ترجمة لنص Steps Towards a Small Theory of the Visible من كتاب The Shape of a Pocket لجون بيرجر
-إلى إيف
"عندما أنطق بالسطر الأوّل
من "الصلاة الربيّة": "أبانا الذي في السماء"، أتخيّل أن
الجنّة غير مرئيّة ولا يمكن الدخول إليها، لكنّها قريبة بشكل حميميّ. ليس ثمّة أمر
باروكيّ في هذا التخيّل: فلا فضاء لا نهائي يحوم، ولا أوهام صور قريبة/ بعيدة
مذهلة. للعثور عليها – إذا ما أُنعِم على المرء- سيكون من الضروري حمل شيء صغير في
اليد كحصوة أو مملحة على الطاولة.
"ليأتِ ملكوتك" ثمّة اختلاف
لا نهائي بين الجنّة والأرض، لكن المسافة تقليليّة. كتبت سيمون فيه[i]
حول هذه الجملة: "تخرق هنا رغبتنا الزّمن لتجد الخلود وراءه، ذلك يحصل عندما
نعرف كيف نحوّل كل ما يحدث، بغض النّظر عن ماهيته، إلى رغبة". قد تكون
كلماتها وصفاً لفن الرّسم أيضاً.
تتكاثر اليوم الصور في كل مكان. لم
يتواجد هذا الكم ممّا تم تصويره ومشاهدته من قبل. يمكننا اختلاس النّظر في أي لحظة
إلى الكيفيّة التي تبدو بها الأشياء في الجانب الآخر من الكوكب، أو الجانب الآخر
من القمر. تم تسجيل المظاهر، وانتقلت بسرعة البرق.
مع ذلك، تغيّر شيء ببراءة. كانت
المظاهر تسمّى ]مظاهرَ[ ماديّة لأنّها انتمت إلى أجساد صلبة. لكنّها الآن متبخّرة. سهّلت الابتكارات
التقنيّة من فصل الظّاهر عن الوجود. وهذا بالضّبط ما تحتاجه أساطير النّظام
باستمرار لاستخدامه: حيث تحوّل المظاهر إلى انكسارات كالسّراب. انكسارات لا للضوء،
بل للشهيّة. في الواقع، شهيّة واحدة فقط: شهيّة للمزيد.
وبالتالي- وبشكل غريب، مع الأخذ بعين
الاعتبار المضامين الماديّة لمفهوم الشهيّة- الموجود، الجسد، يختفي. نعيش
ضمن مشهد من الملابس الفارغة والأقنعة البالية.
خذ بعين الاعتبار أي صحيفة أو تلفزيون
في أي بلد. هؤلاء المتحدّثون هم صورة آليّة مصغّرة عن اللاجسديّة. احتاج النّظام
أعواماً كثيرة لاختراعهم وتعليمهم الحديث كما يفعلون.
لا أجساد ولا ضرورة- لأن الضرورة شرط
الوجود. وهذا ما يجعل الواقع حقيقةً، بينما تتطلّب أساطير النّظام ما لم يصبح
حقيقةً بعد فقط: الافتراضيّ، المشتريات التالية. هذا لا يُنتج في المتفرِّج حسّاً
بالحريّة، كما يدّعى (ما يدعى بحريّة الاختيار)، بل عزلةً عميقة.
واجه التاريخ حتّى وقت قريب، وكل ما
كشفه النّاس عن حياتهم، كل الأمثال والخرافات والحكايات الأخلاقيّة، الشيء ذاته:
صّراع العيش الدائم والمخيف، وأحياناً الجميل مع الضرورة: لغز الوجود- والذي تلاه
من زمن الخلق، والذي، بالتالي، دائماً ما استمر بشحذ الروح البشريّة. تنتج الضرورة
المأساة والمهزلة. الضرورة هي ما تقبّل، أو تضرب رأسك به.
لم تعد هذه الضرورة في مشهديّة النّظام
موجودة اليوم. وبالتالي، لم تنتقل الخبرات. ولم تبقَ إلّا المشهديّة لمشاركتها:
اللعبة التي لا يلعبها أحد ويستطيع أن يشاهدها الجميع. وكما لم يحدث من قبل، على
النّاس محاولة وضع وجودهم وآلامهم الخاصّة بأنفسهم في ميدان الزّمن والكون
الشّاسع.
حلمتُ مرّةً بأنّني تاجر غريب: أتاجر
في الهيئة أو المظاهر، أجمعها وأوزّعها. كنت اكتشفت سرّاً في الحلم بنفسي من دون
مساعدة أو نصيحة.
كان السّر أنّني أدخل باطن ما كنت أبحث
عنه، سواءً كان دلواً من الماء، أو بقرةً، أو مدينةً (مثل توليدو) يمكن رؤيتها من
الأعلى، أو شجرة بلّوط. وبمجرّد دخولي، أرتّب مظاهرها للأفضل. لم يكن يعني
"أفضل" تجميل الشيء أو جعله أكثر تناسقاً، ولم يكن يعني أيضاً جعله
نموذجيّاً: حيث يمكن لشجرة البلّوط أن تمثّل كل أشجار البلّوط، بل عنى ذلك ببساطة
جعلها أكثر خصوصيّة، حتّى تصبح البقرة أو المدينة أو دلو الماء أكثر وضوحاً بشكل
فريد.
أسعدني القيام بذلك، وكان لدي انطباع
بأن التغييرات الصغيرة التي قمت بها من الداخل أسعدتْ الآخرين.
كان سر الدخول إلى بواطن الأشياء
لترتيب مظهرها بسيطاً كفتح باب أو خزانة ملابس. حينما فُتِح الباب من تلقاء نفسه، ربّما
كان أمراً سهلاً كمجرّد تساؤل حول التواجد هناك. لكن عندما استيقظت، لم أستطع
تذكّر كيف كان يتم ذلك، ولم أعد أعرف كيف أدخل في بواطن الأشياء.
غالباً ما يتم تقديم تاريخ الرّسم على
أنّه تاريخ من الأساليب المتتالية. في عصرنا هذا، استخدم تجّار الفن ومروّجوه
معركة الأساليب هذه لصنع أسماء علامات تجاريّة للسوق. يشتري العديد من مقتني
الأعمال الفنيّة والمتاحف أسماءً بدلاً من أعمال.
ربّما جاء الوقت لنسأل سؤالاً ساذجاً:
ما الذي تشترك فيه كل اللوحات (الرسومات) من العصر الحجري القديم ]الباليوثي[ حتّى هذا القرن؟ تعلن كل لوحة
منسوخة: رأيت هذا من قبل، أو عندما تم دمج صناعة الصورة في الطقوس القبليّة: رأينا
هذا من قبل. تشير "هذا" إلى المشهد المقدّم هنا. لا يستثى الفن غير
التشخيصي من ذلك. إذ تمثّل لوحة متأخّرة لروثكو إضاءةً أو توهّجاً لونيّاً
مستمدّاً من تجربة الفنّان مع المرئيّ. عندما كان يعمل، كان يحكم على قماش
الكانفاس الخاص به وفقاً لشيء آخر رآه.
الرّسم، في المقام الأوّل، تأكيدٌ على
المرئيّ الذي يحيط بنا، والذي يظهر ويختفي باستمرار. فبدون الاختفاء، قد لا يكون
هناك من دافعٍ للرسم، لأن المرئيّ ذاته سيتملّك اليقين (الدواميّة) التي تسعى
اللوحة لإيجادها. الرّسم تأكيد على الوجود، تأكيد على العالم المادي التي ألقيت به
البشريّة بطريقة أكثر مباشرة من أي فنٍّ آخر.
كانت الحيوانات أوّل موضوع للرّسم.
ومنذ البداية، ومن ثم الاستمرار عبر الفن السومري والآشوري والمصري واليوناني
المبكّر، كان تصوير هذه الحيوانات حقيقيّاً بشكل مذهل. كان على عدّة آلاف من
السنين أن تمرّ قبل أن يتم تحقيق تصوير "ناطق بالحياة" لجسد الإنسان. في
البداية، كان الوجود ما واجه الإنسان.
كان الرّسامون الأولون صيّادين تعتمد
حياتهم، مثل الجميع في القبيلة، على معرفتهم الوثيقة بالحيوانات. لكن لم يكن فعل
الرّسم يشابه فعل الصّيد، فالعلاقة بين الاثنين كانت سحريّة. وجدت في عدد من رسوم
الكهوف المبكّرة تمثيلات من الاستنسل[ii]
لليد البشريّة بجانب الحيوانات. لا نعلم بالضّبط الطّقس الذي استدعى ذلك. لكنّنا
نعلم أن الرسومات كانت تستخدم للتأكيد على "الرفقة" السحريّة ما بين
الفريسة والصيّاد. أو بشكل أكثر تجريداً: ما بين الوجود والبراعة البشريّة. كان
الرّسم وسيلة لتوضيح هذه الرفقة الدائمة (على أمل ذلك).
يمكن أن يستحق الموضوع التفكير فيه بعد
وقت طويل من فقدان الرّسومات لقطعان حيواناتها ووظائفها الطقوسيّة. أعتقد أنّه
يعلمنا بشيء حول طبيعة الفعل.
لا يأتي دافع الرسم من الملاحظة ولا
حتّى من الروح (المعميّة على الأرجح)، لكن من لقاء: لقاءٌ ما بين الرّسام وموضوع
الرّسم- حتّى لو كان الموضوع جبلاً أو رفّاً لقوارير أدوية فارغة. كان جبل سان فيكتوا كما يظهر من إكس
(يظهر بشكل مختلف جداً من أي مكان آخر) رفيق سيزان.
عندما تكون اللوحة بلا حياة، ذلك لأن
الرسّام لا يمتلك الجرأة على الاقتراب بما يكفي لبدء التعاون، باقٍ في مسافة تسمح
له فقط بالنّسخ، أو، كما هو الحال في الفترات المألوفة مثل يومنا هذا، يبقى على
مسافة تأريخيّة فنيّة، لاعباً الحيل الأسلوبيّة التي لا يعرف عنها موضوع الرسم
شيئاً.
القرب يعني نسيان التقاليد، والسّمعة،
والمنطق والتسلسل الهرمي والذّات. القرب يعني أيضاً المجازفة باللاترابط، وحتّى
الجنون. لإنّه من الممكن أن يقترب أحدهم أكثر من اللازم، ثم ينهار التعاون، ويذوب
الرّسام في موضوع الرّسم. أو يلتهم الحيوان الرّسام أو يسحقه بالأرض.
تظهر كل لوحة أصلانيّة تعاوناً. لننظر إلى تصوير بيتروس كريستوس الشّخصي
لفتاة يافعة في متحف ستاديش ببرلين، أو المشهد البحري العاصف لكوربيه في اللوفر، أو
الفأر مع باذنجانة التي رسمه شو تا[iii]
في القرن السابع عشر، فمن المستحيل إنكار مشاركة موضوع الرّسم. بالفعل، اللوحات
ليست في المقام الأول حول فتاة يافعة أو بحر مائج أو فأر مع حبّة خضار، بل عن هذا
التعاون. كتب شيتاو، رسّام المشاهد الصيني العظيم في القرن السّابع عشر:
"ريشة الرّسم هي لإنقاذ الأشياء من الفوضى".
نحن نتجوّل في منطقة غريبة، وأنا
أستعمل الكلمات بشكل غريب. ثمّة بحر مائج على ساحل فرنسا الشمالي، في يوم خريفي
سنة 1870، وأنا أشارك في المشهد عن طريق رؤية شخص ملتحٍ لي، وفي السنة
المقبلة، سيوضع هذا الرّجل
في السّجن[iv].
ومع ذلك، لا توجد طريقة أخرى للاقتراب من الممارسة الفعليّة لهذا الفن الصّامت،
والذي يوقف كل ما يتحرّك.
