وأخيراً، أجلس في تيرتل غرين محاولاً أن أتجنّب الكتابة بالفصحى من دون جدوى. أفكّر بالموضوع من زاوية أخرى: أحبّ الفصحى، لكنّني لا أكلّم نفسي بها.
منذ أن سافرت "نون" قبل أكثر من عام، اعتدتُّ على أن أكلم نفسي في الحمّام تحديداً. أحياناً أخاطب قططي الخمسة بأبويّة قميئة: "يللا ناكل"، "ليش موسخ حالك؟"، "انت شو طلعت بالآخر؟ شب ولا بنت؟".
أذهب إلى الحمّام بداعٍ أو من غير داعٍ. أحياناً أملّ من العمل على اللابتوب، وآخذ كتاباً إلى الحمّام محاولاً أن أُخرِج من دون جدوى. في النهاية، أضع الكتاب فوق ما كدّسته من قبل، متجاوزاً "الأبواب الكثيرة" لأعود إلى الصالون.
يمكنني أن أقضي في الحمّام أكثر من نصف ساعة: أنظّف، وأضع سائل التنظيف برائحة الليمون، أرجئ تصليح النيغرة إلى وقت آخر، وأراقب تدفّق المياه يجري في البيديه بدلاً من أن يصبّ في النيغرة نفسها.
أقضي وقتاً طويلاً أتذكّر فيه مقطعاً من قصيدة لأسامة الدناصوري: "لماذا تشعر بالوحدة.. وبإمكانك تمضية الليلة بالحمام، تصفق قبيل اندفاق البول من مثانتك، ثم تنحني متأملا الرغوة الكثيفة، لتفكر في أول كأس شربته من البيرة، وأول يد عمياء أطبقت على قضيبك".
وهناك، أقول لنفسي جملاً صغيرة لا تتجاوز كلمتان أو ثلاث. جملاً صغيرة تبقى هناك وتأخذ شكل الحمّام. جملٌ أردّدها بسرعة ولذّة مصحوبة بهزّ للرأس وحركات عصابيّة بيديّ وأرجلي. ولأن كلّ ما يحدث في الحمّام يبقى فيه، أشعر بأنني أعتني به وبنظافته فقط لهذا السبب.
أحياناً أشطح بالتفكير بعد أن أنتهي من هذه النوبات اللذيذة، وأنا أردّد لنفسي "أنا آسف، أنا آسف"، أو "ما بدّي أنام". ولهاتين الجملتين جذورهما. أحياناً أشطح في مكان سورياليّ بتأثير ممّا أقرأه أو أسمعه. فعلاً. لأن ما يشكّل خلفية حياتي اليوميّة جمل معيّنة من قصيدة أو رواية أو حتى خبر. وفي الطرف الآخر، يبقى توم وايتس بتأثيره المدمّر أذكى وأعنف وأرذل من يمكنه أن يستبيح تلك الحديقة السريّة المظلمة.
اليوم مثلاً، طلبتُ من آخَري التحدّث مع ذاتي. قلت له: "احكي لـ أ. إنه بدّي أحكي مع حالي". في الواقع كنّا ثلاثة، مثلنا مثل ج. م. كويتزي في روايته "زمن الصيف": كويتزي رجل ثالث، والشخصان الآخران هما كويتزي الآخر، وكويتزي الكاتب. انطباع كويتزي عن نفسه أنه بلا حضور جنسيّ. انطباع الآخر عن كويتزي أنه "طائر غير قادر على الطيران". وانطباع الكاتب عن كويتزي أنه يكتب عن نفسه بصيغة الرجل الثالث.
لطالما جنّدتُ مؤشرّاتي للبحث عن شخصيات كويتزي والمعلّم صموئيل بيكيت في داخلي طويلاً من دون جدوى؛ تلك الشخصيّات المهملة القذرة المسجونة داخل يأس عبثيّ. ولأنني أمقت الروايات الجمعيّة التي تتحدّث عن أفكار عظمى أو حتى تلك التي يزيد عدد شخصياتها عن الخمسة، أفزع عند قراءتها كأن أحداً ألقى بِحارة في منزلي. ولأنني أمقتها، فتّشتُ عن الشحّاذين والسارقين والعجائز، المصابين بدون أمل، المرضى والمشرّدين، متسّولي الوحدة وبائعيها.
ووجدتّ هذه الشخصية في الحمّام؛ حيث أستطيع أن أنظّف، وأشطح، وأتبوّل، وأفكّر في الدناصوري وكويتزي وبيكيت ووايتس. لكن كل ذلك كان يتحوّل مع الوقت إلى مزار لكائنات محنّطة. وكان، بمرور الوقت، يشبه علاقتي بأصدقائي.
علاقتي بأصدقائي تشبه علاقتي بالحمّام. المزار الذي ألقي فيه بتعبي وعصبيّتي لا يرتدّ عليّ إلا بابتسامات ناشفة ومحنّطة. يحتفظ بشخصيتي الطارئة، يدلّلها ويحنو عليها، ويبقي خسائري الصغيرة ويراكمها. لذا، تمنّيت في الفترة الأخيرة أن يناكفني أحد، أن يستجب لعصبيّتي بعصبيّة. أن يحشرني في الزاوية ويشتم أيدولوجيّاتي ومبادئي، وينكر عليّ كل ما حقّقته، وينشر أمامي كلّ ما لم أحقّقه.
لم يحصل ذلك إلا مرة واحدة. صديقة صنّفتني على أنّني مجرّد "هيبّي" آخر من "الهيبّيز" الذين كانوا يتظاهرون في ميدان التحرير لأنهم لم يفكّروا في فلسطين أثناء الثورة المصريّة. وقتها حملت حقيبتي، وببطء تكلّمت وأنا أضع الحزام على كتفيّ: "مش ذنبي إنّي ما عندي انتماء". ثم خرجت من منزلها.
كنتُ ممتنّاً لهذه اللحظة.
وأنا أذكرها الآن في تيرتل غرين، يحاول شاب أن يدخل يده بين فخذيّ صديقته. لا يبدو أن صديقته تمانع، أو حتى معنيّة بنظراتي. كلّ ما أتمناه الآن أن تختفي هذه الرّغبة المزيّفة بتلمّس امرأة في المقهى، وأنّ يدُس صديق على قدمي لمجّرد أن يقول لي : "أنا آسف، أنا آسف".
* كلمة "كيرياليسون" (يا رب ارحمنا) تقال 41 مرّة في الصلوات المسيحيّة للتذكير بتعذيب المسيح: 39 جلدة، وإكليل الشوك الذي غرس في جبينه، والحربة التي طعن بها في قلبه. وكما في العقليّة الشيعيّة، المؤمنون من الطرفين يسعون، عبر طقوسهم، إلى التكفير عن ذنوب العالم الذي افتداه المسيح، أو حارب من أجله الحسين. هم يقولون ببساطة: آسف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق