ترجمة فصل Suicide as a Sort of Present من رواية Brief
Interviews with Hideous Men | دايفيد فوستر والاس
في يوم من الأيّام، كانت هناك أم عانت عاطفيّاً بشدّة في داخلها.
لطالما كانت تعاني حسبما تعود إليها ذاكرتها، وحتّى عندما كانت طفلة.
ومع أنّها لا تتذكّر إلّا القليل من تفاصيل طفولتها، إلّا أن كل ما تتذكّره هو
كرهها لذاتها، والرعب، واليأس الذي لطالما رافقها دوماً.
من وجهة نظر موضوعيّة، لن يكون من الخطأ اعتبار أن هذه الأم
المستقبليّة عانت من حمل نفسي خرائيّ عندما كانت طفلة، وأن جزءاً من هذا الخراء وصف
على أنّه سوء معاملة الوالدين. ومع أن طفولتها لم تكن بسوء طفولة البعض، إلّا
أنّها لم تكن نزهة سعيدة. وعلى الرّغم من دقّة هذه المعلومات، إلّا أنّها ليست أهم
ما في الأمر.
يكمن أهم ما في الأمر في أنّها لطالما كرهت هذه الأم المستقبليّة
نفسها منذ عمر مبكّر حسبما تعود إليها ذاكرتها. وأنّها تعاملت مع كل شيء في الحياة
من منطلق الفزع، كما لو كانت كل مناسبة أو فرصة تشكّل نوعاً من الامتحانات المهمّة
للغاية والتي منعها كسلها أو غبائها المفرطان من التحضير إليها بشكل مناسب. وبدا
الأمر كما لو كان إحراز العلامة الكاملة في مثل هذه الامتحانات أمراً ضروريّاً
لتجنّب عقوبات ساحقة. كانت مرعوبة من كل شيء، وكانت مرعوبة من إظهار ذلك.
عرفت الأم المستقبليّة جيّداً، ومنذ سنّ مبكّرة، أن هذا الضغط الرهيب
المتواصل الذي شعرت به كان مصدره داخليّ. وأنّه لم يكن خطأ أيّ شخص آخر. ولذلك،
كرهت نفسها أكثر. كانت تتوقّع من نفسها أن تكون مثالية مطلقة، وفي كل مرّة شعرت
أنّها قصرّت عن الكمال، كانت تمتلئ بيأس غامر لا يطاق ينذر بتحطيمها كمرآة رخيصة.
انطبقت هذه التوقّعات المثاليّة على كل جزء من أجزاء حياة الأم المستقبليّة، خاصّة
تلك التي تستدعي قبول أو رفض الآخرين. لذلك، كان ينظر إليها في طفولتها ومراهقتها
على أنّها فتاة لامعة، وجذّابة، وذات شعبيّة، ومثيرة للإعجاب. وبدا أن أقرانها
يحسدون طاقتها، ودافعها، ومظهرها، وذكائها، وسجيّتها، ومراعاتها الدائمة لاحتياجات
ومشاعر الآخرين، إذ كان لديها عدد قليل من الأصدقاء المقرّبين. وخلال فترة
مراهقتها، أشارت السلطات، مثل المعلمين، وأرباب العمل، وقادة الفرق، والقساوسة، ومجلس
مستشاري الكليّة، إلى أنّه يبدو]بدا[ على الأم المستقبليّة توقّعات كبيرة للغاية من نفسها، وبما أن هذه
الإشارات كانت في كثير من الأحيان ما تصدر بنَفَس قلقة أو لوّامة، لم يكن هناك أيّ
لبس في تمييز الإشارة الطفيفة، لكن الجليّة، بالقبول- قبول حكم السلطة المنفصل
والموضوعي- وعلى كل المستويات، شعرت الأم المستقبليّة (في الوقت الحالي) بالقبول.
وشعرت بأنّها مرئيّة: فمعاييرها كانت عالية. وشعرت بالفخر الدنيئ تجاه قسوتها على
نفسها.
وبحلول الوقت الذي كبرت فيه، سيكون القول بأن الأم
المستقبليّة كانت تعاني بشدّة في داخلها بالفعل أمراً دقيقاً.
عندما أصبحت أمّاً، أصبحت الأمور أكثر صعوبةً. واتّضح
أن توقّعاتها من طفلها الصغير كانت مرتفعة للغاية أيضاً. وفي كل مرّة يقصّر الطفل،
يدفعها ميلها الطبيعي لأن تكرهه. وبعبارة أخرى، في كل مرّة تنذر تصرّفات الطفل
بخرق المعايير المرتفعة التي شعرت الأم في داخلها أنّها تتمتّع بها فعلاً، تسلّط كراهية
الأم الغريزيّة لذاتها على الطفل نفسه. وما يضاعف من هذه النزعة حقيقة أنّه لا
يوجد، في ذهن الأم، سوى فاصل ضئيل للغاية بين هويّتها وهويّة الطفل الصغير. إذ بدا
أن الطفل، في معنى من المعاني، انعكاس لذات الأم في مرآة مصغّرة ومتصدّعة بشكل
عميق. وبالتالي، وفي كل مرّة يكون فيها الطفل وقحاً، أو جشعاً، أو بذئياً، أو
مغفّلاً، أو أنانيّاً، أو قاسياً، أو متمرّداً، أو كسولاً، أو أحمقاً، أو عنيداً،
أو طائشاً، كان ميل الأم الأكثر طبيعيّة وعمقاً إلى كرهه.
