الأربعاء، 24 أبريل 2019

مقطعان من "النّفق" | ويليام غاس


مايكل هافتكا، شخصان يتنايكان، زيت على قماش (1982)





|

كانت العيون الجامحة علامةً أخرى. الأمر الذي لا أراه عادة- كتعبير عن حالة من النشوةعلى الرّغم من أن الكثير من تلك النشوة سقطت عنها، كما لو أنّها نبتَتْ كدوّار الشّمس على طول الطريق. العينان سوداوتان بشكل كافٍ. ومهما كان لونهما الطبيعي، فهما سوداوتان لأن نظرتهما تُختَزَل في الفحم، لأنّه تم اختزال ملمس ومذاق عطر المحبوب، والصراخ بكلمة قذرة، والنّهر الرّحب، بحرارة الشّغف، إلى رماد أسود. وتحلّ رواسب هذه الأكسدة غير المحترقة، وكأس هذه الزّهرة، محل البؤبؤ حتّى لا يعود قادراً على تلقّي شيء، ليرسل كل شيء بدلاً من ذلك. وحيث تنتصب كل خصلة رغم أنّ شعرها ربّما مسترسلٌ على وسادة، حيث تتوسّع فتحتا الأنف، ويفغر الفم، والخدّان ممصوصان حتّى يبدو الوجه بأكمله كما لو أنّه فاكهة معصورة. وأعلم أنّه لو انغمست "لو" في تلك الهمجيّة بينما كنّا نمتصّ بعضنا الآخر، ونحن نحاول أن نقبّل بعضنا، لا تقبيلاً شديداً فقط، ولا بجمجمة هيكلنا العظمي، بل بالجمجمة وجميع العظام التي علّق عليها الكيان الجوهري. تقبيلاً يقلقل شكل الرّوح أيضاً، وهذا ما يسمّى بالـ]قبلة[ الفرنسيّة المطلقة، بالنياكة القصوى، حيث يفضّ الإير المدلولات ويتأوّج. وأعلم أنّني أتيت برعشتي في تلك المنطقة الأخرى لأكثر من مرّة، ولكن ليس عادةً، عندما يستجلبني فمٌ كريم إلى عالم من الانهيار. وحيث يتمدّد كل إحساس كبحيرة، وحيث تنفك جميع الرّوابط، وينحلّ غراء الأشياء. كنت أعلم أنّني ارتديت مظهر الجّامح آنذاك. أعظم هديّة يمكنك أن تهديها إنسان آخر هي أن تدعهم يستثيروك حتّى، وأنت تعبر إلى ما وراء اللذة، تتهاوى خطوط دفاعاتك، وتستسلم أناك ويذوي أساسها، وتسقط أبراجها، ولا تجد الأكاذيب ولا الأوهام والخيلاء بحراً تهبّ فيه ريحها. ثم تعود، لا إلى الطين الذي خلقت منه، ولا إلى تلك النّطفة التي لم يُنفخ فيها الرّوح، بل إلى لحظة الإلهام الأصليّة، حين كنتَ نَفَسَ الرب غير المجتزأ.


||

وأمام التلّة الصغيرة، انتشر غرباء عراة على ميل من الأرض في مجموعات من عشرين شخصاً، وتسرّبوا كالدّخان بينما كانوا يساقون إلى الجهة الأخرى من قبل رجل بلا ملامح يحمل هراوة وسوط. وبينما كان يجمع عدد من الرّجال الملابس في عربات يدويّة. لا تزال هناك شاباّت بأثداء أخّاذة. ثمّة مجموعات عائليّة، والعديد من الأطفال الصّغار الذين يبكون بلا صوت، بالدّموع التي ترشح عن عيونهم كالعَرَق. وهمساً، يهدّئ النّاس من روع بعضهم الآخر: ستفرج قريباً، يقولون، قريباً. ولا أحد يندب ولا أحد يتوسّل، وتختلط الأذرع بالأخرى كأغصان الأشجار المتساقطة، ملقاة كالشالات على أكتاف هزيلة. وبينما يهبط هدوء رمادي سائب، تناغي جدّةٌ رضيعاً تحتضنه وتغطّيه حتى أقدامه بشعرها الرمادي: "ستفرج قريباً، قريباً". يضحك الطّفل حين يناغيه أحد. ويتحدّث أب بجديّة مع ابنه وهو يشير إلى السّماء حيث يكمن تفسير كل شيء بالتأكيد، وتلك هي وجهتهم الحقيقيّة بلا شك. لا يمكن تبيّن شكلاً واضحاً للسّماء، لذلك يكذب الأب على ابنه طيلة الوقت بدلاً من أن يضع خدّاه الرطبان بين يديه ويقول له: سوف تموت يا إبني ولن يتذكّرك أحد، سيختفي كل شيء: السّمندل الصغير الذي خفت منه في البداية، لكنّك أحببته مع الوقت لتدفنه في الحديقة، ومسيرك الطويل إلى المدرسة، وشكل يوميّاتنا على هيئة قصّة حبّنا القصيرة التي منحتك معنى ألعابك الصّاخبة غير المؤذية، وكل نتفة إحساس خصّبَتْ نظرتك المتلهّفة والمثابرة. كل ذلك سيزول- ليست تلك الفراشات التّي أحببتها فقط، ولا الأجساد التي كنتَ تتوق لرؤيتها عارية، بل باطن الأفخاذ، والحلمات، وشعر العانة. وليس فقط ما استفدناه جميعاً من ألعابك الأثيرة، أو أحلامك المزدحمة بالنّاس، بل عيناك التي بالكاد تتبرعم، وميزة الوعي الوافرة والنّاعمة التي أملتُ في أن تكون يوماً ما ميزتك الفريدة مثل أكثر المذاقات حذقاً، كقشرة وعصير ولب فاكهة مدهشة. طيّب، يا إبني، ستظهر إمكانيّاتك غير المحقّقة وكأنّها انتصابات إيرك، في لحظة قريبة، على أنّها طيز رطبة من الإسهال تحت بوط قاسٍ يختفي في الوحل. سيتذكّرون أرقامنا فقط، وليس أنّنا متنا أنا وإيّاك، بل أنّه كان هناك الكثير منّا. وأنّنا كنّا.