندما كان شابّاً. وكان من المفهوم عموماً، لكن بامتعاض في بعض الأوساط، أن بول سيرتقي في المؤسّسة ليصل إلى مستوى والده تقريباً في يوم من الأيّام. ففي آخر أيّام حياته، كان والده الطبيب جورج بروتيوس أوّل مدير للصناعة الوطنيّة، والتجاريّة، والاتصالات، والمواد الغذائيّة، والموارد. وهو منصب لم يدن من أهميّته سوى رئاسة الولايات المتّحدة.

أمّا بالنسبة لفرص توريث جينات بروتيوس إلى جيل آخر فكانت معدومة عمليّاً. إذ كانت أنيتا زوجة بول، سكرتيرته أثناء الحرب، عاقر. فللمفارقة التي ستسرّ أي شخص، تزوّجها بول بعد أن صرّحت بحملها الأكيد إثر احتفالهما بالنّصر في المكتب المهجور.

"تحبّين ذلك يا بسيسة؟" قال بروتيوس الشّاب بأبويّة وهو ينظر إليها مستمتعاً، دافعاً بلفافة من المخطّطات على ظهر القطّة المقوّس. "مممم آآآآه، حلو إيه؟". كان قد اكتشفها في صباح ذلك اليوم بالقرب من ملعب الجولف، ليحتفظ بها كطاردة للقوارض في المصنع. ففي الليلة السّابقة فقط، قضم فأر المادة العازلة للسلك الرئيسي ليقطع الكهرباء عن المباني 17 و19 و21 مؤقّتاً.

ضغط بول على زر جهاز الاتّصال الداخلي "كاثرين؟"

"نعم دكتور بروتيوس؟".

"كاثرين متى ستتم طباعة خطابي؟"

"أعمل على ذلك سيّدي. أعدك أنّني سأنتهي في 10 أو 15 دقيقة".

كانت الدكتورة كاثرين فنيش سكرتيرته، والمرأة الوحيدة في شركة أشغال إيليوم. في الواقع، كانت تمثّل رمزاً لهذا المنصب أكثر من كونها عوناً حقيقيّاً، على الرّغم من أنّها كانت تقوم بدور مفيد في تيسير أمور الشركة عندما يمرض بول أو عندما يوقّع مذكّرة لمغادرة العمل مبكّراً. اتّخذ كبار مدراء المصانع، ومن هم أعلى رتبةً منهم، فقط سكرتيرات. فأثناء الحرب، وجد المدراء والمهندسون أنّه يمكن إنجاز الجزء الأكبر من الأعمال السكرتاريّة- كما يمكن أن يفعله معظم الموظّفين من المستويات الدنيا- بسرعة وكفاءة وتكلفة منخفضة أكبر بواسطة الآلات. كانت أنيتا على وشك أن تطرد من وظيفتها عندما تزوّجها بول. والآن، على سبيل المثال، لم تكن كاثرين تشبه الآلات في شيء بشكل مزعج وهي تتلكّأ في طباعة خطاب بول وتتكلّم مع حبيبها المفترض الدكتور باد كالهون في نفس الوقت.

كان باد، الذي شغر منصب مدير محطّة النّفط في إيليوم، يعمل فقط عندما تأتي الشحنات أو تمر عبر البارجة أو خط الأنابيب، لذلك، كان يقضي معظم وقته بين هذه الأزمات، كما هو الحال الآن، وهو يشنّف أذني كاثرين بنشوة كلامه الجورجيّ المعسول.

وضع بول القطّة بين ذراعيه وحملها إلى النافذة الضّخمة التي امتدّت من الأرض إلى السّقف محتلّة أحد الجدران، وقال: "ثمّة الكثير والكثير من الفئران هناك يا بسيسة".

كان يري القطّة ساحة معركة قديمة في سلام. فهنا، في حوض منحنى النّهر، كان الموهوك قد تغلّبوا على الغونكوين الهولنديّون، والبريطانيّون الهولنديّون، والأميركيّون البريطانيّون. لكن الآن، وفوق العظام والسياج البالية وكرات المدافع والسّهام، يقع مثلث من الفولاذ وأبنية حجريّة تمتد على مدى نصف ميل من كل جانب، والتي تشكّل شركة أشغال إيليوم. حيث كان الرجال يزعقون على بعضهم ويشرّحون بعضهم، ويقاتلون كفرسي رهان مع الطبيعة أيضاً، حيث كانت الآلات تدمدم وتأزّ وتطقطق وتصنع قطعاً لعربات الأطفال وأغطية الزجاجات، والدرّاجات الناريّة، والثلاّجات، وأجهزة التلفزيون والدرّاجات ثلاثيّة العجلات، ثماراً للسلام.

رفع بول عينيه فوق أسطح المثلّث العظيم لينظر إلى وهج الشّمس على نهر إيروكوا وما بعده: إلى هومستيد، حيث لا يزال يعيش العديد من الروّاد مثل: فان زاندت، وكوبر، وكورتلاند، وستوكس.

"دكتور بروتيوس؟". كانت كاثرين مرّة أخرى.

"نعم كاثرين".

"عادت مرّة أخرى".

"رقم ثلاثة في المبنى 58؟".

"نعم سيّدي، عادت الكهرباء مرّة أخرى".

"حسناً، اتّصلي بالدكتور شيبرد واستكشفي ما الذي يفعله حيال ذلك".

"إنّه مريض اليوم، أتذكر؟".

"إذاً سأقوم بالأمر بنفسي على ما أعتقد". ارتدى معطفه وتنهّد ملولاً، والتقط القطّة وسار إلى مكتب كاثرين. "لا تنهض، لا تنهض". قال لبد الذي كان يتمدّد على الأريكة.

"ومن كان سيفعل ذلك؟" قال باد.

كانت الثلاثة جدران الصلبة من الغرفة مغطّاة بعدّادات من القاعدة إلى الصبّة، باستثناء البابين اللذان يؤدّيان إلى القاعة الخارجيّة وإلى مكتب بول. بينما كان الجدار الرّابع لوحاً زجاجيّاً واحداً كما كان في مكتب بول. كانت مساحة الجدران متماثلة كحجم عبوات السجائر، وتكدّست كأحجار البناء وضع على كلٍّ منها لوح نحاسي برّاق يصل بمجموعة من الآلات الموجودة في مكان ما من الشركة. توهّجت بلّورة باللون الأحمر على العدّاد السّابع من الأسفل، وفي الصف الخامس إلى اليسار على الجدار الشّرقي.

نقر بول على العدّاد بإصبعه وقال: "آه، ها نحن نعود إلى الأمر ذاته، رقم ثلاثة في 58 يرفض الأوامر، حسناً". ألقى نظرة سريعة على بقيّة الأجهزة وقال: "أعتقد أنّه لا يوجد أمر آخر، إيه؟".

"هذا فقط".

"ماذا ستفعل بهذه القطّة؟" قال باد.

فرقع بول بأصابعه وقال: "ذكّرتني، أنا سعيد بأنّك سألت هذا السؤال. لدي مشروع لك يا باد. أريد نوعاً من أجهزة الإشارة التي يمكنها إشعار هذه القطّة بمكان يمكنها العثور على فأر فيه".

"إلكتروني؟".

"آمل ذلك".

"ستحتاج إلى نوع من عناصر استشعار يمكنها أنّ تستشعر الفئران".

"أو الجرذان. أريدك أن تعمل على ذلك بينما أذهب للعمل".

بينما كان بول يسير تحت شمس آذار الشّاحبة باتّجاه سيّارته، أدرك أنّه سيكون لدى باد كالهون تصميماً لجهاز إنذار الفئران، والذي يمكن للقطط أن تستوعبه، بحلول الوقت الذي سيعود فيه إلى المكتب. كان بول يتساءل أحياناً إذا ما سيكون أكثر رضىً في فترة أخرى من التاريخ، لكن الآن، كانت حقيقة أن بد على قيد الحياة أمراً لا جدال فيه. كان نبوغ بد واحداً من الأمور التي تمّت ملاحظتها على أنّها أميركيّة خالصة منذ ولادة الأمّة، ببصيرة صانع الأجهزة المرهقة والشّاردة وخياله. كان هذا ذروة، أو ما يقارب ذروة، جيل بد كالهونس، حيث توحّدت كل أطياف الصناعة الأميركيّة تقريباً في جهاز روب غولدبيرغ المذهل.

توقّف بول لدى سيّارة بد التي أركنت بجانب سيّارته. كان بد قد استعرض ميّزاتها الخاصّة أمامه عدّة مرّات، فأخضعها بول للفحص قائلاً "هيّا بنا" بشكل هزلي.

فتح الباب بعد صدور أصوات أزيز ونقرة، وانبعث شريط التسجيل من تحت لوحة القيادة قائلاً: "فلتركب". أدير مشغّل السيّارة، ودار المحرّك ثم هدأت وتيرته وانطلق الرّاديو.

ضغط بول على زر في عمود التوجيه بحذر شديد. أصدر المحرّك خريراً، ودمدم التروس برفق، ثم رقد الكرسيّان الأماميّان جنباً إلى جنب كعاشقيْن ناعسيْن. صُدِم بول بهذه الحركة مثلما صدمته طاولة عمليّات للخيول كان قد رآها ذات مرّة في مستشفى بيطريّ- حيث يسيّر الحصان بجانب طاولة مائلة، ثم يثبّت عليها، ويخدّر، ثم ينقلب إلى وضع العمليّة بوساطة الطاولة التي يحرّكها ترس. كان يمكنه رؤية كاثرين فينش وهي تغرق، تغرق، تغرق مثلما كان بد، مدندناً، بينما كانت يده على الزّر. قال "وداعاً" للسيّارة.

توقّف هدير المحرّك، وانقطع صوت الرّاديو، وانطبق الباب. "لا تقبلي أيّ نيكلات خشبيّة"، قال بول للسيّارة وهو يستقلّ سيّارته. "لا تقبلي أيّ نيكلات خشبيّة، لا تقبلي أيّ نيكلات خشبيّة، لا تقبلي أيّ-".

"لن أفعل".

صمتت سيّارة بد في سلام على ما يبدو.

قاد بول سيّارته نزولاً عبر الجادة العريضة والنّظيفة التي تشقّ المصنع، وشاهد أرقام المباني وهي تومض وتختفي. كانت عربة المحطّة تسير في الاتّجاه المعاكس وهي تتعرّج مازحةً في الشّارع المهجور نحو البوّابة الرئيسيّة، بينما أطلقت بوقها ولوّح له راكبوها. ألقى بول نظرة سريعة على ساعته، كانت تلك المناوبة الثانية وهي تنهي عملها. أزعجته فكرة أنّه على أصحاب تلك المعنويّات العالية الرّعناء أن يرتبطوا بمثل الجهد الذي بذله الشّباب للحفاظ على استمرار المصنع. وأكّد لنفسه بحذر أنّه عندما جاء هو وفينيرتي وشيبرد للعمل في شركة أشغال إيليوم قبل 13 عاماً، كانوا أكثر نضجاً وأقل تعجرفاً بقدر قليل، وبدون أيّ إحساس بالانتماء إلى نخبة ما بالتأكيد.

تحدّث بعض الأشخاص، بمن فيهم والد بول المشهور، في الأيّام الماضية كما لو كان المهندسون والمدراء والعلماء ينتمون إلى النخبة على الرغم من ذلك. وحين كانت الأجواء مشحونة بالتهيّؤ للحرب، كان يعترف بالدراية الأميركيّة على أنّها الحل الوحيد للأعداد الهائلة المحتملة للعدو، وكانت النّاس تتحدّث عن ملاجئ أعمق وأكثر سمكاً لأصحاب تلك الدراية، وللمحافظة على صفوة المجتمع هذه من القتال في الخطوط الأماميّة. لكن لم يستسغ الكثيرون فكرة النخبة. فعندما تخرّج بول وفينيرتي وشيبرد من الجامعة في وقت مبكّر من الحرب، شعروا بالجبن من فكرة الامتناع عن القتال، وبأن أولئك الذين ذهبوا أشعروهم بالذل. لكن الآن، تم غرس نخبويّة هذه الأعمال، وهذا التأكيد على التفوّق، وهذا الإحساس بالصوابيّة حول التسلسل الهرمي الذي يعتليه المدراء والمهندسون، في كل الخرّيجين بلا شك.

شعر بول بالتحسّن عندما وصل إلى المبنى رقم 58، وهو مبنى طويل ضيّق يحتل مساحة أربعة كتل. كان هذا المبنى بمثابة حيوانه الأليف. إذ تم نصحه بهدم الطرف الشمالي للمبنى واستبداله، لكنّه أقنع الإدارة العليا بعكس ذلك. كان الطرف الشّمالي أقدم مبنى في المصنع، وحافظ بول عليه من الهدم لأهميّته التاريخيّة لدى الزوّار كما قال للإدارة العليا. لكنّه لم يكن يحب الزوّار وكان يسعى لتجنّب زياراتهم، ولم ينقذ الطرف الشّمالي من المبنى رقم 58 إلّا لمصلحته. احتلّت هذه المساحة متجراً للآلات كان إديسون قد أنشأه في العام 1886 بالأصل، وفي نفس العام الذي افتتح فيه متجراً آخر في شينيكتادي، وكانت زيارته تمنح بول نقاهة من فترات الاكتئاب التي كان يمرّ بها. كان المبنى يشكّل دعماً آتٍ من الماضي كما كان يعتقد، إذ يقرّ الماضي بتواضعه ورثاثته حيث يمكن للمرء أن يقارن بين القديم والجديد ليدرك الشّوط الطويل الذي قطعته البشريّة. كان بول في حاجة إلى هذا التطمين من وقت إلى آخر.

حاول بول إقناع نفسه بموضوعيّة بأن الأمور أفضل من أيّ وقت مضى. فللمرّة الأولى منذ حمّام الّدم الذي سال في الحرب، تم تطهير العالم بحقّ من الرّعب غير الطبيعيّ، والمجاعات الجماعيّة، والاعتقالات الجماعيّة، والتعذيب الجماعي، والقتل الجماعي. فموضوعيّاً، أصبحت الدراية والقانون الدولي يحظيان بفرصتها التي طال انتظارها، وذلك لتحويل الأرض إلى مكانٍ لطيف ومريح بانتظار يوم القيامة.

تمنّى بول لو أنّه ذهب إلى الخطوط الأماميّة وسمع الضجّة والدّوي التي ليس لها معنى، ورأى الجرحى والقتلى، وربّما تلقّى شظيّة في ساقه. لربّما سيكون قادراً على فهم مدى جودة كل شيء الآن عن طريق المقارنة، على رؤية ما بدا واضحاً للآخرين- أن ما يقوم به، وما فعله، وسيفعله كمدير ومهندس كان أمراً جوهريّاً وفوق الشّبهات أدّى إلى العصر الذهبي في الواقع. ففي الآونة الأخيرة، كانت وظيفته، والنّظام، والسياسات المؤسّسيّة تزعجه وتضجره وتغثّه بأكثر من طريقة.

وقف في الجزء القديم من المبنى رقم 58، والذي كان يمتلئ بآلات اللحام وكومة من مواد عزل الكهرباء المجدولة. كان للنّظر إلى أعلى حيث العوارض الخشبيّة فعلاً مهدّئاً عليه، بتفاوت قياساتها وعلامات فأس النّحت القديمة التي ظهرت من تحت الطلاء الكلسي المتقشّر، وجدران الطوب الباهتة التي يستطيع من نعومتها أن ينقش شخص- يعلم الله من أي زمن- أوائل أسمائهم عليها: “KTM”، “DG”، “GP”، “BHD”، “HB”، “NNS”. تخيّل بول لوهلة- كما كان معتاداً على التخيّل في زياراته إلى المبنى 58- أنّه كان إديسون وهو يقف على عتبة مبنى وحيد من الطوب على ضفاف نهر الإيروكوا، بينما يشقّ فصل شتاء شمالي المدينة أغصان الذّرة النّاشفة بلا هوادة في الخارج. لا تزال العوارض الخشبيّة تحمل علامات ما فعله إديسون بالحظيرة الوحيدة المبنية من الطوب: حيث أظهرت الثقوب الأماكن التي نقلت فيها المحاور العلويّة ذات مرّة الكهرباء إلى غابة من الأحزمة، وحيث كان لون الأرضيّة الخشبيّة أسود ممزوجاً بالزّيت من فرط ما تركت قعور آلات النفط الخام التي دارت بها الأحزمة من علامات.

كان لدى بول على جدار مكتبه صورةً للمتجر كما كان في بداياته، حيث وقف جميع الموظفّين، الذين تم تجنيدهم من المزارع المحيطة، جنباً إلى جنب، متوسّطين جهاز النفط الخام لالتقاط الصورة، وظهروا بشراسة تقريباً مع حسّ بالكرامة والاعتزاز، وسخافة قمصانهم ذات الياقات وأحذية ديربي. بدا أن المصوّر اعتاد على التقاط صور للفرق الرياضيّة ومنظّمات الأخويّة، إذ كانت الصورة تتمّع بانطباع موضة ذلك اليوم السّائدة في المجموعتين. كان يعتري كل وجه وعد هيّاب من القوّة البدنيّة، وفي نفس الوقت، كانت هناك وضعيّة تشي بأوامر سرّية يتجاوز المجتمع بفضيلة المشاركة في طقوس مهمّة ومؤثّرة لا يسع الدنيويّ إلّا أن يخمّن ماهيّتها- وسيخطئ في تخمينها. لم يظهر الاعتزاز بالقوّة واللّغز المهم بشكل أقل في نظرات عمّال النّظافة منه في نظرات القائمين على الآلات والمفتّشين، وفي نظرات مسؤول العمّال الذي كان وحده من دون صندوق الغداء.

انطلق صوت صفير، وصعد بول إلى جانبٍ من الممرّ بينما كانت المكنسة الآليّة تقعقع على قضبانها، مصدرة غيمة من الغبار بمكانسها الدوّارة، وممتصّة تلك الغيمة بخرطومها الشره. وفي حضن بول، نشبت القطة مخالبها لتنزع خيوط بدلته وبخّت على الآلة.

بدأ بول يتضايق من إحساس الوخز بعينيه، ثم أدرك أنّه كان يحدّق في وهج ورذاذ آلات اللحام من دون أن يحمي عينيه. قام بارتداء نظّاراتٍ داكنة فوق نظّاراته، وخطا عبر رائحة الأوزون المعقِّمة باتّجاه مجموعة المخارط رقم ثلاثة، والتي كانت تقع في الجزء الجديد من وسط المبنى.

توقّف لبرهة عند مجموعة آلات اللحام الأخيرة، وتمنّى لو أن إديسون كان معه ليشاهدها. كان العجوز ليسحر بها. انخلع صفيحا صلب من كومة ما لتسقط مقعقعة عبر منحدر وتلتقطها أيدٍ آليّة وتندفع تحت آلة اللحام. تدنّت رؤوس اللحام، وفرقعت، وارتفعت. فحصت بطاريّة من العيون الكهربائيّة التصاق الصفيحتين بعناية، وأرسلت إشارة إلى عدّاد في مكتب كاثرين بأن كل شيء على ما يرام بشأن مجموعة آلة اللحام الخامسة في المبنى، وانزلقت الصفيحتان فوق بعضهما البعض عبر منحدر آخر إلى فكوك مجموعة الطرق في التسوية. تستكمل الآلات الاثني عشر في المجموعة الدورة كل سبعة عشر ثانية.

بالنّظر إلى حجم مبنى 58، انتاب بول الانطباع بأنّه صالة رياضيّة كبيرة، حيث تمارس فرق لا حصر لها تمارين رياضيّة دقيقة- هز، ودوران، وقفز، واندفاع، وتموّج... أحب بول هذه الحقبة الجديدة كثيراً: كانت الآلات نفسها ممتعة ومبهجة.

فتح صندوق التحكّم بمجموعة آلات اللحام بسرعة، ولاحظ بأنّه تم ضبط الآلات لتعمل لثلاثة أيّام أخرى. بعد ذلك، ستغلق آليّاً حتّى يتلقّى بول أوامر جديدة من الإدارة ويرسلها إلى الدكتور لوسون شيبرد، والذي كان ترتيبه الثاني في سلسلة القيادة والمسؤوليّة عن المباني 53 وحتّى 71. كان شيبرد، الذي كان مريضاً اليوم، سيضبط مؤشرات التحكّم لمجموعة جديدة من ظهور الثلاجات- بقدر الظهور التي تشعر EPICAC، وهي آلة حاسوبيّة في كارلسباد كايفيرنز، أنّ الاقتصاد يمكنه استيعابها.

تساءل بول، وهو يهدّئ من قلق القطّة بأصابعه الطويلة النحيلة، بلا مبالاة إذا ما كان شيبرد مريضاً حقّاً. لا على الأغلب. على الأرجح كان يقابل أشخاصاً مهمّين بغرض محاولة الانتقال من تحت إمرة بول.

جاء شيبرد وبول وإدوارد فينيرتي إلى إيليوم معاً وهم صغار. واليوم، انتقل فينيرتي للقيام بأمور أهم في واشنطن، وحصل بول على أهم عمل في إيليوم، بينما شعر شيبرد، المتجهّم والمتهكّم، لكن الفعّال، بأنّه تمّت إهانته بتعيينه في المنصب الثاني بعد بول. كان الانتقال قراراً على مستوى عالٍ، وكان بول يأمل من الله أن يصدر قرار نقل شيبرد.

وصل بول إلى مجموعة المخارط الثالثة، مصدر المشكلة التي جاء لرؤيتها. كان يطالب منذ فترة طويلة بالحصول على إذن لتفكيك المجموعة من دون أن ينجح. كانت المخارط من النوع القديم، والتي أنشأت في الأصل ليتم التحكّم بها يدويّاً، وتم تعديلها خلال الحرب، بشكل أخرق، إلى التقنيات الجديدة. كانت المخارط تحيد عن الدقّة، وكما يشير العدّاد في مكتب كاثرين، ترفض الكثير من نتائجها. كان بول على استعداد للمراهنة بأن نسبة هدر مجموعة المخارط تبلغ عشرة بالمئة كما كانت النسبة في أيام التحكّم البشري وأكوام الخردة الضخمة.

ردّت المجموعة، التي تتكوّن من خمسة صفوف تحتوي كل منها على عشر آلات، معدّاتها بانسجام عبر القضبان الفولاذيّة، وطرحت القضبان المنجزة إلى أحزمة متواصلة، وتوقّفت بينما سقطت القضبان الخام بين ظرفها وغرابها، ثبّتت، وسحبت معدّاتها على طول القضبان، ورمت بالقضبان المنجزة فوقها...

فتح بول الصندوق الذي يحتوي على تسجيل للشريط الذي يتحكّم بالمجموعة. كان الشريط عبارة عن حلقة صغيرة يتم تغذيتها باستمرار ما بين لواقط مغناطيسيّة. سجّل عليها حركات الآلة الرئيسيّة لتحويل عمود إلى محرّك بكسور القدرة الحصانيّة. عدّ بول إلى الوراء- أحد عشر، اثني عشر، ثلاثة عشر عاماً، كان قد شارك في صناعة الشريط، في صناعة الأوامر الرئيسيّة التي صنع منها هذا الشريط...

تم إرساله هو وفينيرتي وشيبرد، ولم يكن الحبر قد جفّ من على شهادات الدكتوراه بعد، إلى إحدى محلات الآلات لصناعة التسجيل. أشار رئيس العمّال إلى أفضل رجل لديه- ماذا كان اسمه؟- ثم وهم يمزحون مع الميكانيكي الحائر، ربط الشباب الثلاثة اللامعين أدوات التسجيل بأجهزة تحكّم المخرطة. هيرتز. كان هذا اسم الميكانيكي- رودي هيرتز، رجل عجوز، كان على وشك التقاعد. تذكّر بول الاسم الآن، وتذكّر الاحترام الذي أظهره العجوز للشباب الثلاثة اللامعين.

بعد ذلك، طلبوا من رئيس رودي أن يتركه يغادر، ثم، وبروح صاخبة ونزويّة من الديمقراطيّة الصناعيّة، أخذوه عبر الشارع لشرب البيرة. لم يكن رودي يفهم تماماً ما هي أدوات التسجيل، لكنّه أعجب بما فهمه: بأنّه تم اختياره من بين آلاف من الميكانيكيين لتخليد حركاته على الشريط.

وهنا، الآن، وفي هذه الحلقة الصغيرة في الصندوق القابع أمام بول، وفيها كان رودي مثلما كان رودي يعمل على آلته في عصر ذلك اليوم- رودي، من يشغّل الطاقة، ومن يحدّد السرعات، ويتحكّم بأداة القطع. كان ذلك جوهر رودي بما يتعلّق بآلته، بما يتعلّق بالاقتصاد، بما يتعلّق بالجهود الحربيّة. كان الشريط الجوهر المقطّر عن الرجل الضئيل المهذّب بيديه الكبيرتين وأظافره السوداء: عن الرجل الذي كان يعتقد أنّه يمكن إنقاذ العالم إذا ما قرأ الجميع آية من الإنجيل كل ليلة، عن الرجل الذي عشق فصيلة كلاب كولي لافتقاده للأطفال، عن الرجل الذي... ما الذي قاله رودي في عصر ذلك اليوم أيضاً؟ افترض بول أن العجوز قد مات- أو أنّه في طفولته الثانية في "هومستيد".

والآن، ومن خلال تبديل المخارط على لوحة رئيسيّة وتغذيتها بإشارات من الشريط، يمكن لبول أن يجعل جوهر رودي هيرتز ينتج واحداً أوعشرة، أو مئة، أو ألف من القضبان.

أغلق بول باب الصندوق. بدا الشريط في حالة جيّدة، واللواقط أيضاً. كان كل شيء، في الواقع، يجري على نحو منظّم كما هو متوقّع بالنّظر إلى عمر الآلات الساحق في الزمن. سيكون هناك نتاجات مرفوضة، ذلك فقط. كانت المجموعة بأكملها تنتمي إلى متحف، وليس إلى خط إنتاج. حتّى أن الصندوق كان عتيقاً- وهو قسم مقوّس مثبّت على الأرض، مع باب وقفل من الفولاذ. في أيّام الشّغب، بعد الحرب مباشرة، تم إغلاق الأشرطة الرئيسيّة بتلك الطريقة. والآن، ومع تطبيق قوانين مكافحة التخريب بشكل صارم كما كانت، كانت الحماية الوحيدة التي تحتاجها أدوات التحكّم هي من الغبار، والصراصير، والفئران.

توقّف بول للحظة لدى الباب في القسم القديم من المبنى مرّة أخرى للاستماع إلى موسيقى المبنى 58. كان يفكّر لسنوات في جلب موسيقيّ لتلحينها- مجموعة المبنى 58. كانت فكرة الموسيقى أن تكون جامحة ولاتينيّة، بإيقاعات محمومة، تتلاشى وتظهر في القطع، صوت مشكاليّ. حاول أن يفصل ويحدّد الموضوعات. هناك: مجموعات المخارط، مغنّو التينور: "فوررازز-أو-أو-أو-أو-أو-آك. تينغ. فورر-آاز-أو-أو..". آلات اللحام مغنّو الباريتون: "فاااااااا-زوزيب. فاااااااا-زوزيب". ومع تواجد القبو كحجرة يتردّد فيها الصوت، تضغط الضربات، آلات الباس: "أو-غرامف. تونكا- تونكا. أو-غرامف. تونكا- تونكا...". كانت موسيقى مثيرة، وأسلم بول نفسه لها متوهّجاً وقد اختفى قلقه الغامض.

التقط بزاوية عينه حركة غزل مجنونة، واستدار فرحاً ليشاهد مجموعة من الساريات المصغّرة وهي تجدل أقمشة ملوّنة معلقة بها حول سلك أسود كالثعبان. دار ألف راقص صغير حول بعضهم البعض بسرعات لا تصدّق، على رجل واحدة، متجنبين بعضهم، وهم يحكمون العقدة حول السلك بدقّة. ضحك بول من الآلات الرائعة، وكان عليه أن يشيح بنظره لئلا يتعرّض للدوار. ففي الأيام الخوالي، عندما كانت النساء تدير الآلات، كان يتم العثور على بعضهن ممن كن يمتلكن قلوباً أكثر رقّة جالسات متصلّبات في أماكنهن وهن يحدقن بعد وقت طويل من انتهاء الدوام.

تحوّل نظره إلى قلب غير متناظر حفر على الطوب القديم، وكتب في وسطه "K.L- M.W. "، والتاريخ "1931". كان K.L وm.w يحبّان بعضهما، إذاً، في نفس العام الذي مات فيه إديسون. فكّر بول مرّة أخرى في متعة أخذ العجوز في جولة حول المبنى 58، ليدرك فجأة أن معظم الآلات قديمة، حتّى لإديسون. آلات الجدل، واللحام، والمكابس، والمخارط، والناقلات- كان كل شيء في الأفق، تقريباً، موجوداً في عصر إديسون. كانت الأجزاء الرئيسيّة من أدوات التحكّم التلقائي أيضاً، والعيون الكهربائيّة والعناصر الأخرى الموجودة والتي فعلت أكثر ممّا فعلته الحواس البشريّة يوماً للصناعة- كلها كانت مألوفة بما فيه الكفاية في الدوائر العلميّة حتّى في العشرينيّات. وكان كل ما هو جديد مزيجاً من تلك العناصر. ذكّر بول نفسه بذكر ذلك في خطابه في النادي الريفي مساء ذلك اليوم.

تمطّت القطّة ونشبت مخالبها في بدلة بول مرّة أخرى. كانت المكنسة الآليّة تندفع نحو الممر باتجاههما مرّة أخرى. أصدرت جرس التحذير، وخطا بول بعيداً عن طريقها. بخّت القطّة وبصقت، وأمسكت بيد بول بمخالبها فجأة وقفزت. وبمشية مختالة ومتشنّجة، لحقت بالمكنسة. وأبقتها آلات الجذب، والتلميع، والكسح الزاعقة في منتصف الممر، على بعدة ياردات من مقشّة المكنسة الكاسحة. نظر بول مسعوراً إلى المفتاح الذي من شأنه أن يوقف المكنسة، لكن قبل أن يجده، اتّخذت القطّة موقفاً. واجهت المكنسة المقبلة، بأسنانها التي تشبه الإبر، وطرف ذيلها الذي يتحرّك بعنف جيئةً وذهاباً. انطلق وميض من آلة اللحام من على بعد إنشات من عينيها، وخطفتها المكنسة وقذفتها وهي تزعق وتخرمش إلى بطنها القصديري المجلفن.

بعد أن اندفع وراءها لربع ميل على طول المبنى، أمسك بول بالمكنسة بمجرّد وصولها إلى المظلّة. انطفأت وبصقت القطّة تحت المظلّة على سيارة شحن مركونة في الخارج. عندما خرج بول، كانت القطة قد تعربشت على جانب سيارة الشحن، وانهارت على الأرض، بينما كانت تحاول أن تشق طريقها باستمامة نحو السياج.

صرخ بول: "لا كيتي، لا".

ارتطمت القطّة بسلك الإنذار على السياج، وانطلقت صفارات الإنذار من كشك البوابة. في الثانية التالية لارتطامها بالأسلاك المكهربة على السياج. فرقعة، وميض أخضر، ثم طارت القطّة عالياً فوق الشريط العلوي كما لو تم رميها. سقطت على الأسفلت- ميّتة ويصدر منها الدخان، لكن في الخارج.

دمدمت سيارة مدرعّة بينما كان برجها يصوّب بعصبيّة مدافعها الرشّاشة هنا وهناك وتوقّفت لدى الجثّة الصغيرة. انفتح البرج، ورفع حارس المصنع رأسه بحذر. "كل شيء على ما يرام سيدي؟".

"أطفئ صفّارات الإنذار. لا شيء سوى قطّة على السياج". ركع بول، ونظر إلى القطّة من خلال شباك السياج وهو مستاء بشكل مروع. "التقط القطّة وخذها إلى مكتبي".

"عفواً سيدي؟".

"القطّة- أريدها في مكتبي".

"لقد ماتت سيدي".

"لقد سمعتني".

"حاضر سيدي".

كان بول في القعر مرّة أخرى بينما كان يصعد إلى سيّارته أمام المبنى 58. لم يكن ثمّة شيء في الأفق لإلهائه، لا شيء سوى الأسفلت، ومشهد الواجهات الفارغة المرقّمة، وحزم من الغيوم الرفيعة تتشكّل في شريط من السماء الزرقاء. لمح بول إشارة الحياة المرئية الوحيدة عبر شقٍّ ضيّق بين المبنيين 57 و59، الشق الذي انفتح على النهر وكشف عن مجموعة من الشرفات الرماديّة في هومستيد. في أعلى شرفة منها، هزّ رجل عجوز كرسيه تحت بقعة من أشعة الشمس. انحنى طفل فوق الدرابزين وأطلق مربّعاً ورقيّاً في مسار كسول ومتأرجح إلى حافّة النهر. أشاح الولد بنظرته عن الورقة ليلاقي نظرة بول. توقّف العجوز عن الهز ونظر بفضول إلى الشيء الحي في "أشغال إيليوم".

بينما كان بول يمر عبر مكتب كاثرين فينش في طريقه إلى مكتبه، كانت تحمل خطابه المطبوع، وقالت: "ما قلته عن الثورة الصناعية الثانية جيّد جدّاً".

"قديمة، أمور قديمة".

"بدت لي فكرة جديدة تماماً- أعني ذلك الجزء الذي تقول فيه كيف أن الثورة الصناعيّة الأولى حطّت من شأن العمل الجسدي، بينما حطّت الثانية من شأن قيمة العمل الذهني الروتيني. فتنت بالفكرة".

"قال نوربيت وينر، عالم رياضيات، كل ذلك في الأربعينيّات. إنّه أمر جديد بالنسبة لك لأنّكِ أصغر من أن تعرفي شيئاً سوى الطريقة التي تسير بها الأمور الآن".

"في الواقع، أمر مدهش نوعاً ما أن الأمور كانت تسير بأي طريقة أخرى، أليس كذلك؟ كان من السخف أن يبقى الناس عالقين في مكان واحد طيلة اليوم، ويستعملون حواسهم فقط، ثم استجابة، ثم يستعملون حواسهم، ثم استجابة، من دون أن يفكّروا على الإطلاق".

قال بول: "كان أمراً مكلفاً ولا يمكن الاعتماد عليه بتاتاً. يمكنك تخيّل كيف كانت كومة الخردة، وجحيم أن يكون شخصاً مدير الخدمات في تلك الأيام. خُمَار، خلافات عائليّة، استياء من المدير، ديون، الحرب- كان من المرجّح أن يظهر كل نوع من المشاكل الإنسانيّة في المنتج بطريقة أو أخرى". ابتسم وقال: "والسعادة أيضاً. أتذكّر عندما كان علينا أن نسمح بالعطلات، خاصة حول أيام عيد الميلاد. لم يكن ثمّة شيء يمكن عمله إلّا الذهاب في إجازة. كان معدل رفض المنتجات يبدأ بالارتفاع في حوالي الخامس من ديسمبر، ويرتفع ويرتفع حتّى عيد الميلاد. ثم العطلة، ثم مستوى رفض فظيع، ثم رأس السنة، ثم مستوى رفض مروع. تبدأ الأمور بالاستقرار إلى طبيعتها- والتي كانت سيئة للغاية بما فيه الكفاية- بحلول الخامس عشر من يناير أو حول ذلك. اعتدنا على الأخذ بهكذا أمور في عمليّة تسعير المنتج".

"هل تفترض أنّه ستكون هناك ثورة صناعيّة ثالثة؟".

توقّف بول في مدخل مكتبه وقال: "ثورة ثالثة؟ كيف ستكون؟".

"لا أعرف بالضبط. لا بد أن الأولى والثانية كانتا لا يمكن تصورهما في ذلك الوقت".

"ربما بالنسبة إلى الأشخاص الذين كانوا سيستبدلون بآلات. ثورة ثالثة، آه؟ أعتقد أنه، بطريقة ما، الثالثة بدأت منذ وقت، إذا ما كنتِ تقصدين الآلات العاقلة. أعتقد أنّها ستكون الثورة الثالثة- الآلات التي تحط من شأن التفكير البشري. بعض أجهزة الكمبيوتر مثل EPICAC تفعل ذلك بشكل جيّد في المجالات المتخصّصة".

قالت كاثرين وهي تتفكّر "أها". هزّت قلم رصاص بين أسنانها. "أولاً العمل الجسدي، ثم العمل الروتيني، ثم ربما الدماغ".

"آمل ألّا أكون شاهداً على هذه الخطوة الأخيرة. بالحديث عن الثورات الصناعيّة، أين باد؟".

"كانت هناك سفينة في الطريق، لذلك كان عليه العودة إلى العمل. ترك لك هذه". أعطته وصل غسيل مجّعداً عليه اسم باد.

قلب بول الوصل ووجد عليه، كما توقّع، مخططاً لدائرة كاشف فئران ونظام إنذار قد يعمل بشكل جيّد للغاية. "عقل مذهل يا كاثرين".

أومأت برأسها في حيرة.

أغلق بول بابه، وأقفله بصمت، وأخرج زجاجة من تحت الأوراق في درج سفلي. غاب عن الوعي للحظة تحت تأثير جرعة الويسكي المجيدة. خبّأ الزجاجة مرّة أخرى، دمعت عيناه.

قالت كاثرين على سمّاعة الهاتف الداخلي: "دكتور بروتيوس، زوجتك على الهاتف".

"بروتيوس يتكلّم". بدأ بالجلوس، وفجع بالعثور على سلّة خوص صغيرة في كرسيّه تحتوي على قطّة سوداء ميّتة.

"هذا أنا، حبيبي، أنيتا".

"أهلاً أهلاً أهلاً". وضع السلّة على الأرض بلطف، وغرق في كرسيّه. "كيفك حياتي؟". قال بذهن مشغول. كان لا يزال مشغولاً بالقطّة.

"كل شيء جاهز لنحظى بوقت جيّد الليلة؟". كانت نبرةً مسرحيّة، نبرة عارفة وعاطفيّة: إنّها سيّدة عزبة إيليوم تتحدّث.

"أشعر بالقلق طيلة الوقت على الخطاب".

"لذلك ستقوم به بكل براعة يا عزيزي. ستصل إلى بيتسبيرغ بعد. ليس لدي أدنى شك في ذلك، يا بول، أدنى شك. فقط انتظر حتّى يسمعك كرونر وباير الليلة".

"قبل كرونر وباير الدعوة، أليس كذلك؟". كان هذان المدير وكبير المهندسين، على التوالي، للقسم الشرقي بأكمله، حيث كانت شركة أشغال إيليوم تشكّل جزءاً صغيراً منها. كان كرونر وباير من يقرّر من الذي سيحصل على أهم وظيفة في قسمهما، وهي وظيفة شغرت قبل أسبوعين بالموت- إدارة أعمال بيتسبيرغ. "إلى أي حد ستكون الحفلة مرحة؟".

"حسناً، إذا لم يعجبك الأمر، فلدي بعض الأخبار التي ستعجبك. سيكون هناك ضيف خاص جدّاً آخر".

"يا ساتر".

"وعليك أن تذهب إلى هومستيد لتأتيه ببعض الويسكي الإيرلندي. ليس هناك ويسكي إيرلندي في النادي".

"فينيرتي. إيد فينيرتي".

"نعم، فينيرتي. اتّصل بعد الظهر وكان طلبه محدّداً للغاية في أن تأتيه ببعض الويسكي الإيرلندي. إنّه في طريقه من واشنطن إلى شيكاغو، وسيتوقّف هنا".

"كم مر على آخر مرة أنيتا؟ خمس أو ست سنوات؟".

"ليس قبل أن أصبحت مديراً. منذ تلك الفترة الطويلة". كانت مرحة ومتحمّسة لمجيء فينيرتي. أزعج ذلك بول، لأنّه كان يعرف جيّداً أنّها لا تهتم بفينيرتي. كانت تتبجّح، ليس لأنّها كانت مغرمة بفينيرتي، لكن لأنّها كانت تستمع بمواقف طقوس الصداقات التي لم تكن تمتلكها. إضافة إلى ذلك، ومنذ أن غادر إيليوم، أصبح إيد فينيرتي رجلاً ذو شأن كبير، إذ أصبح عضواً في مجلس التخطيط الصناعي الوطني، وهذه الحقيقة بلّدت من ذكريات حوادثها مع فينيرتي في الماضي.

"هذه أخبار جيّدة بحق يا أنيتا. هذا أمر رائع. سيبعد الأضواء عن كرونر وباير".

"ستكون لطيفاً معهما أيضاً".

"آه نعم. ها أنذا قادم يا بيتسبيرغ".

"إذا قلت لك شيئاً لمصلحتك هل تعدني بألا تغضب؟".

"لا".

"طيب سأخبرك على أيّ حال. قالت إيمي هالبورن هذا الصباح أنّها سمعت شيئاً عنك وبيتسبيرغ. كان زوجها مع كرونر اليوم، وكان لدى كرونر انطباع بأنّك لا تريد الذهاب إلى بيتسبيرغ".

"كيف يريدني أن أخبره؟ بلغة الإسبيرانتو؟ أخبرته أنّني أريد الوظيفة بعدّة طرق مختلفة باللغة الإنجليزيّة".

"من الواضح أن كرونر لا يشعر أنّك تعني ذلك حقّاً. لقد كنت موارباً ومحتشماً يا عزيزي".

"وكرونر هو الشخص اللامع، طيب".

"ماذا تعني".

"أعني أنّه لديه نظرة ثاقبة بشأني أكثر منّي".

"تقصد أنّك لا تريد وظيفة بيتسبيرغ؟".

"لست متأكّداً. يبدو أنّه عرف ذلك قبل أن أفعل".

"أنت متعب يا عزيزي".

"أعتقد ذلك".

"أنت بحاجة إلى مشروب. تعال إلى المنزل باكراً".

"ماشي".

"بحبك يا بول".

"بحبك أنيتا. باي".

كانت أنيتا تجعل آليات الزواج حاضرة في أصغر تفصيل، حتى في أدقّ الأعراف. إذا كان نهجها عقلانيّاً ومنهجياً بشكل مزعج، فقك كانت متعمّقة بما فيه الكفاية لتتحوّل إلى مصدر دفء مزيّف موثوق به. كان بإمكان بول فقط أن يشك في أن مشاعرها ضحلة- وربّما كان ذلك الشك جزءاً ممّا بدأ بالتفكير به على أنّه سقمه.

عندما أغلق الخط كان رأسه منحنياً إلى الأسفل، وعيناه مغلقتان. عندما فتح عينيه، كان ينظر إلى القطّة الميتة في السلّة.

"كاثرين".

"نعم سيدي".

"ألا تجدين شخصاً يدفن هذه القطة؟".

"تساءلنا عمّ تريد أن تفعل بها".

"الله يعلم ماذا كان يدور في ذهني". نظر إلى الجثّة وهزّ رأسه. "الله أعلم. ربّما دفناً دينيّاً، ربّما كنت أتمنى أن تعود إلى الحياة. تخلصي منها على الفور، ممكن؟".

توقّف لدى مكتب كاثرين في طريقه إلى المنزل وأخبرها ألّا تقلق بشأن الجوهرة المتوهّجة على العداد السابع من الأسفل، الصف الخامس من اليسار، على الجدار الشرقي.

قال: "تجاوزت مرحلة المساعدة". كانت مخرطة المجموعة الثالثة في المبنى 58 تعمل بشكل جيّد في أحسن أحوالها، لكنّ كان يظهر عليها البلى وأصبحت غير مناسبة ضمن الإعداد الإنسيابي الإرشادي، حيث لم يكن هناك مجال للسلوك غير المنتظم. "في الأساس، لم يتم بنائها للعمل الذي تقوم به الآن على أيّ حال. أنا أنتظر أن ينطفئ الجرس في أيّ يوم الآن، وستكون تلك النهاية".

كان في كل صندوق عداد، إضافة إلى الآلة، والجوهرة، ومصباح التسخين، جرس. كان الجرس إشارة للانهيار الكامل للوحدة.