ترجمة لنص The Chauvet Cave من كتاب The Shape of a Pocket لجون بيرجر
رسمتِ، يا ماريسا[i]، الكثير من المخلوقات،
وقلّبتِ العديد من الأحجار، وقرفصتِ لساعات وأنت تبحثين. علّكِ ترافقيني.
ذهبت اليوم
إلى السّوق الشعبي في إحدى ضواحي جنوب باريس. يمكنكِ هناك شراء كل شيء: من أحذية
إلى قنافذ بحر. أعرف امرأة هناك تبيع أفضل أنواع بابريكا أعرفها. ثمّة بائع سمك
ينادي عليّ كلّما كان لديه سمكة غير اعتياديّة يراها جميلة، لأنّه يعتقد أنّني
سأشتريها لأرسمها. ثمّة رجل هزيل بلحية يبيع العسل والنبيذ. بدأ هذا الرجل مؤخّراً
بكتابة الشّعر، موّزعاً نسخاً لقصائده على زبائنه المنتظمين وهو يبدو مندهشاً أكثر
منهم.
هذه إحدى
القصائد التي أعطاني إيّاها هذا الصباح:
Mais qui piqua ce triangle dans ma
tête?
Ce triangle ne du clair de lune
me traversa sans me toucher
avec des bruits de libellule
en pleine nuit dans le rocher.
من الذي وضع
هذا المثّلث في رأسي؟
هذا المثلّث
الذي ولد من ضوء القمر
الذي عبرني
من دون أن يلمسني
بجلبة يعسوبة
عميقاً في
صخرة، عميقاً في الليل.
بعد قراءتها،
أردت الحديث معكِ حول أولى الحيوانات المرسومة. ما أريد قوله واضح، وهو شيء لا بد
أن كل من نظر إلى رسومات الكهف التي تعود إلى العصر الحجري القديم ]الباليوليثيك[،
لكنّه لم يحدث أبداً (أو قلّما حدث). ربّما تكمن الصعوبة في إحدى المفردات، وربّما
علينا إيجاد مرجعيّات جديدة.
يتم إعادة
بداية الفن، باستمرار، إلى أزمنة أبكر. فربّما تعود الصخور المنحوتة التي تم
اكتشافها في كونونورا بأستراليا إلى 75 ألف سنة. بينما رسومات الخيول ووحيد القرن
والوعول والماموث والأسود والدببة والثيران والفهود والرنّة والأُرخُص وبومة، التي
عثر عليها سنة 1994 في كهف شوفيه بأرديش الفرنسيّة، أقدم من تلك التي تك اكتشافها
في كهوف لاسكو بخمسة عشر ألف سنةً على الأرجح. الوقت الذي يفصلنا عن هؤلاء
الفنّانين أطول باثنتي عشر مرة على الأقل من الوقت الذي يفصلنا عن فلاسفة ما قبل
عصر سقراط.
ما يجعل
عصرهم ذلك مذهلاً هو حساسيّة الإدراك التي يكشفونها. إذ تمّت مراقبة قوّة اندفاع
عنق الحيوان، أو تركيب فمه، أو طاقة أوراكه، وإعادة خلقها بعصبيّة وسيطرة يمكن
مقارنتهما بما نجده في أعمال فرا فيليبو ليبي، أو فيلاثكيث، أو برانكوزي. من الواضح أن الفن لم يبدأ بشكل
أخرق. إذ كانت أعين وأيدي الرسّامين والنقّاشين الأولين بجودة من تلاهم. كان هناك
ألقاً منذ البداية، وهذا هو اللغز، أليس كذلك؟
لا يتعلّق
الفرق بين ذلك العصر وعصرنا بالجودة بقدر ما يتعلّق بالفضاء: حيث تتواجد صورهم
كصور تم تخيّلها. لكن علينا إيجاد طريقة أخرى للكلام هنا لأن الفرق كبير جداً.
هناك، لحسن
الحظ، صور ممتازة لرسومات شوفيه، إذ تم إغلاق الكهف ومنع دخوله. هذا قرار سديد يتم
من خلاله الحفاظ على الرسومات. بذلك، عادت الحيوانات على الصخور إلى الظلمة من حيث
جاؤوا، وحيث سكنوا لوقت طويل.
لا يمكننا
وصف هذه الظلمة: لا ليلاً ولا جهلاً. نعبر جميعنا هذه الظلمة من وقتٍ إلى آخر ونرى
كل شيء: الكثير من كل شيء حتّى نعجز عن تمييز أي شيء. أنتِ تعرفين ذلك أكثر ممّا
أفعل: جاء كل شيء من الداخل.