العين سبب وجود المرئي: تطوّرت العين
حيث كان ثمّة ضوء كافٍ لأشكال الحياة المرئيّة أن تصبح أكثر وأكثر تعقيداً
وتنوّعاً. فألوان الأزهار البريّة، مثلاً، هي الألوان التي وجدت بها لكي يُنظر
إليها. وتظهر السّماء الفارغة باللون الأزرق بسبب بنية أعيننا وطبيعة النّظام
الشّمسي. ثمّة أساس كينونيّ معيّن للتعاون ما بين موضوع الرّسم والرّسام. كتب سيليسيوس، طبيب عاش في
القرن السابع عشر بـ"فروتسواف"، عن العلاقة الاتّكاليّة ما بين المرئي
والمشاهدة بطريقة صوفيّة:
الوردة التي تتأمّل لبّ عينك
وتتبرعم في أبديّة الله
يسأل الرّسام: كيف أصبحتِ ما تظهرين
عليه؟
يجيب الجبل أو الفأر أو الطفل: أنا كما
أنا عليه، أنا أنتظر. ماذا تنتظر؟
أنتظرك أنت، إن تخلّيت عن كل شيء آخر.
إلى متى؟
متى يستغرق الأمر من الوقت.
ثمّة أمور أخرى في الحياة.
اعثر عليها وكن أكثر طبيعيّةً.
وإذا لم أفعل؟
سأعطيك ما أعطيته لغيرك، لكنّه بلا
قيمة، إنّه ببساطة الجواب على سؤالك غير المجدي.
غير مجدٍ؟
أنا ما أنا عليه.
لن تعدني بأكثر من ذلك؟
كلّا. يمكنني الانتظار إلى الأبد.
أود الحصول على حياة طبيعيّة.
إذاً عشها ولا تعوّل عليّ.
وإذا عوّلت عليك؟
إنسَ كل شيء، وستجدني في داخلي.
نادراً ما يقوم التعاون، الذي يتبع
أحياناً، على النيّة الحسنة، إذ عادة ما يقوم بشكل أكثر على الرّغبة، أو الغضب، أو
الخوف، أو الشفقة أو الحنين. الوهم الحداثي المتعلّق بالرّسم (والذي لم يفعل ما بعد
الحداثيون شيئاً لتصحيحه) هو أن الفنّان خالق. بل الفنّان مستقبل. وما بدا على
أنّه خلق، هو في الواقع فعل إعطاء شكل لما كان قد تلقّاه.
جاءت بوجينا وروبرت[v]
وشقيقه فيوتك لقضاء الأمسية لأنها كانت رأس السنة الروسيّة. حاولت أن أرسم بوجينا
وأنا أجلس على الطاولة وهم يتكلّمون بالروسيّة. لم تكن تلك أوّل مرة، لطالما فشلت
لأن وجهها متحرّك بنسبة كبيرة وأنا لا أستطيع نسيان جمالها. وإذا كنت تريد الرّسم
بشكل جيّد، يجب عليك نسيان ذلك. غادروا بعد وقتٍ طويل من انتصاف الليل. وعندما كنت
أعمل على رسمي الأخير، قال لي روبرت: هذه آخر فرصة لك الليلة، ارسمها جون، ارسمها
وكن رجلاً.
عندما غادروا، أخذت أقل الرسومات سوءاً
وبدأت أعمل عليها بألوان الآكريليك. وفجأة، مثل دوّارة الريح التي تدور حول نفسها
بسبب تغّير الريح، أصبح البورتريه يبدو مثل شيء ما. أصبح "شكلها" الآن
في ذهني- وكل ما عليّ فعله الآن هو استخلاصه، لا البحث عنه. تمزّقت الورقة. كنت
أحياناً أدعك الألوان بكثافة ككثافة المرهم. بدأ الوجه في الرابعة صباحاً يلائم،
يبتسم بوجه، تمثيله الخاص.
في اليوم التالي، كانت قطعة الورق
الضعيفة، والي ترزح تحت ثقل الألوان، لا تزال تبدو جيّدة. وفي ضوء النّهار، كانت
هناك فروقات طفيفة في درجات اللون يجب تغييرها. تنزع الألوان التي يتم رسمها في
الليل لليأس- كالأحذية التي يتم خلعها من دون حلّها تماماً. والآن أصبحت جاهزة.
كنت أذهب من وقتٍ إلى آخر خلال النّهار
لأنظر إليها، وكنت أشعر بالانتشاء. هل لأنّني أنجزت رسماً صغيراً كنت مسروراً به؟
بشقّ الأنفس. جاءت النشوة من مكان آخر: جاء من مظهر الوجه- كما لو كان خروجاً من
الظّلمة. جاء من حقيقة أن وجه بوجينا قد أهدى ما يمكن أن يتركه من نفسه وراءه.
ما هو الشبه؟ يترك الناس وراءهم عندما
يموتون، لمن يعرفونهم، فراغاً، فضاءً: الفضاء لديه ملامح مختلفة لكل متفجّع. هذا
الفضاء وملامحه هو شبه الشخص، وهو ما يبحث عنه الفنّان عند صنع بورتريه حيّ. الشبه
هو شيء ترك بخفاء.
كان سوتين واحداً من أعظم رسّامي القرن العشرين. احتاج
ذلك 50 عاماً ليكون أمراً واضحاً، ذلك أن فنّه كان تقليديّاً وغير مشذّب، فأساء
هذا المزيج لكل الأذواق التي اتّبعت الموضة. كان الأمر كما لو كانت لوحته تتكلّم
بلكنة ثقيلة ومحطّمة، كما كانت تعتبر لثغاء، وفي أفضل الأحوال: تنتمي لبلاد غريبة،
وأسوأها: بربريّة. واليوم، أصبح تفانيه في الوجود أكثر مثاليّةً فأكثر. كشف قليل
من الرسّامين مثله عن رسوم نابض بالحياة أكثر من أنّها تعاون، ضمني في فعل الرّسم،
ما بين موضوع الرّسم
والرسّام. إذ تشبّثت شجر الحور، والجثث، ووجوه الأطفال على قماش لوحات سوتين
بريشته.
كتب شيتاو، إذا ما اقتبسناه مرة أخرى:
"اللوحة نتيجة لاستقبال الحبر:
الحبر منفتح على الفرشاة: الفرشاة منفتحة على اليد: اليد منفتحة على القلب: كل ذلك
بنفس الطريقة التي تولِّد السماء فيها ما تنتجه الأرض: كل شيء نتيجة التلقّي".
عادةً ما يقال عن الأعمال المتأخّرة
لتيتان أو رامبرانت أو تيرنر بأن تعاملهم مع الألوان أصبح أكثر تحرّراً. وعلى
الرّغم من أن ذلك، بمعنىً ما، صحيح، إلّا أنّه يمكن أن يعطي انطباعاً خاطئاً عن
التعنّت. في الواقع، أصبح هؤلاء الرّسامون في شيخوختهم أكثر تكراراً، وأكثر
انفتاحاً على جاذبيّة "موضوع الرسم" وطاقته الغريبة. كان الأمر كما لو
أن أجسادهم تتساقط عنهم.
حين يفهم مبدأ التعاون، يصبح معياراً
للحكم على الأعمال بأي أسلوبٍ كانت، بغض النّظر عن حرّيتها بالتعامل. أو بالأحرى
(لأن الحُكم لا علاقة له بالفن)، لأنّها تمنحنا الرؤية بشكل أكثر وضوحاً لسبب
تأثرنا باللوحات.
رسم روبينز محبوبته هيلين فورمينت عدّة
مرّات. كانت تتعاون أحياناً، ولا تتعاون أحياناً أخرى. وعندما لم تكن تتعاون، كانت
لا تزال مثالاً فنيّاً، وعندما فعلت، نحن أيضاً في انتظارها. هناك لوحة لورود في
مزهريّة لموراندي (1949) حيث تنتظر الورود كالقطط حتّى تدخل مجال رؤيته. (هذا أمر نادر جدّاً
بالنسبة لمعظم لوحات الورود التي بقيت على نقاء مشهديّتها). هناك بورتريه لرجل
رسمت على خشب قبل ألفي عام، والذي نستطيع الشعور بتعاونه حتى الآن. هناك لوحة
لأقزام رسمها فيلاثكيث، كلاب
رسمها تيتان، منازل رسمها فيرمير، حيث نستطيع تمييز طاقة "الرغبة في
ألّا تتم رؤيتها".
يذهب الناس بشكل أكبر مع الوقت إلى
المتاحف لمشاهدة اللوحات دون أن يخيب أملهم. ما الذي يذهلهم؟ إذا كان الجواب:
الفن، أو تاريخ الفن، أو تقدير الفن، فإنّنا تخطّينا ما هو جوهري برأيي.
نأتي، في المتاحف الفنيّة، في مجال
رؤية حقب أخرى تمنحنا الرفقة. نشعر بالوحدة بشكل أقل وطأة بمواجهة ما يظهر ويختفي
أمامنا كل يوم. تستمر كثير من الأمور بالتشابه: الأسنان، والأيدي، والشّمس، وسيقان
النساء، والسّمك، في عالم تتعايش وتتآخى فيه كل الحقب الزمنيّة، سواءً كانت مفصولة
بقرون أو آلاف السّنين. وعندما لا تكون الصورة المرسومة نسخة، بل نتيجة عن حوار،
ستتحدّث اللوحة إذا ما أنصتنا.
بما يتعلّق بالمشاهدة، كان جوزيف بويز نبيّ
النّصف الثاني من قرننا[vi]
العظيم، وكانت أعمال حياته بمثابة استعراض، ومطالبة بنوع التعاون الذي أتكلّم عنه.
فإيماناً بأن الجميع يمتلكون القدرة على أن يكونوا فنّانين، تناول مواضيع ورتّبها
بطريقة تبدو وكأنّها تتوسّل للمشاهد بأن يتعاون معها، ليس بالرّسم هذه المرّة، بل
بالاستماع إلى ما تخبره به أعينهم وبالتذكّر.
أعرف عدد قليل من الأشياء أكثر حزناً
(حزناً وليست مأساويّة) من فقدان حيوان لرؤيته. فعلى النقيض من البشر، لا يترك
للحيوان لغة مساعدة يستطيع من خلالها وصف العالم. يستطيع الحيوان، إذا كان على
أرضٍ مألوفة، أن يجد طريقه عن طريق أنفه. لكنّه جرّد من الوجود، ومع هذا التجريد
يبدأ بالتضاؤل حتّى يصبح ما يفعله أكثر قليلاً من النوم، وهناك ربّما سيصطاد حلماً
كان موجوداً فيه من قبل.
تنظر الماركيز دو سورسي دو تيلوسون، التي رسمها دايفيد العام 1790، مباشرة
إليّ. من كان يستطيع التنبّؤ في وقتها بالعزلة التي يعيشها النّاس اليوم؟ العزلة
التي يتم التأكيد عليها يوميّاً بواسطة شبكة من صور زائفة وبلا جسد عن العالم. لكن
زيفها ليس خطأً. إذا تم اعتبار السعي نحو الرّبح هو الوسيلة الوحيدة لخلاص البشريّة،
فالعائد يصبح أولويّة مطلقة، وبالتالي، لا بد من إهمال أو تجاهل أو إخضاع الوجود.
محاولة رسم الوجود اليوم هو فعل مقاومة
يحرّض على الأمل.
[i] :Simone Weilفيلسوفة وناشطة سياسيّة وعالمة روحانيّات فرنسيّة. ترجم
لها محمّد علي عبد الجليل نصوصاً في موقع معابر السّوري http://www.maaber.org/indexa/al_dalil_fe.htm#Simone_Weil
[ii] قالب من المعدن أو الورق يتم تفريغه على
الأشكال المراد رسمها أو تلوينها على سطح ما.
[iii] يشير بيرجر إلى الرّسام على أنّه Tchou-Ta.
وبما أنّه لا يوجد مرجع باللغة اليابانيّة، فالأرجح أنّه الرّسام الياباني Chu Ta
الذي عاش في القرن السابع عشر (1626 – 1705) https://www.amazon.fr/Chu-Ta-G%C3%A9nie-Trait-1626/dp/2859405925
[iv] يشير بيرجر هنا إلى سجن غوستاف كوربيه بعد انهزام
في كوميونة باريس التي استلمت الحكم لمدة قصيرة (18 آذار/ مارس – 28 أيّار/ مايو
1871) على يد الجيش الفرنسي النّظامي. أنهى كوربيه حكمه بعد أقل من عام، ثم فرّ
إلى سويسرا خوفاً من الملاحقة ومات فيها بعد 5 سنوات (1877).
[v] بوجينا وروبرت من أصدقاء بيرجر في فرنسا.
كانا ضمن الأسماء التي أهداها جون كتاب “Here is Where We
Meet”.
[vi] القرن العشرين. من الواضح أن بيرجر كتب هذا
النص قبل نشره في الكتاب بسنوات (2003).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق