الأحد، 3 نوفمبر 2019

العبور ||| كورماك مكارثي

في السادس والعشرين من حزيران في تلك السنة، عبرت مجموعة من الأويرتاريين مدينة روديو في طريقهم إلى توريون في الشرق. وصلوا في وقت متأخّر من الليل مشياً على الأقدام وكان عدد كبير منهم سكراناً، وخيّموا في العراء لدى المتنزّه، وأحرقوا المقاعد الخشبيّة ليشعلوا ناراً وفي الفجر الرمادي اعتقلوا أولئك الذين قالوا أنّهم متعاطفون مع المتمرّدين وأوقفوهم أمام الجدار الطيني في المزرعة وأعطوهم سجائر ليدخّنوها ثم أطلقوا النار عليهم بينما كان أطفالهم ينظرون وكانت زوجاتهم وأمهاتهم ينتحبون ويقطّعون شعورهم. عندما وصل الأعمى في اليوم التالي اصطدم بدون قصد بجنازة كان تطوي الطريق على طول شارع الطيني الرمادي وقبل أن يتمكّن من تبيّن ما يحصل أمامه تناولت فتاة يافعة يده وقادته إلى المقبرة المغبرّة في أطراف المدينة. هناك وسط الصلبان الخشبيّة المهترئة وأطباق الفخّار والزجاج الرخيصة التي نُصِبَت لجمع الصدقات لأوّل التوابيت الثلاثة المصنوعة من خشب الصّندل والتي طليت، على عجل، بزيت الفوانيس وسخام المداخن ووضعت على الأرض بينما لعب عازف الترومبيت لحن "مارشال إير" الكئيب وتحدّث أحد كبار القريّة بدلاً من القسّيس لأنّه لم يكن ثمّة قسّيسين. تشبّثت الفتاة بيده، ومالت باتّجاهه.

همست: إيرا مي إيرمانو ]كان أخي[.

قال الأعمى: لو سيينتو ]أنا متأسّف[.

رفعوا الميّت من الصندوق ووضعوه في أحضان رجلين اندفعا إلى القبر. وهناك وضعوه على التراب وأعادوا وضع ذراعيه حول صدره مرّة أخرى بعد أن سقطا ووضعوا قطعة قماش على وجهه. ثم مدّ حفّارو القبور الوقحين أيديهم إلى زملائهم الذين كانوا ينتظرون ورفعوهم من القبر ثم قام كل منهم بجرف كميّة كبيرة من التراب على الرجل الميّت في ثيابه الرثّة بينما كانت ترسّبات الرمل الرماديّة تهتز بخفوت وكانت النساء تبكي، ويحمل الصندوق الفارغ على الأكتاف عائداً إلى القرية لنقل جثّة أخرى. سمع الأعمى أصوات وصول أشخاص جدد إلى المقبرة الصغيرة، وسرعان ما اقتيد عبر الحشد المتكاتف لمسافة قصيرة ليقف مرّة أخرى ويسمع تأبيناً بسيطاً آخر.

سأل همساً: كيين إس؟ ]من هذا؟[.

تشبّثت الفتاة بيده وهمست: أوترو إيرمانو ]أخ آخر[.

وبينما كانا واقفان استعداداً للدفن الثالث، مال الأعمى وسأل عن عدد المدفونين من أفراد عائلتها لكنّها قالت أن هذا آخرهم.

أوترو إيرمانو؟ ]أخ آخر؟[.

مي بادريه ]أبي[.

قعقع التراب، وانتحبت النساء من جديد. وضع الأعمى قبّعته على رأسه.

عند عودتهم، مرّوا عبر موكب آخر في طريقه إلى المقبرة وسمع الأعمى نحيباً آخر وأقداماً متثاقلة أخرى تمشي تحت وطأة الميّت المحمول. لم يتكلّم أحد. عندما مرّوا عنهم قادته الفتاة إلى الطريق مرّة أخرى وعادا حيثما كانا أوّل مرّة.

