إلى زياد العناني
قبل أكثر من شهرين حبستُ نفسي في المطبخ. لا أذكر ممّ كنتُ منفعلاً فصفقت الباب بقوّة ولم يعد ينفتح. لديّ مشكلة مع الأبواب. أو ربّما أفكّر أنها لا يجب أن تكون بهذه الكثرة. ثمّة شيء في شكلها يدفعني دائماً إلى خلعها أو على الأقل صفقها بقوّة- وهذا ما حصل. حبستُ نفسي مع كل ما تعفّن وكل ما نسيت أن أخلطه بماء. في مشغل البكتيريا هذا- قلت لنفسي، إذا بقيت الليلة سأؤكل وأنا أنظر إلى القمر وهو يلتهم منخل الشبّاك المتسخ. ولكي أدّعي أمام نفسي أنني جرّبت كل الحلول، خلعت المقبض كله من الداخل. أعني الآليّة كلها: اللسان والزرفيل وما يشدّهما إلى جهتي.
في الجهة الأخرى كان المنزل يتّسع ويزداد إضاءةً.
فكّرت في الأبواب التي ستنفتح مباشرة أمامي بنصف دفعة. فكّرت في جسدي وهو يميل إلى الأمام ببطء، ويلمس المقبض، ويحقّق شيئاً ميكانيكيّاً يوميّاً.
هناك حلم مشترك للبشريّة كلها، الحلم الذي يختزل كل الجهد والمعرفة والبذل النفسي. ومعرفة أن هذا الحلم لن يتحقّق يزيد من ضراوة السعي نحوه. الأديان تسميّه الجنة، الطبيعة تسمّيه الانقطاع عن العالم المادّي، لوتريامون يسمّيه الانتحار، كيركيغارد يسمّيه الانغماس في العدم، ويسمّيه وديع سعادة "المناطق النائمة في الدّماغ".
في تلك اللحظة، كان علي أن أبذل جهداً مضاعفاً للوصول إلى تلك المنطقة. كان عملاً استقلت منه مؤخّراً. إذ قررت بأنني لن أبذل أيّ جهد فائض باتجاه أي شيء أو شخص أو عدم.
في كل ليلة، أهيّئ نفسي لهذا الحلم، وأسمّيه النوم. واللحظة التي أنقطع فيها عن التفكير في هذا الحلم أكون داخله. مجرّد ثوانٍ أكون فيها أطفأت اللابتوب، ومددت أرجلي، ومسكت كتاباً، وفكّرت بالانتحار.
في البداية، كنت أفكر في الانتحار على أنه مجرّد نوم طويل. مساحة أعرّض فيها خلاياي إلى النوم، وأتخلّص من التفكير في طريقة جديدة كل مرة. كان الأمر مزعجاً آنذاك، إذ كان علي استثناء طريقة كل ليلة واختيار أخرى. لا أريده مؤلماً بالتأكيد، ولا صاخباً- اتّفقت مع خلاياي التي تشعر بالنعاس على ذلك. ثم طرأت مسألة المكالمة الأخيرة. ومسألة التردّد الأخير لمن أريد أن أهجس باسمه. والثياب التي سأرتديها، والهيئة التي أريد أن أغادر بها. لا أعلم بالفعل إن بدأت أتسلّى بالأمر، أو أنني انغمست فيه أكثر من اللازم. لكن ما أعرفه بالتأكيد أنني كل ليلة أذهب إلى نصف الطريق. وبأنني لا أعتقد أنه عندما سيحدث، سيكون أكثر إيلاماً من نصف الطريق.
هناك حيث تبدأ المشاهد بالتذبذب أمامي حتى أنام: بورتريهات خفيفة وبطيئة تتمشّى على حواف أعصابي التي حاربت من أجل إخمادها.
في العام 2004، قام لبنانيّ اسمه عمر نعيم بكتابة وإخراج فيلم The Final Cut، متحدّياً فيه فرضية ميلان كونديرا عن المشاهد البطيئة. ما قام به الأول أنه اخترع رقاقة لتسجيل حياة الشخص في دماغه. وبذلك يصبح لمحبيه، بعد موته، أرشيف كامل بين أيديهم. أما كونديرا فيعتقد أنه إذا أراد أحد تذكّر ما يستطيع من حياته، فلن يجمع الشريط الذي سيمرّ في ذهنه إلا بضعة ثوانٍ.
لا أعرف كم بقيت على الحافة التي تفصل شبّاك المطبخ عن شبّاك الصالون وأنا أحاول القفز مسافة متران. كنتُ معلّقاً بيد وقدم. اليد والقدم الأخريتان كانتا في منتصف الطريق. لكن مشهداً واحداً كان يتخدّر في ذهني وأنا أنظر إلى السماء المعكوسة بين الغيوم: زياد العناني في غرفة العناية الحثيثة: مستيقظاً بعد غيبوبة فشل الأطباء في إخراجه منها. يده في يدي، ممتنعاً عن الكلام، عيناه مركّزتان إلى حيث أحاول أن أتجنّب التحديق فيهما.
كلانا كنا نعرف أننا قطعنا نصف الطريق.
قبل أكثر من شهرين حبستُ نفسي في المطبخ. لا أذكر ممّ كنتُ منفعلاً فصفقت الباب بقوّة ولم يعد ينفتح. لديّ مشكلة مع الأبواب. أو ربّما أفكّر أنها لا يجب أن تكون بهذه الكثرة. ثمّة شيء في شكلها يدفعني دائماً إلى خلعها أو على الأقل صفقها بقوّة- وهذا ما حصل. حبستُ نفسي مع كل ما تعفّن وكل ما نسيت أن أخلطه بماء. في مشغل البكتيريا هذا- قلت لنفسي، إذا بقيت الليلة سأؤكل وأنا أنظر إلى القمر وهو يلتهم منخل الشبّاك المتسخ. ولكي أدّعي أمام نفسي أنني جرّبت كل الحلول، خلعت المقبض كله من الداخل. أعني الآليّة كلها: اللسان والزرفيل وما يشدّهما إلى جهتي.
في الجهة الأخرى كان المنزل يتّسع ويزداد إضاءةً.
فكّرت في الأبواب التي ستنفتح مباشرة أمامي بنصف دفعة. فكّرت في جسدي وهو يميل إلى الأمام ببطء، ويلمس المقبض، ويحقّق شيئاً ميكانيكيّاً يوميّاً.
هناك حلم مشترك للبشريّة كلها، الحلم الذي يختزل كل الجهد والمعرفة والبذل النفسي. ومعرفة أن هذا الحلم لن يتحقّق يزيد من ضراوة السعي نحوه. الأديان تسميّه الجنة، الطبيعة تسمّيه الانقطاع عن العالم المادّي، لوتريامون يسمّيه الانتحار، كيركيغارد يسمّيه الانغماس في العدم، ويسمّيه وديع سعادة "المناطق النائمة في الدّماغ".
في تلك اللحظة، كان علي أن أبذل جهداً مضاعفاً للوصول إلى تلك المنطقة. كان عملاً استقلت منه مؤخّراً. إذ قررت بأنني لن أبذل أيّ جهد فائض باتجاه أي شيء أو شخص أو عدم.
في كل ليلة، أهيّئ نفسي لهذا الحلم، وأسمّيه النوم. واللحظة التي أنقطع فيها عن التفكير في هذا الحلم أكون داخله. مجرّد ثوانٍ أكون فيها أطفأت اللابتوب، ومددت أرجلي، ومسكت كتاباً، وفكّرت بالانتحار.
في البداية، كنت أفكر في الانتحار على أنه مجرّد نوم طويل. مساحة أعرّض فيها خلاياي إلى النوم، وأتخلّص من التفكير في طريقة جديدة كل مرة. كان الأمر مزعجاً آنذاك، إذ كان علي استثناء طريقة كل ليلة واختيار أخرى. لا أريده مؤلماً بالتأكيد، ولا صاخباً- اتّفقت مع خلاياي التي تشعر بالنعاس على ذلك. ثم طرأت مسألة المكالمة الأخيرة. ومسألة التردّد الأخير لمن أريد أن أهجس باسمه. والثياب التي سأرتديها، والهيئة التي أريد أن أغادر بها. لا أعلم بالفعل إن بدأت أتسلّى بالأمر، أو أنني انغمست فيه أكثر من اللازم. لكن ما أعرفه بالتأكيد أنني كل ليلة أذهب إلى نصف الطريق. وبأنني لا أعتقد أنه عندما سيحدث، سيكون أكثر إيلاماً من نصف الطريق.
هناك حيث تبدأ المشاهد بالتذبذب أمامي حتى أنام: بورتريهات خفيفة وبطيئة تتمشّى على حواف أعصابي التي حاربت من أجل إخمادها.
في العام 2004، قام لبنانيّ اسمه عمر نعيم بكتابة وإخراج فيلم The Final Cut، متحدّياً فيه فرضية ميلان كونديرا عن المشاهد البطيئة. ما قام به الأول أنه اخترع رقاقة لتسجيل حياة الشخص في دماغه. وبذلك يصبح لمحبيه، بعد موته، أرشيف كامل بين أيديهم. أما كونديرا فيعتقد أنه إذا أراد أحد تذكّر ما يستطيع من حياته، فلن يجمع الشريط الذي سيمرّ في ذهنه إلا بضعة ثوانٍ.
لا أعرف كم بقيت على الحافة التي تفصل شبّاك المطبخ عن شبّاك الصالون وأنا أحاول القفز مسافة متران. كنتُ معلّقاً بيد وقدم. اليد والقدم الأخريتان كانتا في منتصف الطريق. لكن مشهداً واحداً كان يتخدّر في ذهني وأنا أنظر إلى السماء المعكوسة بين الغيوم: زياد العناني في غرفة العناية الحثيثة: مستيقظاً بعد غيبوبة فشل الأطباء في إخراجه منها. يده في يدي، ممتنعاً عن الكلام، عيناه مركّزتان إلى حيث أحاول أن أتجنّب التحديق فيهما.
كلانا كنا نعرف أننا قطعنا نصف الطريق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق