الاثنين، 6 أغسطس 2018

حديث المرسم (إلى ميكيل بارثيلو)*

ترجمة لنص Studio Talk من كتاب The Shape of a Pocket لجون بيرجر


ثمّة قصاصات من الورق متكرمشة وألقيت على أرض المرسم بين أقمشة اللوحات غير الممدودة حيث تقف. ثمّة دلاء من الأصبغة- بعضها ممزوج بالطين، وطنجرة غريبة، وقضبان فحم مكسورة، وخرق، ورسومات مهملة، وكوبان فارغان. كتب على قصاصات الورق كلمتان: وجه ومكان.

كان المرسم مصنعاً للدراجّات الهوائيّة، أليس كذلك؟ تعمل هنا بحذاء وملابس الرّسم. كان القميص والبنطال مقلّمان في الأصل. والآن، أصبح يعلوها قشرة من الأصبغة مثل الحذاء. لذلك، تخيّلتك على أنّك شخصان: واحد على وشك الانطلاق بدرّاجته، والآخر سجين.

على كل حال، الأمر الوحيد المهم بعد أن ينتهي اليوم هو ما استلقى على الأرض مرسوماً أو اتّكأ على الجدران بانتظار أن تتم رؤيته في اليوم التالي. المهم هو ما لا يكشفه الضوء المتغيّر أبداً- الأمر الذي كلّما اقترب المرء منه أكثر يخشى أنّه فقده على الأرجح.

وجه. أينما بحث الرسّام، فإنّه يبحث عن وجهه. فكل البحث والفقدان والعثور مرة أخرى متعلّق به، أليس كذلك؟ وماذا يعني "وجهه"؟ إنّه يبحث عن نظرته المرتدّة، ويبحث عن تعبيرها- علامة ضعيفة على حياتها الداخليّة. وهذا صحيح، سواءً كان يرسم كرزاً، أو عجل درّاجة هوائيّة، أو مثلثاً أزرق، أو جثّة، أو نهراً، أو شجيرةً، أو تلّاً، أو انعكاسه في المرآة.

لا تجد الصور أو الفيديوهات أو الأفلام الوجه أبداً، لكنّها تجد ذكريات عن المظاهر والشّبه بأحسن الأحوال. على النّقيض من ذلك، الوجه دائماً جديد: شيء ما لم تتم رؤيته أبداً من قبل، لكنّه، في نفس الوقت مألوف. (مألوف لأنّنا عندما ننام نحلم ربّما نحلم بمواجهة العالم كلّه الذي ألقينا به لدى مولدنا بعماء).

لا نرى وجهاً إلّا إذا نظر إلينا (مثل عبّاد شمس فينسنت). المقطع الجانبي ليس وجهاً أبداً، وبطريقة ما، تحيل الكاميرات معظم الوجوه إلى مقاطع جانبيّة.


عندما نتوقّف أمام أي لوحة غير مكتملة مثل من يقف أمام حيوانٍ ينظر إلينا. نعم، هذا صحيح حتّى بالنسبة للوحة بييتا مع ملاك لأنتونيلو دا ميسينا. اللون الكامن على أو المرسوم بفرشاة على أو يلطّخ السّطح هو الحيوان، و"مظهره" هو الوجه. لنفكّر في وجه لوحة فيرمير "منظر لديلفت". يختبئ الحيوان لاحقاً، لكنّه متواجد دائماً عندما يستوقفنا لأوّل مرّة ولا يسمح لنا بالاستمرار في طريقنا.

قصّة قديمة تعود إلى عصر الكهوف.

المكان. Lieu ]بالفرنسيّة[، Ort ]بالألمانيّة[، mestopolojenie ]بالروسيّة[. تعني الكلمة الروسيّة الأخيرة أيضاً حالة، وتستحق أن نتذكّرها.

المكان أكثر من مجرّد منطقة، أو مكان يحيط بشيء. المكان امتداد لحضور أو نتائج فعل. المكان نقيض الفضاء الفارغ. المكان حيث حدثت فيه واقعة أو تحدث.

يحاول الرسّام باستمرار أن يكتشف، وأن يتعثّر، بالمكان الذي سيحتوي ويحيط فعل الرّسم الحاضر. مثاليّاً، يجب أن تكون هناك عدّة أماكن كما توجد هناك لوحات. المشكلة أنّ اللوحة عادة ما تفشل في أن تكون مكاناً. وعندما تفشل في أن تكون مكاناً، تبقى اللوحة تمثيلاً أو زينةً- أثاثاً.

كيف تصبح اللوحة مكاناً؟ ليس من الجيّد أن يبحث الرّسام عن مكان في الطبيعة، إذ لم يجده فيرمير في ديلفت. ولا أن يبحث عنه في الفن- لأن المرجعيّات لا تصنع مكاناً- على الرّغم من اعتقاد ما بعد حداثيّون معينين. عندما يتم إيجاد مكان فإنّه يتواجد على الحدود ما بين الطبيعة والفن. الأمر أشبه بتجويف في الرمل مسحت حدوده. يبدأ الأمر بالممارسة، بشيء يمكن عمله باليدين، ثم تسعى اليدان للحصول على قبول العين، حتى يتورّط الجسد كلّه بالتجويف. هنا توجد فرصة فقط لأن تتحوّل إلى مكان. فرصة ضئيلة.
ثمّة مثالان: يبدأ التجويف في لوحة أوليبميا لمانيه، أو المكان (الذي ليس له علاقة بالمخدع الذي تستلقي فيه المرأة) في طيّات غطاء السرير لدى قدمها اليسرى.

يبدأ المكان في رسم لك لحبّة مانغا وسكّين- باللون الأسود والمقياس الحقيقي تقريباً على ورقة صفراء غمرها الغبار- عندما وضعتَ حبّة الفاكهة على منحنى نصل السكّين. في تلك اللحظة، أصبحت الورقة مكانها الخاص.


***

توارى واقع اللوحة كمكان وراء مفهوم النهضة حول المنظور، مع نزعته تجاه وجهة نظر خارجيّة، بالنسبة للكثر من النّاس على مدار عدّة قرون. فبدلاً من ذلك، قيل أن اللوحة مثّلت "نظرة" على المكان. لكنّها كانت نظريّة فقط، إذ عرف الرسّامون الحقيقة من الناحية العمليّة. إذ قلب معلّم المنظور العظيم المتأخر تينتوريتو[i] هذه النظريّة على رأسها مراراً وتكراراً.

في "حمل جسد القدّيس مرقس"[ii]، ليس للوحة كمكان علاقة بمنظور السّاحة الضخمة وأقواسها وحجارة الرصيف الرخاميّة، بل كومة جذوع الخشب العشوائيّ في منتصف عمق اللوحة، والتي سيحرق بها القدّيس. ينبع كل شيء على قماش اللوحة من ضربات الفرشاة على الأغصان الخشبيّة الملوّنة: الشخصيّات الفارّة، شعر الجمل الذي يشبه المعطف، البرق في السماء، أطراف القدّيس القصيرة. أو، بمعنى آخر، نُسِجَت شباك اللوحة الهائلة من كومة الخشب.



وبما أن ياكوبو روبوستي[iii] يلاحقنا كلانا باسم تينتوريتو، هذا مثال آخر. لم تبدأ اللوحة كمكان في لوحته "سوزانا والشيخان" الموجودة في لندن بجسدها الذي لا يضاهى، أو بمرآتها البارعة، أو بالماء الذي يصل إلى ركبتها. كلّا، اللوحة كمكان تبدأ بسياج الأزهار المصطنع مقابلها، والذي يختبئ وراءه الشيخان. عندما بدأ ياكوبو بلمس سياج الأزهار بكامل ريشته، كان يرتّب المكان الذي كان على كل شيء آخر أن يأتي إليه. استولى السياج على المشهد كضيف وسيّد.



يعلم الرّسام، بالعمل وحده، أن عليه السّكن إلى لوحته واللجوء إليها، أكثر من مجرّد القدرة على التحكّم بها من الخارج. الرسّام يعمل من خلال اللمس في الظلمة.

يتغيّر الضوء في المرسم عندما يقترب اليوم من المساء، مغيّرة أقمشة الرّسم أكثر من أي شيء يمكن رؤيته. (أكثر من ورقة مكعبلة بالكلمتين). ما الذي تغيّر بها؟ من الصعب الجزم. ربّما حرارتها وضغط هواؤها. لكنّها لا تتغيّر تحت الضوء كما تتغيّر اللوحات. يشبه كل تغيير تضاريس مألوفة خارج الباب. مثل الأماكن.

كيف يعمل الرسّام في الظلمة؟ عليه أن يخضع. عليه عادةً أن يدور في دوائر بدلاً من التقدّم. داعٍ إلى تعاون من مكان آخر. (في حالتك من الرياح، والنّمل الأبيض، ورمال الصّحراء). يبني ملجأً ليغزوا مكتشفاً كذبة الأرض. وكل هذا يفعله بالأصباغ وضربات الفرشاة والخرق والسّكين وأصابعه. هذه عمليّة لمسيّة للغاية. ومع ذلك، ما يأمل بلسمه ليس ملموساً بشكل طبيعي. هذا هو اللغز الحقيقي الوحيد. هذا هو السبب في أن البعض- مثلك- يصبحون رسّامين.

وإن ظهر الوجه، فيظهر جزء مصبوغ وملطّخ بالألوان: جزءٌ من أشكالٍ مرسومة يتم تصحيحها باستمرار، لكنّه، والأهم، أنّه الصيرورة: ما يأتي باتّجاه ما كان يبحث عنه.

لكن هذه الصيرورة ليست بعد- وهي، في الواقع، لن تكون أبداً ملموسة، كما الثيران على جدران أقمشة اللوحات لم تكن أبداً للأكل.



ما تلمسه اللوحة الحقيقيّة هو غياب- غياب ما لم نكن نعي بوجوده لولا اللوحة. وهذا سيكون خسارتنا.

يكمن بحث الرسّام المستمر في مكان يستقبل الغياب. وإذا ما وجد مكاناً، يرتّبه ويصلّي لوجه الغياب حتّى يظهر.

كما تعرف، يمكن لوجه الغياب أن يكون مؤخّرة بغل. ليست هناك هرميّة، حمداً لله.

تسأل: هل ثمّة ما تمّ حفظه؟

نعم، هذه المرّة.

جزءً ممّا يبدأ مراراً وتكراراً يا ميكيل.

*ميكيل بارثيلو (1957) فنّان إسباني عرف بطريقة رسمه الحادّة وضربات فرشاته العميقة، وجداريّاته الضخمة بوسائط فنيّة متعدّدة، وسلسلة "الكوميديا الإلهيّة" بالألوان المائيّة التي عرضت في اللوفر: http://editions.louvre.fr/en/titles/exhibition-catalogs/sites-countries/miquel-barcelola-divine-comedie.html





[i] تينتوريتو (1518- 1549) واحد من أعلام عصر النهضة في إيطاليا وواحد ممّن ساهموا فيها. اشتهر بطاقة رسمه الهائلة وسرعته وجرأته بالرّسم.
[ii] لوحة من سلسلة لوحات أنجزها تينتوريتو حول القديس مرقس في غرفة الاجتماعات في مبنى Scoula Grande di San Marco في فينيسيا.
[iii] اسم آخر عرف به تينتوريتو.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق