تذكّرت الآن. إنه ذلك المشهد الذي لطالما غذّاني. كنت قد نسيته تماماً حتى عثر عليّ في التطوّر الأبشع للمهرجانات الاجتماعيّة: الفيسبوك. كنّا نتحدّث عن حتميّة هجر العالم والعمل في تنظيف الحمّامات. قلتِ أننا نشبه بعضنا: "أنت متوحّد، مثلي. لكنك تستطيع مجاراة الناس حينما تضطّر إلى ذلك". ثم قلتِ شيئاً عن الحاجة للتخفّف من العالم المبتذل، والحاجة لتنظيف الحمّامات.
كنت قد بدأت ذلك منذ زمن: تركت المنزل برمّته للقطط، وانهزمت إلى المكان الذي أستطيع فيه الانقطاع نهائيّاً عن صورتي التي تطورّت على شكل علاقات اجتماعيّة، ومقهى روتينيّ، وعدد أدراج يفصلني عن عتبة المنزل، واسم ألتفت دائماً إلى من دعاني به.
أكثر ما يثير ذعري هذه الأيام منظر أطرافي وهي تتحرّك بينما أنظر إليها من الأعلى. لا أستطيع تفسير هذا الذعر، لكنني مضطّر للتعامل معه طالما بقيت هذه الأطراف تحت سيطرتي.
في مرة كنتِ بها مخمورة ومخدّرة وشبه مغيّبة، دخلنا مرحلة هلوسة تنافسنا فيها بالمخيّلة. كانت هلوساتي نصف واعية، إلا أن هلوساتك جاءت مباشرة من اللاوعي. ليلتها كنت تهلوسين بأطرافك أيضاً. وقلت شيئاً عن تفكيكها على المجلى: قطعة قطعة.
أفكّر بتلك الليلة وأنا أسترجع ذلك المشهد من فيلم Synecdoche New York. حين يقرّر المخرج المحتضِر، والذي يقوم بإنتاج مسرحيّة حول حياته، أن يلعب دور خادمة زوجته السابقة. وفي كل ليلة، يذهب إلى منزلها لعدة ساعات: ينظّف، وينقطع عن اسمه وهويّته وحياته التي تركته لتشبه أحداً آخر.
كان "كايدن"- الشخصيّة في الفيلم، مكتئباً طيلة المشاهد. ليس بسبب احتضاره، بل ذلك الاكتئاب الذي ينبع من القلق بأنه يجب أن ينجز عملاً مهمّاً قبل أن يموت. كان احتضاراً جيداً بالمقارنة مع الاحتضارات الغبيّة التي نمارسها نحن من دون وعي.
يعتقد هايدغر أن الوجود المبتذل يتحقّق عندما يجد الشخص "القلِق" نفسه محاطاً بمجموعة من الأشخاص الذين لا يريدون العيش مع هذا القلق. حينئذٍ، حسبما يقول، ينغمس الفرد في هذا الوجود الزائف من خلال العالم بحد ذاته، ومن خلال الوجود الجمعي.
أحياناً، تتهيّأ لي سينوغرافيا طوباويّة: أشعة تصدر عن شمس غير موجودة لكنني أشعر بها، مزيداً من الشجر الذي لا أتبيّن ألوانه أو نوعه، علبة أخرج منها على هذا المشهد، ومقاعد حجريّة عليها سكاكين ومفاتيح معلبات وولّاعات، والقدرة على ألّا أرى جسدي يتحرّك.
قبل عدة أيام حلمت بذلك كله. عدا أن المقاعد الحجريّة تحولّت إلى مقعد خشبي طويل نجلس عليه. كنتِ في قمة انفعالك، لكنني لم أشعر بالحاجة الملحّة لمجاراتك على نفس المستوى. تكلمنا كثيراً. بكيتِ كثيراً وبقيتُ محافظاً على ابتسامتي.
كنت تجلسين على طرف الكرسي وتستديرين باتجاهي، لكنني لم أكن أنظر إليكِ، كنتُ أنظر أمامي: إلى صورتك وهي تظهر وتخبو بين أشعة الشمس التي توهّمنا أنها موجودة.
كنتُ أنظر إلى حيث كنت ترتدين رداءً موريتانيّاً. حافية، هادئة، وقادرة على الاستغناء عن الوجود بمجرّد أن يتحقّق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق