ترجمة القصّة القصيرة Where I am Calling from لرايموند كارفر
نحن على الشرفة الأماميّة لمركز فرانك مارتن
لتأهيل المدمنين. ومثل بقيّتنا في المركز، جي بي هو كحوليّ أوّلاً وقبل كل شيء.
لكنّه أيضاً منظّف مداخن. هذه هي المرّة الأولى له هنا، وهو خائف. كنت هنا مرّة
واحدة من قبل. ماذا يسعني أن أقول؟ لقد عدت. اسم جي بي الحقيقي هو جو بيني، لكنّه
يقول أنّه يتعيّن علي مناداته بـ"جي بي". يبلغ من العمر ثلاثين سنة
تقريباً.
أصغر منّي. ليس أصغر سنّاً بكثير، ولكن
قليلاً. يخبرني كيف قرّر الالتحاق بمجال عمله، وهو يحتاج لأن يستخدم يديه عندما
يتحدّث. لكن يداه ترتعشان. أعنى أنّها لا تستقرّان.
يقول: "لم يحدث هذا لي من قبل".
يقصد الارتعاش. أقول له بأنّني أتعاطف معه. أخبره بأن الارتعاش سيتوقّف. وسيحدث
ذلك. لكن الأمر يتطلّب بعض الوقت.
لم يمر علينا هنا سوى يومان. ولم نتجاوز
مرحلة الخطر بعد. تنتاب جي بي هذه الارتعاشات، ومن حين إلى آخر يبدأ عصب بالارتعاش
في كتفي- ربّما ليس عصباً، لكنّ ثمّة شيء يرتعش. في بعض الأحيان يكون على جانب
عنقي. وعندما يحدث ذلك يجفّ فمي. وحينها يصبح مجرّد الابتلاع صعباً. أعلم أن أمراً
ما سيحدث وأريد تجنّبه. أريد الاختباء منه، هذا ما أريد فعله. فقط أن أغلق عيناي
وأتركه يمر، فليستولي على الرجل التالي. يمكن لجي بي الانتظار للحظة.
رأيت نوبة صباح أمس. رجل يدعى تايني. رجل
بدين وجهم، كهربائي من سانتا روزا. قالوا أنّه مكث هنا لقرابة أسبوعين وأنّه تجاوز
مرحلة الخطر. كان من المفترض أن يعود إلى منزله في يوم أو يومين وأنّه سيمضي ليلة
رأس السنة مع زوجته أمام التلفزيون.
في ليلة رأس السنة، خطّط تايني لشرب
الشوكولاطة الساخنة وأكل البسكوت.
بدا صباح أمس على ما يرام عندما نزل لتناول
الإفطار. كانت طريقته في التخلّص من الإدمان في إطلاق أصوات بطبطة، بينما يري
شخصاً كان يلقبّه بطبط مصدر تلك الأصوات في رأسه. قال تايني: "بلام.
بلام" وهو يتمنيك على شخصين. كان شعر تايني رطباً ومصفّفاً إلى الوراء على
جانبي رأسه. كان قد خرج للتو من الشاور. كما جرح ذقنه بماكنة الحلاقة. لكن شو
يعني؟ فكل شخص في مركز فرانك مارتن تقريباً يمتلك جروحاً على وجهه. شغلة وبتصير.
استولى تايني على رأس الطاولة وبدأ يحكي قصّة أمر حدث معه في واحدة من نوبات شربه. ضحك من كان على الطاولة وهزّوا رؤوسهم وهم يبتلعون البيض. كان تايني يقول
شيئاً، ويبتسم، ثم يطالع الطاولة في أثر إشارة للتقدير. كنّا بالطبع قد فعلنا أموراً
بنفس السوء والجنون، ولذلك ضحكنا بالتأكيد. كان في طبق تايني بيض مخلوط وبعض
البسكوت والعسل. كنت أجلس على الطاولة، ولكنّني لم أكن جائعاً. كان لدي قليلٌ من
القهوة أمامي. فجأة لم يعد تايني في مكانه بعد الآن. إذ انقلب في كرسيّه محدثاً
ضجّة كبيرة. كان على الأرض بعينين مغلقتين، وكان كعباه يطرقان المشمّع. صرخ الناس
على فرانك مارتن. لكنّه كان هناك سلفاً. نزل شخصان على الأرض بجانب تايني. وضع
واحد منهما أصابعه داخل فم تايني وحاول أن يمسك بلسانه. صرخ فرانك مارتن:
"الجميع إلى الخلف".
ثم لاحظت أن بضعة منّا كانوا ينحنون على
تايني وينظرون إليه فقط وغير قادرين على أن نرفع أبصارنا عنه. قال فرانك مارتن:
"امنحوه مساحة". ثم ركض إلى المكتب واستدعى سيّارة الإسعاف.
عاد تايني اليوم مرّة أخرى. بكل بساطة. قاد
فرانك مارتن الستيشن واغن إلى المستشفى لإحضاره.
تأخّر تايني عن البيض، لكنّه أخذ قليلاً من
القهوة إلى غرفة الطعام وجلس إلى الطاولة على أيّ حال. قام أحدهم في المطبخ بتحضير
الخبز المحمّص له، لكن تايني لم يأكله. لم يفعل شيئاً إلا الجلوس هناك والنظر إلى
كوب القهوة. ومن حين إلى آخر، كان يحرّك فنجانه جيئةً وذهاباً أمامه.
وددت لو أسأله إذا ما كانت ثمّة إشارات
مسبقة قبل أن يحدث ما حدث. وددت معرفة لو أنّه شعر باضطراب في نبضه، أو أنّه بدأ
بالتّسارع. هل انتفض جفناه؟ لكنّني لم أوشك على قول شيء. لا يبدو أنّه يريد
التحدّث عن الأمر على أيّ حال. لكن ما حدث لتايني هو أمر لن أنساه أبداً. تايني
العجوز على الأرض يضرب كعبيه على الأرض.
لذلك في كل مرّة تحدث هذه النوبة في أي
مكان، أستنشق بعض الهواء، وأنتظر أن أجد نفسي على ظهري، متطلّعاً إلى الأعلى،
وثمّة أصابع في فمي.
في كرسيّه على الشرفة الأماميّة، يضع جي بي
يداه في حضنه. وأنا أدخّن وأستعمل دلو فحم قديم كمنفضة. أستمع إلى جي بي وهو يهذي.
الساعة الحادية عشرة صباحاً- لا يزال هناك ساعة ونصف حتّى الغداء.
لا أحد منّا جائع. لكننّا نتطلّع إلى الذهاب
إلى الداخل والجلوس على الطاولة علّنا نجوع.
ما الذي كان جي بي يتحدّث عنه على أيّ حال؟
كان يتحدّث عن كيف أنّه عندما كان في الثانية عشرة من عمره سقط في بئر في منطقة
مجاورة للمزرعة التي نشأ فيها. كان بئراً جافّاً لحسن حظّه. "أو لسوء
حظّه" كما يقول وهو ينظر من حوله ويهزّ رأسه. يقول أنّه في وقت متأخّر من عصر
ذلك اليوم، وبعد أن تم تحديد موقعه، أخرجه والده بحبل. كان جي بي قد بال على نفسه
هناك. كان قد عانى من كل أنواع الرعب في ذلك البئر وهو يصرخ طلباً للمساعدة،
وينتظر، ثم يصرخ مرّات أخرى. وقبل أن ينتهي الأمر، كان قد أرهق صوته. لكنه أخبرني
أنّ التواجد في أسفل البئر كان له تأثير دائم. إذ جلس هناك ونظر إلى فوّهة البئر،
حيث كان بإمكانه رؤية دائرة سماويّة زرقاء. ومن الحين إلى الآخر، كانت تمر سحابة
بيضاء فوقه، ويطير سرب من الطيور عبره، وكان يبدو لجي بي أن أجنحتها تصدر ضوضاء
غريبة. سمع أموراً أخرى. سمع حفيفاً منخفض الصوت فوقه في البئر، ما جعله يتساءل
عمّا إذا كانت الأشياء ربّما تتساقط على شعره. كان يفكّر في الحشرات. سمع الريح
تهب على فوّهة البئر، وترك ذلك الصوت تأثيراً عليه أيضاً. باختصار، كان كل ما
يتعلّق بحياته مختلفاً بالنسبة له وهو يقبع في أسفل ذلك البئر. لكن لم يسقط شيء
عليه، ولم يغلق تلك الدائرة الزرقاء الصغيرة شيء. ثم جاء والده مع الحبل، ولم يمضِ
وقت طويل قبل أن يعود جي بي إلى العالم الذي لطالما عاش فيه.
أقول: "تابع حديثك جي بي، ثم ماذا
حصل؟".
عندما كان في الثامنة أو التاسعة عشرة من
عمره وكان قد غادر المدرسة الثانويّة ولم يكن يرغب بعمل أي شيء على الإطلاق، ذهب
في عصر يومٍ من الأيّام إلى الطرف الآخر من المدينة لزيارة صدق. عاش هذا الصديق في
منزل يحتوي على مدفأة حطب. جلس جي بي وصديقه لشرب البيرة والحديث. وضعا بعض
الاسطوانات. قبل أن يرن جرس الباب. يذهب الصديق إلى الباب. يجد تلك الفتاة التي
تنظّف المداخن وهي تحمل أدوات عملها. كانت ترتدي قبّعة عالية. كان منظراً أذهل جي
بي. تخبر صديق جي بي أنّها لديها موعد التنظيف المدفأة. يدخلها الصديق وينحني لها.
لا تعيره الشابة أي اهتمام. تنشر بطّانيّة على بيت النّار وتضع أدواتها. ترتدي
بنطالاً أسود، وقميصاً أسود، وحذاءً وجوارب سوداء.
كانت قد خلعت قبّعتها جانباً بحلول ذلك
الوقت. يقول جي بي أنّ مجرّد النظر إليها كان له وقعٌ شديد عليه. تنجز عملها،
وتنظّف المدفأة، بينما يستمع جي بي وصديقه للاسطوانات ويشربون البيرة. لكن بينما
كانا يشاهدانها ويراقبان ما كانت تفعل. وبين الحين والآخر، كان جي بي وصديقه
ينظران إلى بعضهما ويبتسمان، أو يغمزان لبعضهما. وعندما اختفى الجزء العلوي من
الشابة في المدخنة تعجّبا. قال جي بي أنّها كانت جميلة أيضاً، وبعمره تقريباً.
عندما أنهت عملها، لفّت أغراضها في
البطّانيّة.
أخذت شيكّاً من صديق جي بي كان والداه قد
كتباه لها. ثم تسأل الصديق إذا ما كان يريد تقبيلها قائلةً: "من المفترض أن
يجلب الحظّ الجيّد". كان ذلك سبباً كافياً لجي بي. ينصدم الصديق. ويهرّج
أكثر. ثم، يقبّلها على خدّها خجلاً على الأرجح. في تلك اللحظة قرّر جي بي أمراً.
وضع البيرة على الأرض. نهض من الصوفا. ذهب إلى الفتاة بينما كانت تخرج من الباب.
قال لها جي بي: "أنا أيضاً؟".
نظرت إليه وهي تتفحصّه. يقول جي بي أنّه كان يمكنه الشعور بقلبه وهو يدق بعنف.
اتّضح أن اسم الفتاة كان روكسي.
تقول روكسي: "بالطبع. لم لا؟ لدي بعض القبلات
الإضافيّة". ثم قبّلته قبلة شهيّة على شفتيه ثم التفتت لتغادر.
هكذا، بطرفة عين، تبعها جي بي على الشرفة.
أمسك لها المنخل لتمرّ. نزل معها الدرجات وحتّى الموقف حيث ركنت شاحنتها المغلقة.
كان أمراً خارجاً عن قراره. لم يكن أمر آخر في العالم يعني شيئاً له.
كان
يعلم أنه التقى شخصاً بإمكانه أن يجعل رجلاه ترجفان. كان بإمكانه الشعور بقبلتها التي
لا تزال تتّقد على شفتيه وغير ذلك. في تلك اللحظة، لم يكن جي بي قادراً على فهم ما
يحدث. كان ممتلئاً بالأحاسيس التي كانت تطيح به في شتّى الاتّجاهات.
فتح لها باب الشاحنة الخلفي. ساعدها في
توضيب أغراضها في الداخل. قالت له: "شكراً". ثم قالها من دون تفكير-
أنّه يريد رؤيتها مرّة أخرى. هل تود الذهاب إلى السينما معه في وقت من الأوقات؟
أدرك أيضاً ما أراد أن يفعله بحياته. أراد أن يفعل ما فعلت. أراد أن يصبّح منظّف
مداخن. لكنّه لم يخبرها بذلك.
