الأربعاء، 15 أكتوبر 2014

هجرة لا تنتهي






1

منذ أن شاهدت مونودراما "طه" لعامر حليل في اختتام مهرجان حكايا وأنا أقاوم رغبةً شديدة في التورّط بمقارنة طه محمد علي بمحمود درويش. فكّرت أن أدوات المقارنة جاهزة: كلا الشاعرين جاءا من نفس البيئة والمكان، لكن طه بقي فيهما مجازاً وعملانيّاً، ودرويش طردهما وبقي يطردهما حتّى أصبح مكاناً بذاته. المقارنة جاهزة إلى الدرجة التي يمكننا بها تصنيف الناس "العاديين" على أساسها بإيحاء من دوستويفسكي في رواية "الأبله" وبتصرّف منها: هناك فئتان من الناس العاديين: الأفراد المحدودين، والأكثر ذكاءً. الفئة الأولى آمنين بمجرّد أن شعروا بأنّهم قاموا بعمل حسن واحد يرضون بالقليل، وحتى لو أبدوا رأياً ظنّوا أنّه فكّروا فيه، بينما على الأغلب ربّما قرؤوه إمّا أن يشعروا بأنّه فعلاً رأيهم المستقل، أو بأنّهم فعلاً يمتلكون عاطفة طيّبة فيطمئنون. أما الفئة الثانية فأشخاص يعلمون أنّهم أذكياء لكن الشك يأكل نفوسهم مثل "دودة تظل تتآكلهم من الداخل، لذلك فهم أشقى بكثير من الفئة الأولى". وإن عملوا عملاً حسناً لا يطمئنون، بل "يغضبون من أنّهم أضاعوا حياتهم من دون الوصول لشيء"، ويظلّون يبحثون عن هذا الشيء طيلة حياتهم.
على هذا الأساس أفكّر بأن طه محمد علي هو نقيض درويش في كل شيء تقريباً: درويش امتهن السياسة وكتب خطابات أبو عمّار والزيتونات، وطه افتتح محل أنتيكات في مدينته صفورية. درويش كان يورّط كل ما حوله في غربته حتى يمكن أن نقول بأنّه كلما تعوّد على غربة اخترع غيرها، بينما تورّط طه في غربة واحدة طويلة لم يكن صلبها فلسطين، بل من أحب: أميرة. درويش حاضر بأناقته ووسامته ونزقه، وطه مخفي بريفيّته الظاهرة على وجهه غير الأليف وخجله من نفسه وعلى نفسه. درويش هو فلسطين التي حنّطناها في وشم لحنظلة على المؤخّرة، وطه هو فلسطين التي تبيع أنتيكاتها في بلدتها القديمة لأهلها.


2

يمكن، لذلك، مباشرة ربط شخصيّة طه محمد علي بأداء عامر حليل في العرض. وابتداءً بما قاله وائل قدّور: "العرض نموذج مثالي للتوازن الانفعالي بالتعاطي مع قضية كتير عاطفية (القضية الفلسطينية) فكان الأثر النهائي لرسالة العرض أتقل بألف ضعف مما لو كان العرض مبني فقط على مجرد استثارة الشفقة". لكنّني أعتقد أن حمولة قصة حياة طه الشخصيّة أنقذت أداء عامر الذي رأيته من قبل في مسرحيّة خطابيّة تشبه درويش، فلا تحتمل حياة الشاعر مجازات وتأويلات إلا ما كتبه في قصائده، فالشعر الـ"ذاتي بدرجة يتعذّر إصلاحها"، يقول عن الفلسطينيين ما لا يستطيع أن يقوله شاعر أو الصديقة العزيزة ريما بنّا عن فلسطين. وبالتالي: ظهرت ملامح القرية، وتفاصيل الهجرة والنكبة كصدى صوت راديو أبقاه أصحابه مفتوحاً لأنّهم سيرجعون.


3

أشاهد أداء عامر حليل لقصيدة لطه في الفيديو المرفق منذ عدة أيام وبشكل هوسيّ يكاد أن يخرّب البلادة التي نشعر بها جميعاً الآن. نحن ننظر إلى البناية ونقول: تهدّمت. ننظر إلى شبّان سمر يركبّون صفارات إنذار في عمّان ونقول: وي وي وي. ننظر إلى هواتفنا ونقول: ثمّة من يتّصل بنا. سحبنا قسراً إلى حيث القصيدة تعني النخبة، وحيث البلاغة اللغويّة تفسّر نصّاً مقدّساً، وحيث الحزن وتغيّر الفصول صنعة ثقافيّة، والتضامن مع الفقراء طقس ماركسي، وحيث أكتب هذا كله على الفيسبوك وبيني وبين السفارة الإسرائيليّة في الرابية 6 كيلو و500 متر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق