الأحد، 30 أكتوبر 2011
الثلاثاء، 25 أكتوبر 2011
الموسيقى من جهتيها المفتوحتين
عزيزي محمود ردايدة،
تناقشنا مؤخراً حول الموسيقى، تحديداً حول الشكل الذي يجب أن تكون عليه الموسيقى. كنّا، آنذاك، نجلس في "كانفاس"، حيث كان يعقوب أبو غوش وأحمد بركات وطارق أبو كويك يعزفون بفرقتهم الجديدة لأول مرة. كان من المفترض أنّنا نستمع إلى توليفة الجاز والعود التي لا تصدر من أيّ مكان آخر، بهذا الشكل الطبيعي والعفوي، إلا من عمّان.
لم نكن متلقّي موسيقى، كنا في تلك اللحظة جزءاً من هذه التوليفة. الفرق بين الهمس حين يخفت صوت العود، والصراخ حين يتحمّس أبو كويك على الدرمز كان عنصراً لم ندرك أهميته إلا عندما انتهت الفرقة من العزف، وانضمّ إلينا أبو غوش معترفاً بأنّه يشعر بالكآبة إن لم يعزف لمدة طويلة.
تحدّثنا إذاً عن شكل الموسيقى. وكانت وجهة نظرك بأن أيّ شكل للموسيقى يجب أن يتضمّن هيكلاً واضحاً يمكن غناءه، أو عزفه، على غيتار أكوستيك. كنتَ تتكلّم بثقة من تجربة خلقتَ بها واحدة من أوائل الفرق الأردنيّة المستقلّة: "جدل".
ما أقحمنا بهذا النقاش في البداية هو آراءنا حول فرقتين أردنيتين جديدتين، هما: "آخر زفير" و"المربّع". الأولى باكتمال شكل موسيقاها، والثانية بشكل موسيقاها غير المنتظم. وبالتالي، غير القابل للتبسيط إلى درجة يمكن معها عزف أغنية من أغانيهم على آلة واحدة فقط.
ورغم أننا نبدو نقيضين، إلا أن الفرق بسيط جداً، ويكمن في تفصيل واحد فقط: كيف ننظر إلى الموسيقى. فأنتَ تتعامل معها على أساس أنها طريقة التعبير الوحيدة التي لا تكتمل إلا بها. وأتعامل معها بشكل نفعيّ. إذ كنتُ أنظر إليها، مثل الكثيرين، كمستهلك.
حتى وجدتُّ مؤخراً أنني، كفرد، عنصر في هذا الشكل الموسيقيّ. وبأن موسيقيين مثل جون كايج يعيدون الاعتبار للضوضاء اليوميّ الذي نمارسه. ولأنه استغنى عن الشكل هذا، استطاع أن يجعل من سعال شخص أثناء مقطوعته “4’33” الصامتة تماماً جزءاً من صوت كونيّ أوسع.
إنّنا ننظر إلى الموسيقى من جهتيها المفتوحتين: أنتَ لا تريد أن تخسر وظيفتك كخالق مثاليّ، وأريد أن أشوّش عليك خلقك. تريدها فرديّة تعبّر عن إحساس جمعيّ، وأريد أن أثبّت بوقاً كبيراً على الأرض لأسمع تشويشنا يخرّب على لا مبالاة الكون.
الجمعة، 14 أكتوبر 2011
فسحة مستهدفة بين النعاس والنوم
طيّب. فتنة الوحيدين المهمّشين لن تختفِ قريباً على الأقل. والمازوشيّة الخرائيّة باقية إلى وقت يمكنني فيه، حينئذٍ، تسوّل الوحدة. في البيت، منذ 5 أيام، أراقب العالم وهو يتدروَش حول نفسه. وعلى جدار أبيض في خلفية رأسي مكتوب: "واو، مان، ثمّة كائنات مرحة في الداخل أكثر ممّا في الخارج"*.
لكن كل هذا كذب؛ فلا أزال أشعر بالغضب. كنتُ أحيل هذا الغضب إلى حاجتي للجنس. لكن مؤخراً شطبت هذا السبب لوقوعه. في الواقع كان الأمر لذيذاً وغير متوقعاً. لم أكن أفكّر في الأمر من فرط ما فكّرت فيه وسكنني. إلى أن حدثت الأمور بالصدفة. ولم يلزم الأمر إلا رجل وصبيّة يشعران بالخذلان من العالم، ويسكنان إلى تلك الكائنات المرحة في الداخل.
في ذلك البار المزدحم، اكتشفنا الحاجة لأن نتفرّج على أنفسنا من الخارج. كانت الفودكا تُسقِط الحواجز التالفة بسرعة، وكانت الموسيقى الحيّة خلفيّة مثالية لبؤس العالم كله. هذا البؤس الذي أعوّل عليه دائماً، وليس النشوة.
بسرعة انتقلت يدي إلى جسدها. كان الإيقاع البطيء الذي تلمّستُ فيه أصابع يديها لذيذاً ومملاً. كنّا نعمل ضدّ الوقت والمكان. واللّوب الذي دخلنا فيه كان مهيّئاً، فلم أشعر بالحاجة لبذل أيّ جهد مضاعف حتى أصل إلى حلمتها وهي تنتفض من وراء قطعتي ملابس.
كنّا نعمل ضدّ الوقت والمكان؛ كان الوقت يمرّ بسرعة فتناسيناه كأيّ جرمٍ سماويّ يسبح في مطلقٍ مملّ. وكان المكان مزدحماً فغبنا عنه. كنّا مغيبين إلى حدّ غير منطقيّ. اضطررت بسببه أن أغادر طاولة البار المستطالة إلى الحمّام أكثر من مرة لأكتشف، لدى عودتي إلى جانبها، بأننا فعلاً خارج المكان، وبأننا تجسيدٌ للعالم المعزول والبطيء في لوحة إدوارد هوبر Nighthawks.
وفي الغرفة لاحقاً، كان الكسل فاتح الشبّاك ومش مسكره. والمطر ناعم، ما بيشبه أي مدينة. المدينة الذي قال عنها عبّاس بيضون: "صغيرة لدرجة أننا نستعيد أحجامنا فيها ونسمع خطانا بوضوح عائدةً في نهاية الليل. إننا مرئيون للغاية هنا، لكنّنا قد نكون ضحايا خدعةٍ؛ إذ نجول غالباً طوال النهار بدون أن نخرج من مساحةٍ كالكفّ".
حينئذٍ، كنّا نستهدف الفسحة ما بين النعاس والنوم. كنّا نستهدفُ جسداً ثالثاً وُلِدَ في تلك الغرفة وبقي فيها. جسداً مكتملاً بيدين بطيئتين وشهوةً على شكل قدمين. جسداً غذّيناه بكل ما نسينا أن نشتهي. حتى عندما استيقظنا صباحاً وجدناه مكتملاً. ذهبت لأستحمّ وأتفقّد يدي التي ظننتُ أنني فقدتّها من فرط ما تخدّرت في نومها، لأرجع وأعثر على ابتسامتها تضيء فسحةً ملأها الغبار.
الغبار الآن الذي تركته ينجزُ غرفة نومي. غبار في كل مكان: على رف الكتب بجانب السرير، على الوسادة الثانية، على الغسيل الرطب وفكرة الأجساد الممتلئة.
وكان أن قرأت رواية رشيد الضعيف "فسحة مستهدفة بين النعاس والنوم" دفعة واحدة ونمت. وإذ حلمت بعبّاس بيضون جالساً على كرسي شبه غافٍ متلحفّاً بحرام ثقيل من البرد سألته: بتحب رشيد الضعيف؟، ليرفض الرد ويوقّع لي على كتابه "مرايا فرانكشتاين".
وكان أن استهدفنا تلك الفسحة، فامتَلَأَتْ. وكنّا جميعاً بحاجة إلى ما ينقذنا منها.
* الجملة من حوار بين "بري" أحد شخصيات رواية حسين البرغوثي "الضوء الأزرق" وبين الكاتب.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)