سأل الفتاة عمّا إذا بقي أحد من أسرتها على قيد الحياة لكنّها قالت أنه لم يبق هناك سواها بعد أمّها التي ماتت منذ سنوات.

كانت قد أمطرت في الليلة الماضية وأطفأ المطر بقية النار التي خلّفها القتلة وكان الأعمى قادراً على شم رائحة الرّماد الرطب. مرّا عبر المزرعة الطينيّة حيث غسلت نساء القرية الجدار الذي اسودّ من الدم كما لو أنّه لم يكن هناك دم في الأساس. أخبرته الفتاة عن الإعدامات وسمّت له كل من مات وأخبرته من كان وكيف وقف وكيف سقط. احتجزت النساء حتّى تم إطلاق النار على آخر رجل ثم وقف زعيمهم جانباً وسارعوا إليهم وهم يحاولون احتضانهم وهم يموتون.

سأل الأعمى: إي تو؟ ]وأنتِ؟[.

اتّجهت إلى والدها أوّلاً لكنه كان ميّتاً. ثم إلى كلا شقيقيها، والأكبر أوّلاً. لكنّهما كانا ميتين. مشت بين النساء اللواتي قرفصن على الأرض واحتضن الجثث وهن يهدهدن وينتحبن. غادر الجنود بعيداً. اندلع عراك بين كلاب في الشارع. بعد فترة، جاء رجال يدفعون عربات. مشت وهي تحمل قبّعة والدها. لم تعرف ماذا تفعل بها.

وكانت لا تزال تمسك بالقبّعة في حضنها في منتصف الليل وهي جالسة في الكنيسة عندما توقّف حفّار القبور للحديث معها. قال لها أنّها يجب أن تذهب إلى المنزل لكنّها قالت أن والدها وشقيقيها ماتوا في المنزل على حصائرهم وأن شمعة احترقت على الأرضيّة وأنّه ليس ثمّة مكان تنام فيه. قالت أن منزلها ذهب مع من ماتوا ولذلك جاءت إلى الكنيسة. أنصت حفّار القبور إليها. ثم جلس بجانبها على المقعد الخشبي. كان الوقت متأخّراً، والكنيسة فارغة. جلسا جنباً إلى جنب وهما يحملان قبعتيهما، هي بقبّعة القش المحبوك العريضة، وهو بقبّعة الفيدورا السوداء المغبرّة. كانت تبكي. تنهّد وبدا منهكاً ومكتئباً بدوره. قال أنّه بينما يود المرء أن يعتقد بأن الله سيعاقب أولئك الذين يقومون بهذه الأمور وأن الناس يتحدّثون بهذه الطريقة في الغالب إلّا أنّه يعلم من تجربته أنّه لا يمكن الحديث مع الله وبأن الرجال الذي يمتلكون تاريخاً آثماً يتمتّعون في الغالب بحياة مريحة وأنّهم يموتون بسلام ويدفنون بكرامة. قال أنّه توقّع الكثير من العدالة في هذا العالم كان أمراً خاطئاً. قال أنّه يجري الحديث بكثرة حول ندرة الانتقام من الشرور لأنّه إذا لم تكن هناك فائدة منه فإن الرجال سيتجنبوه ولذلك كيف يمكن أن ترتبط الفضيلة بعد ذلك بنبذها؟ كانت طبيعة مهنته تقتضي أن تكون خبرته مع الموت أعظم من خبرة الكثيرين وقال أنّه رغم صحّة الاعتقاد بأن الوقت يشفي من الفجيعة إلّا أنّه لا يتحقّق ذلك إلّا على حساب انقراض أولئك الأحبّة البطيء من ذاكرة القلب الذي هو مسكنهم الوحيد آنذاك أو الآن. تتلاشى الوجوه، وتخفت الأصوات. همس حفّار القبور: اقبضي عليهم مرّة أخرى. تكلّمي معهم. نادي على أسمائهم. افعلي ذلك ولا تدعي الحزن يخمد لأنّه زينة كل هبة.

استعادت الفتاة هذه الكلمات لتخبر الأعمى حيث وقفا أمام جدار المزرعة. قالت أن الفتيات الصغيرات جئن وغمّسن مناديلهن في دم المذبوحين حيث تجمّع في التراب أو مزّقن شرائط من حواف تنانيرهن. داومت الفتيات على ذلك جيئةً وذهاباً كما لو كنّ مجموعة من الممرّضات الخرقاوات اللواتي انتزعت منهن كل ذكرى متعلّقة بوظيفتهن الصحيحة. سرعان ما انتقعت الأرض بالدماء ومع حلول الظلام وقبل أن يهطل المطر وصلت قطعان من الكلاب ونبشت الطين المنقوع بالدماء وأكلتها ثم زمجرت وتشاجرت وانسلّت بعيداً مرة أخرى وفي اليوم التالي لم يعد هناك أثر للموت والدماء والقتل.

وقفا صامتان ثم لمس الأعمى وجه الفتاة وخدّيها وشفتيها. لم يطلب منها القيام بذلك. وقفت بسكون شديد. لمس عيناها واحدة تلو الأخرى. سألته إذا ما كان جنديّاً وقال أنّه كان وسألته إذا ما قتل العديد من الرجال وقال أنّه لم يقتل أحداً. طلبت منه أن ينحني إلى الأسفل حتّى تتمكّن من إغلاق عينيها ولمس وجهه لتفهم عمّا يمكن معرفته بهذه الطريقة وفعل ذلك. لم يقل أنّه لن يكون الأمر ذاته بالنسبة إليها. عندما وصلت إلى العينين تردّدت.

قال: آنداليه، إيستا بيين. ]استمرّي، لا تقلقي[.

لمست الجفون المنطوية داخل المحاجر. لمستهم بأطراف أصابعها بلطف وسألت إذا ما كان ينتابه ألم هناك لكنّه قال أنّه لا يوجد إلّا ألم في الذاكرة فقط وأنّه يحلم أحياناً في الليل أن الظلمة بحد ذاتها كانت حلماً وأنّه يستيقظ ويلمس تلك العيون التي لم تكن في مكانها. قال أن مثل هذه الأحلام بمثابة عذاب له ومع ذلك لن يتمنّى توقّفها. قال أنّه بينما يجب على ذاكرة العالم أن تتلاشى، ذلك يعني أنّه يجب أن تتلاشى في أحلامه حتّى يأتي وقت يخشى فيه من أن يعم فيه الظلام الدامس وأن يختفي ظل العالم الذي كان. قال أنّه يخشى ما كان يحمله الظلام لأنّه كان يؤمن بأن العالم يضمر أكثر ممّا يكشف.

كان الناس في الشارع يمشون متثاقلين. همست الفتاة: بيرسينيسيه ]باسم الصليب[. لم يرد الأعمى أن يُفلت يدها لذلك دار حول نفسه وصلّب بيده اليسرى بشكل أخرق. تجاوزهما موكب الجنازة. أحكمت الفتاة قبضتها على يده مرّة أخرى ومشيا في طريقهما.

عثرت له من بين ملابس والدها على معطف وقميص وبنطلون. وضعت القليل من الملابس التي كانت في المنزل في كيس قماشي وربطته بإحكام وأخذت سكّيناً وهاون ومدقّة وبعض الملاعق مع ما بقي من طعام ووضعتها في شال سالتيّو. كان المنزل بارداً وكانت تفوح منه رائحة التراب. كان بإمكانه سماع أصوات دجاج، وماعز، وطفل في الخارج من بين الجدران والمآرب المنصوبة. أحضرت له الماء في دلو ليحمّم نفسه وفعل ذلك بخرقة وارتدى الملابس. وقف في الغرفة الصغيرة التي كانت المنزل بأكمله وانتظرها حتّى تعود. كان الباب مفتوحاً على الطريق وكان بإمكان الناس العابرين في الشارع في طريقهم إلى المقبرة رؤيته واقفاً هناك. عندما عادت تناولت يده مرّة أخرى وقالت أنّه يبدو غوابو ]جميلاً[ في ملابسه الجديدة وأعطته تفّاحة من التفّاح الذي اشترته ووقفا في الغرفة يأكلان التفّاح ثم حملا الصرتين على أكتافهما وانطلقا معاً.

مالت المرأة إلى الوراء. اعتقد الصبي أنّها ستستمر لكنّها لم تفعل. جلسوا صامتين.

قال: إيرا لا موتشاتشا. ]كانت الفتاة[.

سي.

نظر إلى الأعمى. جلس الأعمى بوجهه المرسوم نصفه بظل ضوء مصباح الزيت. لا بد أنّه شعر بالصبي وهو يتأمّله. قال: إيس أونا كارانتونا، نو؟ ]وهذا ضمان بذلك، أليس كذلك؟[.

قال بيلي: نو. إي أديماس، نو مي ديجو كيه لوس آسبيكتوس دي لاس كوساس سون إنغانوساس؟ ]إلى جانب أنّه لم يخبرني بأن جوانب الأشياء خادعة؟[.

ولأن وجه الأعمى كان يفتقر إلى كل التعابير، لم يسع المرء معرفة متى سيتحدّث أو ما إذا كان سيتحدّث على الإطلاق. بعد فترة، رفع يداً من الطاولة بتلك الإيماءة الغريبة التي يمكن أن تكون تصليباً أو يأساً. قال: بارا مي، سي. ]بالنسبة لي نعم[.

نظر بيلي إلى الامرأة. جلست كما كانت تجلس من قبل، بيديها المطويتان على الطاولة. سأل الأعمى إذا ما سمع عن آخرين عانوا من نفس المصيبة التي تعرّض لها على أيدي ذلك الرجل لكن الأعمى فقط قال أنّه سمع، نعم، لكنّه لم ير أو يلتق أحد منهم. قال أن العُمي لا يسعون لمصادقة العمي. وقصّ كيف سمع مرّة في آلاميدا في تشيهواهوا نقر عصى وتحدّث عن وضعه وسأل إذا ما كان الآخر موجود في تلك الظلمة المتبادلة. توقّف النقر. لم يتحدّث أحد. ثم استؤنف النقر وانسحب إلى أسفل الممشى واختفى بين أصوات المارّة في الشارع.

انحنى إلى الأمام قليلاً. إينتيندا كيه يا إيغزيستي إيسته أوغرو. إيستي تشابودار دي أوخوس. إيل إي أوتروس كوكو إيل. إيوس نو آن ديساباريسيدو ديل موندو. إي نونكا لو آران. ]نفهم أن هذا الغول موجود بالفعل. هذا سارق العيون. هو وآخرون مثله. لم يختفوا من العالم. ولن يفعلوا أبداً[.

سأله بيلي عمّا إذا كان مثل هؤلاء الرجال الذين سرقوا عيونه لم يكونوا إلا نتاجاً للحرب لكن الأعمى قال أنّه طالما كانت الحرب بحد ذاتها من صنيعهم، من الصعب أن يكون ذلك صحيحاً. قال أنّه برأيه لا يمكن لأحد معرفة أصول هؤلاء الرجال أو المكان الذي يمكن أن يظهروا فيه لكن يمكن معرفة وجودهم فقط. قال أن من يسرق عينا المرء يسرق عالماً ويبقى هو نفسه بهذه الطريقة مختبئاً إلى الأبد. فكيف يمكنه التحدّث عن مكانته؟

قال الصبي: إي سوس سوينيوس، سي آن إيتشو ماس باليدوس؟ ]وهل أصبحت أحلامهم أكثر شحوباً؟[.

جلس الأعمى لبعض الوقت. كان يمكن أن يكون نائماً. كان من الممكن أن يفكّر في كلمة غابت عنه. في النهاية قال أنّه في سنواته الأولى من الظلمة كانت أحلامه حيّة وفاقت كل التوقعات وأنّه تعطّش إليها لكن تلك الأحلام والذكريات تلاشت واحدة تلو الأخرى حتّى اختفت جميعها. لم يبق أي أثر لأي منها. شكل العالم. وجوه الأحبّة. في النهاية يختفي ذات الشخص فيه. وكل ما كان عليه اختفى الآن. قال أنّه مثل أي رجل يصل إلى نهاية شيء ما لم يكن هناك ما يمكن عمله سوى البدء من جديد. قال: نو بيودو ريكوردار إيل موندو دي لوس. آسي موتشوس آنيوس. إيسه موندو إيس أون موندو فراخيل. أولتيمامينتي لو كيه فينيه آ فير إيرا ماس دورابليه. ماس فيرداديرو. ]لا أستطيع تذكّر عالم النور. منذ سنوات عديدة. هذا عالم هشّ. في الآونة الأخيرة ما رأيته كان مستداماً أكثر. حقيقيّاً أكثر[.

تحدّث عن سنوات العمه الأولى حين كان العالم بانتظار أن يتحرّك. قال أنّه يمكن للرجال الذين يمتلكون أعيناً اختيار ما يريدون رؤيته لكن بالنسبة للعمي يظهر العالم بمحض إرادته. قال أنه كل شيء بالنسبة للعمي أصبح في متناول اليد فجأة، حتّى أن لا شيء أعلن عن نهجه. أصبحت الأصول والوجهات مجرّد شائعات. فأن تتحرّك يعني أن تتاخم العالم. اجلس بهدوء فيختفي. إين ميس مريميروس آنيوس دي لا أوسكوريداد بينيس كيه لا سيغيرا فويه أونا فورما دي لا مويرتي. إيستوفيه إيكفوكادو . آل بيردير لا فيستا إيس كومو أون سوينيو دي كايدا. سي بيينسا كيه نو آي نوغون فوندو إين إيستيه آبيسمو. سي كايه إي كايه. لا لوس ريتروسيدي. لا ميموريا دي لا لوس. لا ميموريا ديل موندو. دي سو بروبيا كارا. دي لا كارانتونيا. ]في سنواتي الأولى من الظلمة ظننت أن العمى كان شكلاً من أشكال الموت. كنت مخطئاً. فقدان البصر يشبه حلم السقوط. تعتقد أن لا يوجد قاع لهذه الهاوية. تسقط وتسقط. ينحسر النور. ذكرى النور. ذكرى العالم. من وجهه. من قناعه[.

رفع يده ببطء وأبقاها أمامه. كما لو كان يقيس شيئاً ما. قال إذا ما كان هذا السقوط سقوطاً حتى الموت فإن الموت ذاته سيكون مختلفاً عمّا افترضه الرجال. أين هو العالم في هذا السقوط؟ هل يتلاشى هو أيضاً مع النور وذاكرة النور؟ أو هل لا يسقط هو أيضاً؟ قال أنه فقد نفسه وكل ذكرى عن نفسه بالفعل في عماه، لكنّه وجد في أعماق ظلمة هذا الفقد أرضاً على المرء أن يبدأ منها.

إين إيسته بياخيه إيل موندو فيسيبله إيس نو ماس كيه أون ديسترايميينتو. بارا لوس سييغوس إي بارا تودوس لوس أومبريس. أولتيمامينتيه سابيموس كيه نوس بوديموس فير إيل بوين ديوس. فاموس إيسكوتشاندو. مي إينتينديس، خوبين؟ ديبيموس إيسكوتشار. ]في هذه الرحلة، العالم المرئي ليس أكثر من مجرّد إلهاء. للعميان ولجميع الرجال. في نهاية المطاف نعلم أنّنا لا نستطيع رؤية الله الكريم. لذلك لنستمع. هل تفهمني يا صبي؟ علينا أن نستمع[.

عندما توقّف عن الكلام سأله الصبي عمّا إذا كانت النصيحة التي نصحها حفّار القبور للفتاة في الكنيسة نصيحة سيئة لكن الأعمى قال أن حفّار القبور نصحها وفقاً لما يعرف ولا يجب أن يؤثم على ذلك. فمثل هؤلاء الرجال أخذوا نصيحة الموتى على عاتقهم. أو أنّهم يشفعون لهم عند الله بعد أن يذهب القسيس والأصدقاء والأطفال إلى منازلهم. قال أن حفّار القبور ربّما افترض أنّه قادر على الحديث عن الظلمة التي لا يعرفها، لأنّه إذا ما امتلك مثل هذه المعرفة لن يكون حفّار قبور. عندما سأله الصبي عمّا إذا كانت هذه المعرفة محصورة بالعمي قال أنّها ليست كذلك. قال أن معظم الرجال عاشوا حياتهم مثل النجّار الذي تباطأ عمله لتكاسله عن شحذ أدواته.

تساءل الصبي: إي لاس بالابراس ديل سيبولتوريرو آسيركا دي لا خوستيسيا؟ كيه أوبينا؟ ]ماذا عن حديث حفّار القبور عن العدالة؟ ما رأيك؟[.

عندئذٍ تناولت الامرأة وعاء قشر البيض وقالت أن الوقت تأخّر وأن على زوجها ألّا يضني نفسه. قال الصبي أن يتفهّم ذلك لكن الأعمى قال لهم ألّا يشغلوا أنفسهم. قال أنّه فكّر لبعض الوقت في سؤال الصبي، كما فعل الكثير من الرجال من قبله وكما سيفعلون من بعده. قال أنّه حتّى حفّار القبور سيفهم أن كل حكاية هي حكاية عن الظلام والنور وربما لن تكن خلاف ذلك. ومع ذلك، كان لا يزال ثمّة أمر إضافي وأنّه أمر لا يتحدّث الرجال عنه. قال أنّه لو علم الأشرار بعواقب أفعالهم فلن يعترض الرجال عليها. أن الرجال يتحمّلون عواقب الشرور الصغيرة وأنّهم سيعترضون عليها فقط. قال أن الشر الحقيقي يمتلك القدرة على توعية الشرير الصغير بعواقبها وأنّه يمكنه من خلال التفكّر بهذا الشر أن يجد الطريق الصحيح الذي لم تعتد خطواته عليه وربّما لا يقوى إلّا أن يسير فيه. قد يكون حتّى هذا الرجل مرعوباً ممّا انكشف أمامه وينشد نظاماً لمجابهته. لكن على الرغم من كل ذلك، يبقى هناك أمران لن يعرفهما على الأرجح. لن يعرف أنّه على الرغم من أن النظام الذي ينشده الخيّرين ليس خيّراً بحد ذاته، لكنّه ليس سوى نظام، وأن اضطراب الشر هو ذاته في الحقيقة. ولن يعرف أنّه على الرغم من تعثّر الصالحين لدى كل منعطف بسبب جهل الشر أن كل الشرور واضحة وضوح النور والظلام. سيسعى هذا الرجل الذي نتحدّث عنه إلى فرض نظام ونِسَب على الأشياء التي لا تمتلك ذلك. سيدعو العالم لأن يشهد بحقيقة ما هو في الواقع إلّا رغباته. وقد يسعى في تجسّده الأخير إلى ضمان كلماته بالدماء لأنّه بحلول هذا الوقت سيكتشف بلى الكلمات وفقدانها لطعمها، بينما يبقى الألم دوماً جديداً.

قال الأعمى: كيساس آي بوكا دي خوستيسيا إين إيسته موندو ]قد يكون هناك القليل من العدالة في هذا العالم[، ولكن ليس للأسباب التي يفترضها حفّار القبور. تكمن الأسباب في أن صورة هذا العالم هو بالأحرى العالم الذي لا يعرفون غيره، وبأن صورة هذا العالم محفوفة بالمخاطر. وأن ما وُهِب لمساعدته في شقّ طريقه في العالم يمتلك القوّة أيضاً على إعمائه عن طريقه الصحيح. لدى مفتاح الجنة القدرة على فتح بوّابات الجحيم. وسيعدم العالم الذي يتخيّل أنه ملاذ كل الأشياء الإلهيّة من كل شيء إلّا الغبار الذي يخلّفه. وذلك لأنّه كي ينجو العالم يجب تجديده يوميّاً. وعلى هذا الرجل أن يبدأ من جديد سواءً رغب في ذلك أم لا. سوموس دوليينتيس إين لا أوسكوريداد. تودوس نوسوتروس. مي إينتيينديس؟ لوس كيه بويدين فير، لوس كيه نو بويدين. ]نحن نعاني في الظلام. كلنا. هل تفهمني؟ أولئك الذين يبصرون والذين لا يبصرون[.

تأمّل الصبي في القناع على ضوء المصباح. قال الأعمى: لو كيه ديبيموس إينتيندير، إيس كيه أولتيمامينتيه تودو إيس بولفو. تودو لو كيه بوديموس توكار. تودو لو كيه بوديموس فير. إين إيسته تينيموس لا إيفيدينسيا ماس بروفوندا دي لا خوستيسيا، دي لا ميسيريكوردا. إين إيستو فيموس لا بينديسيون ماس غرانديه دي ديوس. ]ما يجب أن نفهمه هو أن كل شيء في نهاية المطاف عبارة عن غبار. كل ما يمكننا لمسه. كل ما يمكننا رؤيته. وهذا أبلغ دليل على العدالة وعلى الرحمة. ففي ذلك نرى أعظم نعم الله[.

نهضت الامرأة. قالت أن الوقت تأخّر. لم يبد الأعمى أيّ ردّة فعل، وجلس في مكانه كما كان. نظر الصبي إليه، ثم سأله أخيراً لماذا تعدّ هذه نعمة لكن الأعمى لم يجب ولم يجب، ثم قال في النهاية إن ما يتحوّل إلى غبار عندما نلمسه لا يمكن أن نعتبره أمراً حقيقيّاً. هي مجرّد آثار لما كان حقيقيّاً في أحسن الأحوال. ربّما هي ليست حتّى حقيقيّة. ربّما لا تشكّل أكثر من عقبات يتم التفاوض عليها تحت ظل عمه العالم المطلق.

عندما خرج في الصباح ليسرج حصانه كانت الامرأة تنثر الحبوب من كيس للطيور في الفناء. هبطت شحارير بريّة من الأشجار بخلسة لتأكل مع الدواجن لكنّها أطعمتها جميعاً من دون تمييز. راقبها الصبي. كان يفكّر أنّها جميلة جدّاً. سرج الحصان وتركه واقفاً وودّعهم ثم ركب حصانه وقاده مغادراً. عندما نظر إلى الخلف رفعت له يدها. كانت الطيور تتزاحم من حولها. قالت: فايا كون ديوس ]الله معك[.

قاد الحصان ليسيرا في الطريق. لم يسر بعيداً حتّى خرج كلب من الأحراش وسقط بجانب الحصان. كان قد تورّط في قتال وامتلأ جسده بالجروح والدماء وكان يضع مخلبه على صدره. أوقف بيلي الحصان ونظر إلى الكلب الذي مشى وهو يعرج بضعة خطوات وتوقّف.

قال بيلي: أين بويد؟

نخس الكلب أذناه ونظر إليه.

يا حمار.

نظر الكلب نحو المنزل.

كان في الشاحنة. ليس موجوداً هنا.

قاد الحصان إلى الأمام وتبعه الكلب في الخلف وانطلقوا شمالاً على الطريق.

وصلوا قبل الظهر إلى الشارع الرئيسي الذي يقع إلى شمال كاسا غرانديس وجلس في مفترق الطريق الصحراوي ونظر إلى الأرض العالية ثم إلى الجنوب لكن لم يكن ثمّة شيء يمكن رؤيته عدا السماء والطريق والصحراء. انتصبت الشمس عاموديّاً تقريباً. تناول البندقيّة من غمدها الجلدي المغبر ونزع الماسورة ونظر إلى الحشوة ليعرف قياس الطلقات التي تلقمها. كان قياس رقم 5 وفكّر في أن يضع رصاص خردق لكنه أعاد وضع رصاص رقم 5 في المخزن وأعادها إلى الغمد وانطلق شمالاً على طول الطريق المؤدّي إلى سان دييغو بينما كان الكلب يعرج في أعقاب الحصان. قال: أين بويد؟ أين بويد؟

نام تلك الليلة في حقل متغطياً بالبطانية التي أعطته إياه الامرأة. تقع تصدّعات نهر يجري عبر السهل على بعد ميل ربّما، يبدو أنّ الحصان ذهب هناك. استلقى على الأرض الباردة ونظر إلى النجوم. بدا الشكل القاتم للحصان على يساره حيث ربطه. يرفع الحصان رأسه فوق خطّ الأفق لينصت السمع إلى ما بين تشكيلات النجوم ثم ينحني ليرعى مرّة أخرى. تأمّل في تلك العوالم المترامية الأطراف في أجيجها الشاحب في ليلة بدون اسم وحاول أن يخبر الله عن شقيقه وبعد لحظات سقط في النوم. كان ينام ويستيقظ من حلم مقلق ولم يستطع أن ينام مرّة أخرى.

كان يسير بصعوبة في حلمه في الثلج المتراكم على طول سلسلة تلال باتّجاه منزل مظلم بينما لحقت به الذئاب حتّى السياج. ضربت الذئاب خواصر بعضها بأفواهها الهزيلة وتزاحموا عند ركبتيه وجرفوا الثلج بأنوفهم وهزّوا رؤوسهم وتجمّعت أنفاسهم في البرد لتحيط به كمرجل وبدا الثلج أزرق تحت ضوء القمر وبدت تلك العيون كأكثر توباز شحوباً حيث جثموا وعووا وطووا ذيولهم وتزاحموا وارتعدوا وهم يقتربون من المنزل ويكشّرون عن أسنانهم البيضاء ويدلون ألسنتهم الحمراء. توقّفوا لدى البوابة. نظروا إلى أشكال الجبال القاتمة في الخلف. ركع في الثلج ومد ذراعيه إليهم ليلمسوا وجهه بخطومهم البريّة وانطلقوا من جديد وكانت أنفاسهم دافئة وكانت رائحتهم تشبه رائحة الأرض وقلب الأرض. عندما وصل آخرهم وقفوا في شكل هلال أمامه وبدت أعينهم ككشّافات تضيء إحداثيّات العالم ثم التفتوا وساروا بعيداً ووثبوا فوق الثلج واختفوا كالدخان في الليل الشتوي. كان والديه نائمان في المنزل، وعندما انسل إلى سريره التفت بويد إليه وهمس له بأنّه كان يحلم، وأن بيلي كان يهرب من المنزل وعندما استيقظ من الحلم ورأى سريره الفارغ اعتقد أنّه كان حقيقةً.

قال بيلي: عد إلى النوم.

لن تهرب وتتركني، أليس كذلك يا بيلي؟

لا.

أتعد بذلك؟

نعم أعدك.

ولا تحت أي ظرف؟

نعم، ولا تحت أي ظرف.

بيلي؟

عد إلى النوم.

هش. ستوقظهم.

لكن في الحلم قال بويد بهدوء أنّهم لن يستيقظوا.

طال بزوغ الفجر. نهض ومشى بعيداً على مروج الصحراء وبحث في الشرق عن النور. ومع باكورة اليوم الرماديّة، انطلقت نداءات الحمام من شجيرات السنط. وهبّت الرياح من الشّمال. لفّ البطانيّة وأكل آخر قطع التورتيّا والبيض المسلوق الذي أعطته إيّاه وسرج حصانه وركبه بينما كانت الشمس تطلع من الشّرق.

في غضون ساعة كانت تمطر. حلّ البطانيّة من ورائه ووضعها فوق كتفيه. كان بإمكانه رؤية المطر قادماً من بعيد كجدار رمادي، وسرعان ما بدأ يضرب المنحدرات الطينيّة المسطّحة التي كان يسير عليها. تهادى الحصان في مسيره. ومشى الكلب بجانبه. وبدوا وكأنّهم منبوذون في أرض غريبة: مشرّدون ومطاردون ومنهكون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق