الثلاثاء، 11 ديسمبر 2018

العبور | كورماك مكارثي

عَبَرَ الوادي الصغير واتّجه غرباً إلى الجبال. لم تكن ثمّة طريقة لمعرفة كم قضى من الوقت في ذلك المكان، لكنّه عرف ممّا رآه من كل خير أو شر تأمّله على حصانه أنّه لن يخاف ممّا قد يواجهه هناك. بعد أيّام، سيصادف هنوداً جامحين في سلسلة الجبال يعيشون في أكواخ وبيوت مقبّبة ضمن مزارعهم البائسة، وهنوداً أكثر جموحاً يعيشون في كهوف اعتقدوا جميعاً أنّه مجنون بالنّظر إلى الطريقة التي تعاموا بها معه. أطعموه وغسلت النساء ورتقن ملابسه، وخيّطن حذاءه بمخرز وأربطة صنعنه يدويّاً من أقدام صقر. تحدّثوا فيما بينهم بلغتهم، أو معه بإسبانيتهم المكسّرة. قالوا أن أغلب شبابهم ذهبوا للعمل في المناجم أو في المدن، أو في مزراع المكسيكيين، لكنّهم لم يكونوا يثقون بالمكسيكيين. إذ كانوا يتاجرون معهم في القرى الصغيرة الممتدّة على طول النهر، وفي بعض الأوقات، كانوا يقفون في حلقة الضوء الخارجيّة ويشاهدونهم في مهرجاناتهم من دون أن يشاركوهم. قالوا أنّهم يلومون المكسيكيّون على الجرائم التي ارتكبوها فيما بينهم، إذ كان المكسيكيّون يسكرون ويقتلون بعضهم البعض، ثم يرسلون الجنود إلى الجبال ليبحثوا عنهم. عندما أخبرهم عن مكان نشأته تفاجأ بأنّهم يعرفون البلد لكنّهم لا يفصحون عن ذلك. لم يحاول أحد منهم مبادلة أحصنة معه، ولم يسأله أحدهم عن سبب قدومه، لكنّهم حذّروه فقط من الاقتراب من مقاطعة "ياكي" في الغرب لأن الياكيين سيقتلوه. ثم جهّزت النّساء له عشاءً من اللحوم والمجفّفة والمجلّدة أو الماتشاكا، والذرة المحمّصة، والتورتيّا المدخّنة، وتقدّم منه رجل عجوز وخاطبه بالإسبانيّة، التي يفهمها بصعوبة، بجديّة وهو ينظر في عيني الصبي ويمسك بمقدّمة وخلفيّة سرج حصانه، كما لو أن الصبي أصبح بين أذرعه. كان يرتدي ملابس غريبة ومبهرجة طرزّت عليها أشكال هندسيّة بدت وكأنها تعليمات، أو لعبة. كان يرتدي جواهر من اليشم والفضّة، وكان شعره طويلاً وأكثر سواداً ممّا كان يبدو عليه عمره. أخبر الصبي أنّه على الرّغم من تيتّمه، لا يزال يتعيّن عليه أن يكفّ عن ترحاله وأن يتّخذ مكانه في العالم، لأن التجوال بهذه الطريقة سيصبح شغفاً، وبهذا الشغف سيتغرّب عن النّاس، وفي النهاية عن نفسه. قال أنّه لا يمكن معرفة العالم إلّا بالشّكل الذي يتواجد عليه في قلوب الرّجال. فبينما بدا العالم على أنّه مكان يحتوي النّاس، إلّا أنّه كان، في الواقع، مكاناً احتواه الرّجال في دواخلهم. لذلك، إذا أراد المرء معرفته، عليه البحث هناك والتعرّف على تلك القلوب. ولفعل ذلك، على المرء أن يعيش مع النّاس- لا مجرّد العبور بينهم. قال على الرّغم من أن اليتيم قد يشعر بأنّه لم يعد ينتمي إلى الرجال، عليه إهمال هذا الشّعور لأنّه يحتوي في داخله روحاً كبيرةً يستطيع النّاس رؤيتها، ولأن النّاس يرغبون بمعرفته، وأن العالم سيحتاجه حتّى لو كان هو بحاجته لأنّهما واحد. قال في النهاية أنّه بينما كان ذلك بحد ذاته أمراً جيّداً مثل كل الأمور الجيّدة، لكنّه كان أمراً خطراً أيضاً. ثم نزع يديه عن سرج حصان الصبي وخطا بعيداً عنه ووقف هناك. شكره الصبي على كلماته، لكنّه أخبره أنّه ليس يتيماً، ثم شكر النّساء اللواتي وقفن هناك، وأدار حصانه ومضى في طريقه.
وقفوا يشاهدونه يمضي بعيداً عنهم. وعندما عبر آخر بيت مقبّب، أدار رأسه ونظر إليهم بينما كان العجوز يناديه ويقول: "إيريس، إيريس إيرفانو" ]نعم، أنت يتيم[، لكن الصبي رفع يداً واحدة فقط ليلمس قبّعته ويمضي في طريقه.