في إحدى
أمسيات تمّوز هذا الصيف، صعدتُّ إلى أعلى حقل فوق المزرعة لجلب أبقار لوي. غالباً
ما أفعل ذلك أثناء موسم دراسة التبن. فبينما يتم تفريغ آخر شاحنة في الحظيرة يكون
الوقت قد تأخّر، وعلى لوي أن يسلّم الحصّة المسائيّة من الحليب في ساعة معيّنة،
وعلى أيّ حال نحن متعبون، لذلك، بينما يحضّر آلة الحلب، أذهب لجلب القطيع. مشيتُ
المسار الذي يتبع الجدول الذي لا يجفّ أبداً. كان الممرّ ظليلاً والهواء لا يزال
حارّاً، لكنّه ليس كثيفاً. لم يكن هناك ذباب خيل مثلما كان في الأمسيات السابقة.
ومن تحت أغصان الأشجار، سار الممرّ كالنّفق، وكان في بعض أجزائه موحلاً. وفي الوحل،
تركتُ آثار أقدامي بين آثار أقدام الأبقار التي لا تعد ولا تحصى.
تنخفض الأرض
من على يميني بحدّة شديدة إلى الجدول. لكن تحدّ أشجار الزّان والسمّن من خطورتها، وسيوقفون
وحشاً ضخماً لو وقع هناك. تنمو الشجيرات الصغيرة وشجر الخمّان على اليسار. كنت
أمشي ببطء، ذلك سمح لي بأن ألاحظ خصلة شعر بقرة حمراء علقت على أغصان واحدة من
الشجيرات.
بدأت
بالمناداة قبل أن أرى الأبقار. فعلى هذا النحو، يمكنها أن تكون على زاوية الحفل
سلفاً عند ظهوري. لكل شخص طريقته الخاصّة في الحديث مع الأبقار. يتكلّم لوي معها
كما لو كانت طفلاته التي لم يحظى بها: بلطف أو شراسة، مدمدماً أو شاتماً. لا أعرف
كيف أتكلّمُ معها، لكنّها تعلم الآن، وتميّز الصوت من دون رؤيتي.
كانت
بانتظاري عندما وصلت. عطّلت السلك المكهرب وناديت: Venez, mes belles,
venez ]تعالي يا جميلاتي، تعالي[. الأبقار مطواعة، لكنّها ترفض
أن يتم استعجالها. تعيش الأبقار ببطء- يومها بخمسة أيّام من أيّامنا. وعندما
نضربها، فذلك دائماً ما ينبع من نفاد الصّبر. صبرنا. وعندما يُضرَبون ينظرون إلينا
بنظرة المعاناة الطويلة تلك، والتي تأخذ شكل الصّفاقة (نعم إنّها تعرف)، لأنّها توحي
بخمسة دهور، لا خمسة أيّام.
مشت الأبقار
متمهّلة إلى خارج الحقل عبر المسار إلى الأسفل. تقود ديلفين القطيع كل مساء، وفي
كل مساء تسير إيرونديل في المؤخّرة، بينما تسير معظم البقيّة بينهما في نفس
الترتيب أيضاً. يوائم هذا الانتظام صبرها بشكل ما.
بينما أدفع
بورك الضعيفة منها لحثّها على المسير، شعرتُ بدفئها الهائل، كما أفعل كل مساء،
يتسلّل إلى كتفي من تحت قميصي الداخلي. هيّا، قلت لها، هيّا يا توليب، بيدي على
عجزها الذي برز كزاوية طاولة.
لم تُصدر
خطواتها على الطّين أي صوت تقريباً. الأبقار مرهفة للغاية تجاه أقدامها: تضعها على
الأرض كعارضة أزياء بأحذية بكعوب عالية من جنبٍ إلى جنب. حتّى إنّي فكّرت في تدريب
الأبقار على المشي على حبلٍ مشدود عبر الجدول على سبيل المثال.
كان صوت
تدفّق مياه الجدول دوماً جزءاً من هبوطنا المسائيّ. وعندما تلاشى الصّوت، سمعتْ
الأبقار صوت تدفّق الماء، كأنّه صوت بصقة من دون أسنان، إلى الحوض بجانب الحظيرة،
حيث سيطفؤون عطشهم. يمكن للبقرة أن تشرب ما يقارب الثلاثين لتراً في دقيقتين.
في هذه
الأثناء، كنّا نسير ببطء إلى الأسفل، مارّين بنفس الأشجار التي سيّرت كل واحدة
منها الممر بطريقتها الخاصّة. توقّفت شارلوت عند بقعة من الحشائش الخضراء. لكزتها
فاستمرّت في طريقها. يحدث ذلك في كل مساء، إذ أستطيع رؤية الحقول التي رعتها عبر
الوادي.
كانت
إيرونديل تغطّس رأسها في المياه مع كل خطوة كما تفعل البطّة. أرخيتُ ذراعي على
رقبتها، وفجأةً رأيتُ المساء كما هو منذ آلاف السنوات:
يسير قطيع
لوي بتسرّع على الطريق بينما يثرثر الجدول إلى جانبنا. تخمد الحرارة، وتسيّرنا
الأشجار، بالذباب حول أعينها، حيث الوادي وأشجار الصنوبر على القمّة البعيدة،
ورائحة البول عندما تتبوّل ديلفين، والصقر الذي يسمّى "نهاية السّهل"
حائماً فوق الحقل، المياه وهي تتدفّق إلى الحوض، وأنا، والوحل في قناة الأشجار،
وعمر الجّبل الذي يتعذّر قياسه. فجأةً، كان كل شيء غير قابل للتجزئة، كان واحداً.
ولاحقاً، سينهار كل جزء إلى قطعٍ بنَسَقِها الخاص. لكن الآن كل القطع متراصّة مع
بعضها، كتراصّ بهلوان على حبل مشدود.
قال هرقليطس
"لننصت، لا لي، بل للـ"لوغوس"[ii] لنجد أنّه من الحكمة
الاتفاق على أن كل الأشياء واحد"، ذلك بعد 29 ألف سنة من إنجاز رسومات شوفيه.
لا يمكننا أن
نجد طريقنا إلى فضاء هذه الرسومات الأولى إلّا إذا تذكّرنا هذه الوحدة والظلمة
التي تكلّمنا عنها.
ليس ثمّة ما
هو مؤطّر في تلك الرسومات، والأهم من ذلك أنّه ليس ثمّة ما يجتمع. لأن الحيوانات
تجري ونادراً ما تُرى ضمن الصورة (التي هي في الأساس منظر لصيّاد مسلّح بشكل سيّء
يسعى خلف هدفه). ومع أنّها أحياناً تعطي الانطباع أنّها ستلتقي، لكن إذا نظرنا
بحذر نجد أنّها تتقاطع من دون أن تلتقي.
لا يشترك
فضاؤهم بأي شيء مع منصّة المسرح على الإطلاق. فعندما يدّعي الخبراء أنّهم يستطيعون
رؤية "بدايات المنظور" هنا، فإنّهم يقعون في فخّ عميق عفا عليه الزّمن.
أنظمة المنظور التصويريّة هي معماريّة وحضريّة- بالاعتماد على النّافذة والباب، أمّا
"المنظور" البدوي فيدور حول التعايش، لا المسافة.
يكمن في عمق
الكهف، حيث يعني عمق الأرض، كل شيء: الرياح، والمياه، والنّار، والأماكن البعيدة،
والموتى، والرّعد، والألم، والطرق، والحيوانات، والضوء، والذي لم يولد بعد. كان كل
ذلك في الصّخر بانتظار من ينادي عليها. والبصمات الشهيرة لأيدٍ بحجمها الطبيعي
أيضاً هناك (التي عندما نراها نؤمن بأنّها أيدينا)، مطبوعة بصبغ المغرة، لنلمسها
ونميّز كل ما هو حاضر، والحد الأقصى للفضاء الذي يسكنه هذا الحضور.
أتت الرسومات،
واحدة تلو الأخرى، إلى ذات النقطة أحياناً، بفارق سنوات أو ربّما قرون. وانتمت
أصابع يد الرسومات إلى فنّانين مختلفين.
وكل الدراما
التي أصبحت في الفن الذي تلاها مشهداً مرسوماً على سطح بحواف رصّت هنا إلى شبح ما
خرج من الصخور لتتم رؤيته. يحتضن الحجر الجيري هذه الرسومات، وتعيرها انتفاخاً
هنا، وفجوة هناك، أو خدشاً عميقاً، أو شفة متدليّة، أو خاصرة منحسرة.
ظهر الشّبح
للفنّان لأوّل مرّة بشكل خفي تقريباً، متتبّعاً صوتاً بعيداً وضخماً لا يمكن
تمييزه. وعندما وجده أو وجدته وتم تتبّعه إلى حيث دفع بالسّطح، السّطح المواجه
لها، حيث يمكنها الآن أن تبقى مرئيّة، حتّى عندما تنسحب وتعود إلى
"الواحد".
كان من الصعب
أن يتم فهم هذه الرسومات بعد ما حدث آلاف السنين: جاء رأس بلا جسد، جاء رأسان واحد
تلو الآخر. اختارت قائمة خلفيّة جسدها الذي كان يمتلك أربعة قوائم سلفاً، واستقرّت
ستّة قرون في جمجمة واحدة.
عندما نندفع إلى السّطح، حجمنا
ليس مهمّاً: يمكننا أن نكون عمالقة أو صغاراً- كل ما يهم هو مدى عبورنا للصخر.
لا تكمن
دراما أول المخلوقات المرسومة إلى الجانب ولا إلى الأمام، بل إلى الوراء دائماً،
في الصّخر. من حيث جاؤوا. ومن حيث جئنا أيضاً.
*كهف شوفيه: كهف في جنوب فرنسا تم اكتشافه سنة 1994. تحتوي جدران الكهف على رسومات تعود إلى العصر الحجري الأعلى وهي محفوظة في أفضل أحوالها.
[i]ماريسا كامينو: فنّانة إسبانيّة وصدقة لجون
تعاونا معاً في معرض أطلق سنة 2005. وجّه لها بيرجر عدد من النصوص بينها هذا النص.
[ii] لوغوس: مفهوم فلسفي يوناني يعدّ هرقليطس أوّل
من حاول تفسيره على أنّه "القانون الكلّي للكون".