قال جي بي أنّها وضعت يديها على وركيها
ونظرت إليه مطوّلاً. ثم عثرت على بطاقة أعمال في المقعد الأمامي لشاحنتها. أعطته
أيّاها.
قالت: "اتّصل بهذا الرقم بعد الساعة
العاشرة من مساء اليوم. سيكون جهاز الرد مقفلاً في ذلك الوقت. يمكننا أن نتحدّث.
علي أن أذهب الآن".
ارتدت قبّعتها العالية ثم خلعتها. نظرت إلى
جي بي مرّة أخرى. ينبغي أن تكون قد أحبّت ما رأت، لأنها ابتسمت ابتسامة عريضة هذه
المرّة. قال لها أنّه ثمّة لطخة بالقرب من فمها. ثم صعدت إلى شاحنتها، أطلقت
البوق، ثم قادت السيارة بعيداً.
أقول: "ثم ماذا؟ لا تتوقّف الآن يا جي
بي". كنت مهتمّاً. لكنّني كنت لأستمع حتّى لو كان يتحدّث حول الطريقة التي
قرّر بها أن يعمل بحدوات الخيول.
أمطرت الليلة الماضية. تتجمّع الغيوم مقابل
التلال عبر الوادي. ينظّف جي بي حنجرته وينظر إلى التلال والغيوم. يمسك بذقنه. ثم
يتابع ماذا كان يقول.
بدأت روكسي بالخروج معه في مواعيد غراميّة.
وشيئاً فشيئاً يقنعها بالسماح له بالعمل معها. لكن روكسي تشارك والدها وشقيقها في
العمل ولديهم القدر المناسب من الأعمال. لا يحتاجون إلى أيّ شخص آخر. إلى جانب
ذلك، من كان هذا الجي بي؟ جي بي ماذا؟. حذّروها منه.
فشاهدت هي وجي بي بعض الأفلام سويّاً. وذهبا
إلى بعض الحفلات.
لكن كان موضوع التودّد الأساسي يدور حول
تنظيفهما للمداخن سويّاً. قال جي بي: قبل أن ندرك ذلك، بدؤوا بالتحدّث حول ربط
العقدة. وبعد فترة يفعلانها، يتزوّجان. يشرك الحمو الجديد جي بي في العمل كشريك
بحصّة كاملة. وفي نحو عام، تنجب روكسي طفلاً. كانت قد تركت عملها كمنظّفة مداخن.
وبكل الأحوال، كانت قد تركت العمل.
بعد فترة قصيرة تنجب طفلاً آخر. أصبح جي بي
في منتصف العشرينيّات بحلول ذلك الوقت. يشتري منزلاً. يقول أنّه كان سعيداً
بحياته، يقول: "كنت سعيداً بالطريقة التي تسير بها الأمور. كان لدي كل ما
أردت. كان لدي زوجة وأطفال أحببتهم، وكنت أفعل ما أردت عمله في حياتي". لكن
لسبب ما- من يدري لماذا نفعل ما نفعل؟- بدأ بالشرب. كان يشرب البيرة فقط لفترة
طويلة. أيّ نوع من البيرة- لم يكن ذلك مهمّاً. يقول أنّه كان قادراً على شرب
البيرة 24 ساعة في اليوم. كان يشرب البيرة في الليل وهو يشاهد التلفزيون. وبين
الحين والآخر، كان يشرب كحولاً أقوى بالتأكيد. لكن ذلك فقط عندما كانوا يذهبون إلى
المدينة، ولم يحدث ذلك كثيراً، أو عندما يزورهم ضيوف.
ثم يأتي وقت، لا يعرف سببه، عندما يبدّل
البيرة بالجين والتونيك. ثم يشرب المزيد من الجين والتونيك بعد العشاء وهو جالس
لمشاهدة التلفزيون. كان هناك دائماً كوب من الجين والتونيك في يده. يقول أنّه أحب
طعمه فعلاً. بدأ بأخذ بعد الوقت بعد العمل للشرب قبل أن يذهب إلى المنزل لشرب
المزيد. ثم بدأ بالتغيّب عن بعض وجبات العشاء. لم يكن يأتي.
أو يأتي لكنّه لا يريد أن يتناول الطعام. إذ
كان يملأ معدته بمأكولات خفيفة من البار. في بعض الأحيان كان يدخل من الباب ويرمي
دلو الغداء عبر غرفة المعيشة من دون سبب وجيه. عندما تصرخ روكسي به، كان يستدير
ويخرج مرّة أخرى. نقل موعد شربه إلى وقت مبكر من العصر، بينما كان لا يزال من
المفترض أن يعمل. يخبرني أنّه كان يبدأ صباحه بمشروبين. كان يسارع بشربهما قبل أن
ينظّف أسنانه. ثم يشرب قهوته. كان يذهب إلى العمل بثيرموس فودكا مع دلو الغداء.
يتوقّف جي بي عن الكلام. ينغلق على نفسه. ما
الذي يحدث؟ أنا أستمع. كلامك يساعدني على الاسترخاء. ينسيني حالتي. بعد لحظة أقول:
"بحق الجحيم؟ هيّا يا جي بي". يمسك بذقنه. لكن سرعان ما يبدأ بالحديث
مرّة أخرى.
يخوض جي بي وروكسي بعض المشاجرات الحقيقيّة
الآن. أعني أنّها مشاجرات. يقول جي بي أنّها ضربته على وجهه بقبضتها ذات مرّة
وكسرت أنفه.
يقول: "انظر إلى هذا، هنا". يريني
خطّاً عبر جسر أنفه. "هذا أنفٌ مكسور". يرجع الجميل. فقد خلع كتفها في
تلك الحادثة. وشقّ شفتها في مناسبة أخرى. كانا يضربان بعضهما أمام الأطفال. وخرجت
الأمور عن السيطرة. لكنّه استمر في الشرب. لم يكن قادراً على التوقّف. ولم يكن
ثمّة ما يجعله يتوقّف. ولا حتّى تهديد والد وشقيق روكسي بضربه ضرباً شديداً. إذ
قالوا لروكسي أنّها يجب أن تأخذ الأطفال وتغادر. لكن روكسي قالت أنّها كانت
مشكلتها الخاصّة. فهي تورّطت بها، وهي ستحلّها.
يهدأ جي بي الآن بحق. يحني كتفيه ويغرق في
كرسيه. يشاهد السيّارات وهي تسير على الطريق بين هذا المكان والتلال.
أقول له: "أريد أن أسمع بقيّة القصة يا
جي بي، من الأفضل لك أن تستمر في حديثك".
يقول: "أنا فقط لا أعرف". يهز
كتفيه.
أقول: "كل شيء على ما يرام".
وأعني أنّه يستطيع إخباري. "هيا يا جي بي".
يقول جي بي أن إحدى الطرق التي حاولت من
خلالها حل الأمور هي العثور على عشيق.
يود جي بي معرفة كيف وجدت الوقت لذلك مع
المنزل والأطفال.
نظرت إليه وتفاجأت. إنّه رجل بالغ. قلت:
"إذا أردتّ أن تفعل ذلك ستجد الوقت. ستخلق الوقت".
يهزّ جي بي رأسه ويقول: "على ما
أعتقد".
على أيّ حال، اكتشف ذلك- عشيق روكسي- وجنّ
جنونه. تمكّن من خلع خاتم زواج روكسي من إصبعها. وعندما فعل ذلك قطعه إلى عدّة قطع
بقاطع أسلاك.
متعة حقيقيّة. كانا قد تشاجرا مرتان في هذه
المناسبة. في طريقه إلى العمل في صباح اليوم التالي تم اعتقاله بتهمة القيادة في
حالة سكر. فيفقد رخصة قيادته. لا يمكنه قيادة الشاحنة إلى العمل بعد الآن. يقول أن
ذلك كان أمراً جيّداً. ففي الأسبوع السابق كان قد سقط عن سطح وكسر إبهامه. يقول
أنّها كانت مجرّد مسألة وقت حتى يكسر عنقه اللعينة.
كان هنا في مركز فرانك مارتن ليتخلّص من
الشّرب ويكتشف كيف يمكنه إعادة حياته إلى المسار الصحيح. لكنّه لم يكن هنا ضد
إرادته، أكثر ممّا كنت عليه. لم نكن محتجزين. كان يمكننا المغادرة في أي وقت
أردناه. لكن التوصية كانت بالإقامة لمدّة أسبوعين كحد أدنى. وكان الأسبوعان أو
الشهر "ينصح بها بشدّة" حسب تعبيرهم.
هذه المرّة الثانية لي في مركز فرانك مارتن
كما قلت. عندما كنت أحاول توقيع شيك لأدفع عن إقامة أسبوع مقدّماً قال فرانك
مارتن:
"دوماً ما تكون الإجازات توقيتاً
سيّئاً. ربما يجب عليك التفكير في البقاء لفترة أطول هذه المرة؟ فكّر في
أسبوعين".
"هل يمكنك البقاء لمدّة أسبوعين؟ فكّر
في الأمر على أيّ حال". قال:" ليس عليك أن تقرّر أي أمر الآن". وضع
إبهامه على الشيك ووقّعت باسمي. ثم سرت بعشيقتي إلى الباب الأمامي وودّعتها. قالت:
"وداعاً"، ثم تمايَلتْ عبر عتبة الباب، ثم إلى الشرفة. الوقت أواخر العصر.
إنّها تمطر. أذهب من الباب إلى النافذة. أرفع الستارة وأراقبها وهي تقود بعيداً.
إنّها في سيّارتي. سكرانة. لكنّني سكران
أيضاً ولا يمكنني فعل أي شيء. أصل إلى الكرسي الكبير القديم القريب من مشع التدفئة
وأجلس هناك. يطالعني بعض من كانوا يشاهدون التلفزيون. ثم يعودون ببطء إلى ما كانوا
يشاهدونه. أجلس هناك فحسب. وبين الحين والآخر ألقي نظرة على أمر يحدث على الشّاشة.
في وقت لاحق من عصر ذلك اليوم، انفتح الباب
الأمامي ودخل جي بي محمولاً بين رجلين ضخمين- حماه وصهره. عرفت ذلك لاحقاً. قادا
جي بي عبر الغرفة. قام الأكبر سنّاً بتسجيل دخوله وأعطى فرانك مارتن شيكّاً. ثم
ساعد هذين الرجلين جي بي للصعود إلى الطابق العلوي. أعتقد أنّهما وضعاه في السرير.
سرعان ما عاد العجوز والرجل الآخر إلى الطابق الأرضي وتوجّها إلى الباب الأمامي.
لم يبدُ أنّهما يخرجان من هذا المكان بالسرعة الكافية. كان الأمر وكأنّهما لا
يسعهما الانتظار ليغسلا أيديهم من كل هذا الأمر. لم ألومهما. قطعاً لا. فأنا لا
أعرف كيف سأتصرّف إذا كنت في مكانهما.
التقيت بجي بي بعد يوم ونصف على الشّرفة
الأماميّة. نتصافح ونعلّق على الطّقس.
تنتاب جي بي حالة من الرعاش. نجلس ونسند
أقدامنا على الدرابزين. نتّكئ على كرسيينا كما لو كنّا هنا نرتاح قليلاً، كما لو
كنّا نستعد للحديث عن كلاب صيد الطيور الخاصة بنا. وذلك عندما يبدأ جي بي بسرد
قصّته.
الجوّ بارد في الخارج، لكنّه ليس بارداً
جدّاً. السماء غائمة. في مرحلة معيّنة، يأتي فرانك مارتن إلى الخارج لينهي تدخين
سيجاره. يرتدي سترة مزرّرة حتّى تفّاحة آدم. فرانك مارتن قصير وممتلئ. يمتلك شعراً
رماديّ مجعّداً ورأساً صغيراً. لا يتناسب حجم رأسه مع باقي جسده. يضع فرانك مارتن
السيجار في فمه ويقف مقاطعاً ذراعيه على صدره. يدخّن من السيجار في فمه وينظر عبر
الوادي. يقف هناك مثل ملاكم محترف، مثل شخص يعرف النتيجة.
يصبح جي بي هادئاً للغاية مرّة أخرى. أعني
أنّه بالكاد يتنفّس. أرمي سيجارتي في دلو الفحم وألقي نظرة جادّة على جي بي الذي
يغرق في كرسيّه بشكل أكبر. يسحب جي بي ياقة قميصه إلى الأعلى. أتساءل عمّ يجري بحق
الجحيم. يفرد فرانك مارتن ذراعيه ويأخذ نفساً من السيجار.
يترك الدخّان ليخرج من فمه. ثم يرفع ذقنه
تجاه التلال ويقول: "كان لجاك لندن منزلاً كبيراً على الطرف الآخر من هذا
الوادي. هناك خلف التلّة الخضراء التي تنظران إليها. لكن الكحول قتلته. فليكن ذلك
درساً. كان رجلاً أفضل من أيٍّ منّا. ولكنّه لم يستطع التعامل مع هذه الأشياء
أيضاً". ينظر إلى ما تبقّى من سيجاره. انطفأ. يرميه في الدلو. يقول:
"إذا أردتّما قراءة شيء أثناء وجودكم هنا اقرآ كتابه "نداء
البريّة". هل تعرفان عمّ أتحدّث عنه؟ لدينا الكتاب في الداخل إذا أردتم أن
تقرآ شيئاً. يتحدّث الكتاب عن هذا الحيوان الذي نصفه كلب ونصفه ذئب. لم يعودوا
يكتبون مثل هذه الكتب بعد الآن. لكن كان بإمكاننا مساعدة جاك لندن لو كنّا في هذه
الأيّام. وإذا سمح لنا. إذا طلب مساعدتنا. هل تفهمان؟ مثلما يمكننا مساعدتكما. إذا
طلبتما ذلك وسأستمع/ تستمعان. نهاية الخطبة. لكن لا تنسيان. إذا". يقول مرّة
أخرى. ثم يربط عقدة بنطاله وينزل سترته إلى الأسفل. ويقول: "أنا ذاهب إلى
الداخل. أراكما عند الغداء".
يقول جي بي: "أشعر وكأنّني حشرة عندما
يكون متواجداً. يجعلني أشعر وكأنّني حشرة. شيء يمكنك أن تدوسه". يهز جي بي
رأسه ويقول: "جاك لندن، يا له من اسم. أتمنّى لو كان اسمي مثل ذلك الاسم.
بدلاً من الاسم الذي حصلت عليه".
تحدّث فرانك مارتن عن تلك
الـ"إذا" في المرّة الأولى التي كنت فيها هنا. أحضرتني زوجتي هنا في ذلك
الوقت. كنّا لا نزال نعيش معاً في ذلك الوقت ونحن نحاول أن نحلّ الأمور. أحضرتني
إلى هنا وبقيَتْ لساعة أو ساعتين وهي تتحدّث إلى فرانك مارتن على انفراد. ثم غادرت.
في صباح اليوم التالي أخذني فرانك مارتن جانباً وقال: "يمكننا مساعدتك. إذا
كنت تريد المساعدة ورغبت في الاستماع إلينا". لكن لم أكن أعرف إذا ما كان
بإمكانهم مساعدتي أم لا. أراد جزء مني المساعدة. لكن كان ثمّة جزء آخر. في نهاية
المطاف، كانت هناك"إذا" كبيرة للغاية.
هذه المرّة، بعد ستّة أشهر من إقامتي
الأولى، كانت عشيقتي هي التي قادت بي إلى هنا. كانت تقود سيّارتي. قادت بنا عبر
عاصفة ممطرة. شربنا الشمبانيا طوال الطريق. كنّا سكرانيْن عندما ركَنَتْ السيّارة
في الموقف. كانت تنوي إيصالي، ثم تستدير، ثم تقود إلى المنزل مرّة أخرى. كانت
لديها أمور لتفعلها. أحد هذه الأمور كان الذهاب إلى العمل في اليوم التالي. كانت
سكرتيرة. كانت تملك عملاً لا بأس به مع شركة للقطع الإلكترونيّة. كان لديها أيضاً
ابن مراهق ثرثار. أردتّ أن أحجز لها غرفة في موتيل في المدينة لتقضي ليلتها ثم
تعود إلى المنزل. لا أعلم إذا ما ذهبت إلى الغرفة أم لا. لم أسمع أخبارها منذ أن
قادتني عبر الدرجات الأماميّة في ذلك اليوم ومشت بي حتّى مكتب فرانك مارتن وقالت:
"احزر من هنا".
لكنّني لم أكن غاضباً منها. ففي المقام
الأوّل، لم تكن تعرف ما الذي أقحمت نفسها فيه عندما قالت أنّني أستطيع المكوث
لديها بعد أن طلبت منّي زوجتي المغادرة. شعرت بالأسى من أجلها. السبب الذي جعلني
أشعر بالأسى من أجلها أنّه في اليوم السابق لعيد الميلاد ظهرت نتيجة مسح عنق
رحمها، ولم تكن الأخبار سارّة. كان عليها أن تعود إلى الطبيب، وقريباً جدّاً. شكّل
هذا النوع من الأخبار سبباً كافياً لكلينا للبدء بالشرب. لذا ما فعلناه أنّنا كافأنا
نفسينا وسكرنا.
وفي يوم عيد الميلاد كنّا لا نزال سكرانين.
كان علينا الذهاب إلى مطعم لتناول الطعام، لأنّها لم تكن تشعر أنّه بإمكانها
الطهي. قمنا وإبنها المراهق الثرثار بفتح بعض الهدايا، ثم ذهبنا إلى مطعم للستيك
بالقرب من شقّتها. لم أكن جائعاً. تناولت بعض الشوربة وقطعة معجّنات. شربت زجاجة
نبيذ مع الشوربة. شربَتْ بعض النبيذ هي أيضاً. ثم بدأنا بشرب بلودي مايري. لم
أتناول في اليومين التاليين أيّ شيء عدا الكاجو. لكنّني شربت الكثير من البوربون.
في صباح الثامن والعشرين قلت لها: "حبّي، أعتقد أنّه من الأفضل أن أحزم
أمتعتي. من الأفضل أن أعود إلى مركز فرانك مارتن. أحتاج إلى أن أجرّب ذلك المكان
مرّة أخرى. صحيح، ما رأيك أن تقودي بنا؟".
حاولت أن تشرح لابنها أنّها لن تكون متواجدة
ذلك العصر والمساء، وأنّه عليه أن يحضّر عشاءه بنفسه. لكن بينما كنّا نخرج من
الباب صاح هذا الطفل الملعون بنا. صرخ: "هل تسمّين هذا حبّاً؟ اللعنة عليكما
معاً. أتمنّى ألّا تعودا أبداً. أتمنّى أن تقتلا نفسيكما". تخيّل هذا الطفل.
قبل أن نغادر المدينة، كنت قد طلبت منها أن
تتوقّف لدى متجر الخمور، حيث اشتريت ثلاث زجاجات شمبانيا. نوع بايبر الجيّد.
توقّفنا في مكان آخر لنحصل على كؤوس بلاستيكيّة. ثم أخذنا معنا دلواً من الدجاج
المقلي. انطلقنا إلى مركز فرانك مراتن في هذه العاصفة ونحن نشرب الشمبانيا ونستمع
إلى الموسيقى من الراديو. استلمت القيادة، بينما استلمت أمر الراديو وسكبت
الشمبانيا. حاولنا أن نجعل الأمر يبدو وكأنّه حفلاً مصغّراً. لكنّنا كنّا حزينين
أيضاً. كان هناك دجاج مقلي، لكنّنا لم نأكل شيئاً منه.
أعتقد أنها وصلت إلى المنزل على ما يرام.
أعتقد أنّني كنت سأسمع شيئاً لو لم تستطع العودة. لكنّها لم تتّصل بي، ولم أتّصل
بها. ربّما وصلتها أخبار خاصّة بها. ثم مرّة أخرى، ربّما لم تسمع شيئاً. ربّما كان
كل ذلك خطأً. ربّما كان اختباراً لشخص آخر. لكن سيارتي في حوزتها، ولدي أشياء لي
في منزلها. أعلم أنّنا سنرى بعضنا مرّة أخرى.
ضربوا جرس مزرعة قديم للإعلان عن وقت تناول
الطعام. نهضنا جي بي وأنا من مقاعدنا ببطء، مثل عجوزين، وذهبنا إلى الداخل. قد بدأ
الجو يصبح بارداً جدّاً على الشرفة على أيّ حال. يمكننا رؤية أنفاسنا تندفع منّا
بينما نتكلّم.
أحاول أن أتًصل بزوجتي في صباح عشيّة رأس
السنة. ليس ثمّة إجابة. معلش. لكن حتّى لو كان "مش معلش"، فما المفترض
بي عمله؟ في المرّة الأخيرة التي تحدّثنا بها على الهاتف، قبل أسبوعين، صرخنا على
بعضنا. شتمتها ببعض النعوت. قالت: "سكّير"، ثم أعادت الهاتف إلى حيث
كان. لكنّي أردتَ التحدّث معها الآن. يجب أن نتصرّف بأغراضي. فلا يزال لدي أشياء
لي في منزلها أيضاً.
يقيم هنا رجل يسافر كثيراً. يذهب إلى أوروبا
والشرق الأوسط. هذا ما يقوله على أيّ حال. بغرض العمل، يقول. يقول أيضاً أنّ الشرب
تحت السيطرة وليس لديه أي فكرة عن سبب وجوده في مركز فرانك مارتن. لكنّه لا يتذكّر
الوصول إلى هنا. ويمزح بشأن عدم تذكّره قائلاً: "يمكن لأي شخص أن تغيب
ذاكرته. هذا لا يثبت شيئاً". يقول أنّه ليس سكّيراً وننصت له. يقول:
"هذه تهمة جدّية. هذا النوع من الكلمات يمكن أن يدمّر تطلّعات رجل
صالح". يقول أيضاً أنّه لو كان يكتفي بالويسكي والماء، من دون ثلج، فلن يكون
"مخموراً"- بكلماته- ولن تغيب ذاكرته. فالأمر عائد للثلج الذي يضعونه في
مشروبك. يسألني: "من تعرف في مصر؟ يمكنني الاستفادة من بعض الناس هناك".
يقدّم فرانك مارتن في عشاء رأس السنة الستيك
والبطاطا المخبوزة. سلطة خضراء. تعود شهيتي. آكل السلطة. وآكل كل شيء في طبقي
ويمكنني تناول المزيد. أنظر إلى طبق "تايني". بالكاد لمس شيئاً بحق
الجحيم. تقبع قطعة الستيك الخاصة به هناك وهي تبرد. لم يعد تايني نفسه. كان ابن
الحرام المسكين يخطّط لأن يكون في المنزل الليلة. كان يخطّط لأن يكون مرتدياً
رداءه ونعاله ويجلس أمام التلفزيون وهو يمسك بيد زوجته. لكنّه يخشى المغادرة الآن.
أستطيع أن أفهم ذلك. فنوبة واحدة تعني أنّك مهيّأ لأخرى. لم يحكي تايني أي قصص
مجنونة عن نفسه منذ حدوثها. إذ بقي هادئاً وانغلق على نفسه. سرعان ما سألته إذا ما
كان بإمكاني الحصول على قطعة الستيك، ثم يدفع بطبقه إليّ.
سمحوا لنا بإبقاء التلفزيون حتّى الإعلان عن
السنة الجديدة في تايمز سكوير. بقي بعضنا مستيقظاً ونحن نجلس حول التلفزيون ونشاهد
الحشود على الشاشة، بينما يأتي فرانك مارتن ليرينا كعكته. يجلبها ويريها لكلٍّ
منّا. أعلم أنه لم يخبزها. أعلم أنّها كعكة ملعونة من المخبز. لكنّها لا تزال
كعكة. إنّها كعكة بيضاء كبيرة. وكتب على جزئها العلوي بخط زهري: "هابي نيو
يير- يوم واحد في كل خطوة".
يقول الرجل الذي يسافر إلى أوروبا والشرق
الأوسط: "لا أريد أيّ كعكة غبيّة. أين الشمبانيا" ويضحك.
نذهب جميعاً إلى غرفة الطعام. يقطع فرانك
مارتن الكعكة. أجلس بجانب جي بي. يأكل جي بي قطعتين ويشرب علبة كولا. آكل قطعة
وألفّ أخرى في منديل لأتناولها لاحقاً.
يشعل جي بي سيجارة- يداه ثابتتان الآن- ويخبرني
أن زوجته قادمة لزيارته في الصباح. اليوم الأول من السنة الجديدة.
أقول: "هذا أمر رائع" وأومئ
برأسي. ألعق الكريمة من أصابعي. "هذه أخبار رائعة يا جي بي".
يقول: "سأعرفك عليها".
أقول: "أتطلّع إلى ذلك".
نتمنّى ليلة هانئة لبعضنا. نتمنّى سنة
سعيدة. نوماً هانئاً. أنظّف أصابعي بمنديل. نتصافح.
أذهب إلى الهاتف المدفوع مرّة أخرى، وأضع
قرشاً، وأتّصل اتصالاً مدفوعاً بزوجتي. لكن لا أحد يجيب هذه المرّة أيضاً. أفكّر
في الاتّصال بعشيقتي، وأضغط رقم هاتفها عندما أدرك أنّني لا أريد التحدّث معها. هي
على الأرجح في المنزل تشاهد نفس الشيء الذي كنت أشاهده على التلفزيون. لكن ربّما
لم تكن تفعل. ربّما هي في الخارج. لم لا تكون في الخارج؟ على أيّ حال، لا أريد
التحدّث معها، آمل أنّها على ما يرام. لكن إذا ما كان ينتابها ضرر ما فلا أريد أن
أعرفه. ليس الآن.
لا أريد التحدّث معها الليلة على أيّ حال.
بعد الإفطار، نأخذ جي بي وأنا القهوة إلى
الشرفة، حيث نخطّط لانتظار زوجته. السماء صافية، لكنّها باردة بما فيه الكفاية لنرتدي
سترتينا ومعطفينا.
يقول جي بي: "سألتني إذا ما كان عليها
أن تحضر الأطفال. أخبرتها أنّها عليها أن تبقي الأطفال في المنزل. تخيّل؟ يا إلهي.
لا أريد أن يكون أطفالي هنا".
نستخدم دلو الفحم كمنفضة سجائر. ننظر عبر
الوادي حيث كان جاك لندن يعيش. نشرب المزيد من القهوة حتّى تنعطف هذه السيارة من
الشارع الرئيسي وتسير إلى الموقف.
يقول جي بي: "هذه هي". يضع فنجانه
بجانب كرسيّه. ينهض وينزل الدرجات باتّجاه الموقف.
أشاهد هذه المرأة وهي توقف السيّارة وتضبط
الفرامل. أشاهد جي بي يفتح باب السيّارة. أشاهدها وهي تخرج، ثم أشاهدهما وهما
يتعانقان. يحتضنان بعضهما البعض.
أشيح النّظر. ثم أعاود المشاهدة. يأخذ جي بي
بذراع المرأة ويصعد بها الدرجات. زحفت هذه المرأة في المداخن. كسرت هذه المرأة في
مرّة من المرّات أنف رجل. لديها طفلان، وتواجه الكثير من المتاعب، لكنّها تحبّ هذا
الرجل الذي يأخذ بذراعها. أنهض من الكرسي.
يقول جي بي لزوجته: "هذا هو
صديقي". "مرحباً، أنا روكسي".
تصافح روكسي يدي. روكسي امرأة طويلة وجميلة
المظهر ترتدي قبّعة صوفيّة زرقاء. ترتدي معطفاً، وسترة بيضاء ثقيلة، وبنطال داكن.
أذكر ما أخبرني به جي بي عن العشيق وقاطع الأسلاك وكل هذا وأسترق نظرة إلى يديها.
لا أرى أيّ خاتم زواج. ذلك أصبح قطعاً في مكان ما. يديها عريضة ومفاصل أصابعها كبيرة.
هذه امرأة تستطيع أن تضرب بقبضتها إذا اضطّرت لذلك.
أقول: "سمعت عنّك. أخبرني جي بي كيف
تعارفتما".
"ذكر جي بي شيئاً عن مدخنة".
تقول: "مدخنة، نعم". تشيح بنظرها
عن وجهي، ثم تعود. تومئ. متلهّفة للبقاء بمفردها مع جي بي، وهذا ما يمكنني تفهّمه.
تقول: "ثمّة كثير ممّ لم يخبرك عنه على الأرجح. أراهن أنّه لم يخبرك بكل
شيء"، وتضحك. ثم- غير قادرة على الانتظار- تضع ذراعها حول خصر جي بي وتقبّله
على الخدّ. يبدآن بالتحرّك نحو الباب. تقول من وراء كتفها: "سعيدة بلقائك.
ألم يقل لك أنّه أفضل من يقوم بعمله في هذا المجال؟". تدع يدها تنزلق من خصر
جي بي إلى وركه.
يقول جي بي: "تعالي يا روكسي"
ويده على مقبض الباب.
أقول: "أخبرني بأن تعلّم كل ما يعرفه
منكِ".
تقول: "حسناً، هذا صحيح بالتأكيد".
وتضحك مرّة أخرى. لكنّها كما لو كانت تفكّر في شيء آخر. يدير جي بي المقبض. تضع
روكسي يدها على يده. "هل يمكننا الذهاب إلى المدينة لتناول الغداء يا جو؟ هل
أستطيع اصطحابك إلى مكان ما للغداء؟".
يتنحنح جي بي. يقول: "لم يمرّ أسبوع
بعد". يرفع يده عن المقبض ويضع أصابعه على ذقنه. يقول: "أعتقد أنّهم
يفضّلون ألّا نغادر، أتعلمين، يفضّلون ألّا أغادر المكان حتّى بعض الوقت. نستطيع
أن تناول القهوة في الداخل".
تقول: "معلش". تنظر إليّ مرّى
أخرى: "أنا سعيدة لأنّه أصبح لجو صديق هنا". تقول مرّة أخرى:
"سعيدة بلقائك".
يبدآن بالدخول. أعلم أنّه من الحماقة القيام
به، لكنّني أفعل ذلك على أيّ حال. أقول: "روكسي". ويقفان لدى المدخل
وينظران إليّ. أقول: "أحتاج إلى بعض الحظ الجيّد. لا أمزح. يمكنني الاستفادة
من قبلة".
ينظر جي بي إلى الأرض. لا يزال يمسك بالمقبض
على الرّغم من أن الباب مفتوح. يدير المقبض ذهاباً وإياباً. إنّه محرج أيضاً.
لكنّني أستمر في النّظر إليها. لا تعرف روكسي أن تتصرّف. تبتسم ابتسامة عريضة.
تقول: "لم أعد أنظّف المداخن منذ سنوات. ألم يخبرك جو بذلك؟ أحكيلك؟ سأقبّلك
بالتأكيد".
"بالطبع، من أجل الحظ الجيّد".
تتحرّك نحوي، تمسك بي من كتفيّ- وأنا رجل
ضخم- وتزرع تلك القبلة على شفتي. تقول: "كيف كان ذلك؟".
أقول: "كان ذلك جيّداً".
تقول: "هذه خرافة". لا تزال تمسك
بي من كتفيّ. لا تزال تنظر في عينيّ. تقول: "حظّاً سعيداً"، ثم تتركني.
يقول جي بي: "أراك لاحقاً يا
صاحبي". يفتح الباب على مصراعيه، ويدخلان معاً.
أجلس على الدرجات الأماميّة وأشعل سيجارة.
أشاهد ما تفعله يداي، ثم أطفئ عود الثقاب. تنتابني حالة من الرعاش. بدأ الرعاش منذ
صباح اليوم. هذا الصباح رغبت أن أشرب شيئاً. أمرٌ محبط، ولم أقل شيئاً من ذلك لجي بي.
أحاول أن أفكّر في شيء آخر وللمرّة الأولى أنجح بذلك.
أفكّر في منظّفي المداخن- كل تلك الأمور
التي سمعتها من جي بي- عندما بدأت، لسببٍ ما، أفكّر في المنزل الذي عشت زوجتي وأنا فيه بعد زواجنا مباشرةً. لم يكن ذلك المنزل يحتوي على مدخنة- بالطبع لا- لذلك لا أعرف
ما الذي يدفع بي لتذكّره الآن. لكنّني أتذكّر المنزل وعندما لم يمرّ عدّة أسابيع
على انتقالنا حتّى سمعت ضجيجاً في الخارج ذات صباح واستيقظت. كان صباح يوم الأحد
وفي وقت مبكر وكانت غرفة النوم لا تزال مظلمة. لكن كان ثمّة ضوء شاحب يأتي من شبّاك
غرفة النوم. أنصتّ إلى الصوت. كان بإمكاني سماع شيء ينكشط على جانب المنزل. قفزت
من السرير وذهبت إلى الشبّاك.
تقول زوجتي: "يا إلهي" وهي تجلس
في السرير وتنفض شعرها بعيداً عن وجهها. ثم تبدأ بالضحك وتقول: "إنّه مستر
فينتوريني".
تقول: "إنه مالك المنزل. نسيت أن
أخبرك. قال بأنّه قادم لطلاء المنزل اليوم. مبكّراً. قبل أن يصبح الجو حاراً
جدّاً. نسيت كل الموضوع"، وهي تضحك. "تعال إلى السرير، حبّي، إنّه
المالك فحسب".
أقول: "لحظة".
أزيح الستارة عن النافذة. يقف هذا العجوز الذي
يرتدي أوفرأول أبيض إلى جانب سلّمه. بدأت الشمس في البزوغ فوق الجبال. ننظر العجوز
وأنا إلى بعضنا البعض. إنّه المالك بالتأكيد- هذا العجوز الذي يرتدي الأوفرأول.
لكن الأوفرأول كبيرة للغاية على حجمه. يحتاج للحلاقة أيضاً. وهو يرتدي قبّعة
البيسبول لتغطية رأسه الأصلع. أفكّر إذا لم أشاهد في حياتي مثل هذا الرفيق العجوز
الغريب فإنّني، والله، لم أرَ شيئاً يشبهه. وفي تلك اللحظة، تنتابني موجة من
السعادة الآتية من فكرة أنّني لست في مكانه- أنّني أنا أنا، وأنّني في غرفة النوم
هذه مع زوجته. يشير بإبهامه نحو الشمس. يتظاهر بمسح جبهته. وهو يحاول إخباري أنّه
لا يملك الكثير من الوقت. تقتحم ابتسامة عريضة وجهه الأخرق. عندها أدرك أنّني
عارٍ. أنظر إلى نفسي. أنظر إليه مرّة أخرى وأهز كتفيّ. أنا أبتسم. ما الذي كان
يتوقّعه؟
تضحك زوجتي وتقول: "يا الله، ارجع إلى
هذا السرير. الآن. في هذه اللحظة. تعال إلى السرير".
أترك الستارة من يدي. لكنّني أبقى واقفاً لدى
الشبّاك. أستطيع رؤية مالك المنزل وهو يومئ لنفسه كما لو أنّه يقول: "يا
الله، يا ابني، ارجع إلى السرير، أفهم ذلك". كما لو أنّه سمع زوجتي تناديني. يسحب
مقدّمة قبّعته. ثم يبدأ في عمله. يلتقط دلوه. ويبدأ بتسلّق السلّم.
أتّكئ على الدرجة من خلفي الآن وأضع ساقاً على
ساق. ربّما أحاول الاتّصال بزوجتي في وقت لاحق من هذا العصر. ثم أتّصل لمعرفة ما يحدث
مع عشيقتي. لكنّني لا أريد أن يردّ عليّ ابنها الثرثار. إذا ما اتّصلت، آمل في أنه
سيكون في الخارج يفعل ما يفعله عندما لا يكون في المنزل.
أحاول أن أتذكّر إذا ما قرأت أي كتاب لجاك
لندن. لا أستطيع التذكّر. لكن كانت هناك قصّة قرأتها له في المدرسة الثانوية. كان
اسمها "في أن تشعل ناراً". وهي عن هذا الرجل من يوكون الذي يتجمّد من
البرد. تخيّل- سيتجمّد حتّى الموت إذا لم يتمكّن من إشعال نار. وبالنار يمكنه أن
يجفّف جواربه وملابسه ويدفئ نفسه. يشعل ناراً لكن يحدث شيء ما للنار. يهبط عليها
غصن ممتلئ بالثلج. تنطفئ. وفي الوقت نفسه، تنخفض درجة الحرارة. ويقترب الليل.
أخرج بعض الفكّة من جيبي. سأحاول مع زوجتي
أوّلاً. إذا أجابت، سأتمنّى لها سنة جديدة سعيدة. هذا كل شيء. لن أذكر شيئاً عن
خلافاتنا. لن أرفع صوتي. ولا حتّى لو بدأتْ بالحديث عن المشاكل. ستسألني من أين
أتّصل، وسأخبرها. لن أقول أي شيء حول قرارات السنة الجديدة. لا يمكن المزاح عن
هكذا أمور. بعد أن أتحدّث معها، سأتّصل بعشيقتي. ربّما أتّصل بها أوّلاً. آمل ألّا
يجيب ابنها على الهاتف. "مرحبا حبّي".
سأقول عندما تجيب: "هذا أنا".