لكنّها لم تستطع أن تكرهه. لا يمكن لأيّ أمّ صالحة أن
تكره طفلها أو أن تحكم عليه أو تسيء إليه أو تفكّر في إيذائه بأيّ طريقة. كانت
الأم تعرف ذلك. وكانت المعايير التي وضعتها لنفسها كأم، كما يتوقّع المرء، عالية
للغاية. وهكذا، كلّما "غاب عن بالها"، أو "فقدت سيطرتها
فجأة"، أو "فقدت صبرها" لتعرب عن (أو حتّى تشعر) بكره (مهما كان
ضئيلاً) الطفل، تغرق الأم على الفور في هوّة اليأس واللوم لأنّها شعرت أنّه لا
يمكن تحمّله. ومن ثم كانت الأم في حالة حرب. وكانت توقّعاتها تواجه صراعاً
مصيريّاً. كان صراعاً شعرت فيه أن حياتها كانت على المحك: فالفشل في التغلّب على
خيبتها الغريزيّة من طفلها سيؤدّي إلى عقوبات رهيبة ومدمّرة تعلم أن عليها تدبيرها
مع نفسها في داخلها. كانت مصمّمة- بيأس- على النجاح لتلبية توقّعاتها من نفسها
كأم، وبغض النّظر عن الكلفة.
من وجهة نظر موضوعيّة، نجحت الأم في جهودها للسيطرة على نفسها بشكل كبير. وفي
سلوكها الظاهر تجاه الطفل، كانت الأم محبّة، ورحيمة، ومتعاطفة، وصبورة، ودافئة،
ومنفتحة بلا شروط وبلا كلل أو ملل، وكانت تصرفاتها خالية تماماً من أيّ حكم أو رفض
أو كبت حبّها بأي شكل من الأشكال. وكلّما كان الطفل أكثر كراهةً، كانت تتطلّب الأم
من نفسها حبّاً أكبر. ولم يشب سلوكها، بأي معيار يمكن قياس سلوك الأمهات المتميّزة
فيه، أيّ شائبة.
في المقابل، كان الطفل الصغير
أثناء نموّه يحب الأم أكثر من كل الأشياء الأخرى في العالم مجتمعة. ولو كان يمتلك
القدرة على التعبير عن نفسه الحقّة بطريقة ما، لكان الطفل قال أنّه شعر أنّه طفل
شرّير، طفل كريه حصل، بضربة حظّ غير مستحقّة، على أفضل وأجمل أمّ وأكثرهن محبّةً
وصبراً في العالم كلّه.
وبينما كان الطفل يكبر،
امتلأت الأم في داخلها بالكراهية واليأس. من المؤكّد أنّها شعرت بأن كذب وخداع
الطفل وترويعه لحيوانات الجيران الأليفة كان خطأها، فمن المؤكّد أن الطفل كان يري
للعالم ببساطة أوجه القصور البشعة وعجزها المثير للشفقة كأم. لذلك، عندنا سرق
الطفل أموال اليونيسيف من صفّه، أو لوّح بقطّة من ذيلها وضرب بها زاوية طوب المنزل
المجاور مراراً وتكراراً، نسبت هذا الخلل البشع إلى نفسها، وكافأت دموع الطفل
ولومه لنفسه بتسامح محب غير مشروط، ما أدّى بالطفل إلى اعتبارها ملجأه الوحيد في
عالم الآمال المستحيلة والأحكام القاسية والاضطرابات النفسيّة الخرائيّة. وبينما
كان (الطفل) ينمو، نسبت كل عيوبه إلى نفسها وتكبّدتها، وبالتالي: عُفي عنه، وأُعتق
وولد مرّة أخرى، حتّى أنّها أضافت المزيد من الكره لمخزونها الداخلي.
وهكذا مرّت السنوات، في
طفولته ومراهقته، وبحلول الوقت الذي أصبح فيه الطفل كبيراً بما فيه الكفاية
للتقدّم بطلبات الحصول على التراخيص والتصاريح المختلفة، كانت الأم ممتلئة بالكامل
تقريباً بالكراهية في داخلها: تجاه نفسها، تجاه الطفل المنحرف وغير السعيد، تجاه
عالم الآمال المستحيلة والأحكام القاسية. لم تستطع أن تعبّر عن أيّ من هذا بالطبع.
وهكذا قام الإبن- المستميت مثل كل الأبناء على رد الحب المطلق الذي قد نتوقّعه من
الأمهات فقط- بالتعبير عن كل شيء بدلاً منها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق