ترجمة القصة القصيرة A Drowning Incident | كورماك مكارثي
حالما صُفِق منخل الباب، دار حول زاوية المنزل ليبتعد عن الأنظار، ثم ركض إلى مخزن الحطب وجعله بينه وبين المنزل. كان الطفل غافياً. لكنّه لن يذهب بعيداً. واقفاً هناك في ظل شجرة الخرنوب التي وصلها.
كانت بعض الدبابير تطنّ جيئةً وذهاباً في ظل حواف السطح وهي تجتاز طريقها إلى ما وراء السقيفة وعبر البوّابة التي فصلت ما بين الشجيرات المهملة، حيث وصل، وبين رقعة الأرض حول المنزل الخارجي القديم. فتح الباب المتعفّن بحذر، إذ كانت ألواحه مغلّفة بمخمل ناعم من الصّدأ الأخضر الشاحب. كان لوح من الألواح مخلوعاً من الخلف مفسحاً المجال لعمود رقيق من الضوء بالانطواء عبره.
كان المعطف القديم الذي جاء به إلى سوزي هنا لا يزال على الأرض، حيث لحق بها في اليوم الأوّل الذي ظهرت فيه نحيلةً وهي تهزّ ذيلها، وحين لم تعد تجرّ جرودها على الأرض. كان المعطف مغطىً ببقعة من الشعر الأبيض، وبقيت آثار رائحة خافتة للحليب الذي شربته الجراء. إذ كانوا قد رحلوا إلى منزل جديد الأسبوع الماضي. دخل إلى المنزل وحدّق في الحفرة، وبينما كانت عيناه تعتادان الظلمة، كان بإمكانه رؤية مثلثين أحمرين صغيرين تلامست رأسيهما.
كان هناك صرصور قابع على الأرض لدى زاوية كعبه وهو يؤرجح مستشعراته بأقواسٍ عشوائيّة. رآه ومد يده ليمسك به لكنّه قفز ليرتطم بمقدّمة المقعد ويسقط على الأرض مرّة أخرى. دعس عليه بسرعة ثمّ التقطه. كان لا يزال يركل ساقاً بإيقاع نوّام بطيء، ورشح منه سائل أبيض سميك. رماه في الحفرة وانحنى لمشاهدته. كان يمكنه أن يراه وهو يتمايل بهدوء في الشبكة المرنة. شقّت الأرملة السوداء طريقها تجاهه بخيوطها، وعندما وصلته بدأت تنسج شباكها حوله بأرجلها كما لو كانت تؤدّي طقساً أخيراً. سرعان ما توقّفت ساق الصرصور عن الحركة. ثم انحنى إلى الأمام قليلاً، وأطلق من لسانه قطرة كبيرة من اللعاب الذي وصل إلى الأوراق السرخسيّة من تحته، ليتحوّل من اللون الأبيض إلى الرّمادي في الظلمة المتدرّجة. تجمّدت العنكبوت. ضبط تصويبه لتسقط الكرة اللعابيّة هذه المرّة على هدفها لتغمر جسدها. هربت العنكبوت بضحيّتها إلى ظلمات الأنبوب البالي مخلّفة خيوطاً رفيعة من اللعاب الذي علق في حلقات مخاطيّة بين خيوط الشبكة.
ثم نهض ودفع الباب الخرب بحذر. كانت الشمس في تشعّ عبر أشجار البلّوط على الجانب البعيد من المنزل، ولمعت بعض طيور أبو زريق بين أوراقها. تردّد للحظة قبل أن يعود من نفس الطريق إلى زاوية رقعة الأرض تلك. هنا حيث عبر الشجيرات التي تقبع وراء شبك على شكل خلايا النحل، وبدأ بالسير عبر الغابة. لم يمر وقت طويل حتّى وصل إلى طريق عربات قديم يلتوي بهدوء تحت ضوء الصباح عبر الأشجار التي ترشح بالندى. اختار الطريق إلى أسفل التل ومشى وهو يقلّب أوراق الأشجار ليظهر أسفلها الرّطب. توقّف مرّة واحدة لينتزع قبضة من أوراق رابيت توباكو ويحشوها في فمه، قبل أن يسير في طريقه ويبصق وكتفيه النحيلين تتموّج برشاقة.
التفّ الطريق بزاوية إلى أسفل التل حتّى وصل إلى حافّة الغابة حيث استقام لبرهة قبل أن يفقد مساره في المستنقع القذر الذي امتدّ على صفّ أشجار الصفصاف والحور القطنيّة التي حدّت سير الجدول. كان لا يزال بإمكانه الشعور بما تبقّى من الطريق تحت قدميه بينما كان يخوض في الحشائش العالية، أو يمشي بمحاذاة شجيرات العلّيق المتفرّقة. ثم كان يزيل أغصان الصفصاف بألوانها الليموني والذهبي بينما كانت تظهر في طريقه وتتحوّل ألوانها تحت الشمس. حتّى آنذاك، كان بإمكانه سماع خرير السائل الخافت حتّى قبل أن يظهر من بين الصفصاف، حيث يعبر الجسر ملامساً تذرّي المياه المخرّم الأخضر وراءه، حيث تكسّرت أشعّة الشمس وتراقصت على السطح المُشاش كنحل فضيّ.
سار على الجسر الصغير وهو يخطو بحذر. إذ كانت الألواح الخشبيّة متشقّقة وذابلة، ويعلوها بياض يكاد أن يكون رماديّاً معدنيّاً. تقهقر البناء برمّته بشكل خطير في المنتصف كأنه بغلٌ يحمل كل ما قدر أن يحمل. جلس على الألواح الدافئة، ثم تمدّد على بطنه وأطل فوق الحافّة لينظر إلى المياه من تحته. كان الجدول ضحلاً وصافياً. كانت أرضيّة المياه مزركشة باللونين البنّي والذهبي كفهدٍ مختبئ حيثما تسرّبت الشمس عبر الأوراق والأغصان فوقه. وانجرفت سمك المنوة عبر التيّار البطيء. وشاهد عبر الماء الزجاجي الظلال الصغيرة وهي تذرع ظهر الفهد متموّجةً بهدوء كأنّها تطير. عثر على حصىً بيضاء صغيرة لدى مرفقيه، فدفعها على السّمك، حيث التفّت وهي تلمع ببطء إلى السّطح لتلحق بالحصى الصغيرة التي توقّفت لدى نبات المحلاق القليلة قبل أن ترتفع وتختفي. هرع سمك المنوة لتفحّص الأمر. طوى ذراعيه تحت ذقنه. ومنحته الشمس التي أشعّت، عبر الفانيلا، على ظهره شعوراً جيّداً بالدفء.
ثم ومع تدفّق التيّار بنعومة من تحت الجسر، تدحرج جرو صغير مصطدماً بطريقه على طول قاع الجدول ليفقد توازنه ويسقط في الجدول البطيء. وراقبه من دون أن يعلم ماذا يجري. ودار حول نفسه ببطء ليحدّق فيه بعيون لا ترى وهو يدير بطنه الأبيض لأشعّة الشّمس المنتشرة برفق، وتتصلّب أرجله مقاوماً الغرق. انجرف مع التيّار، واختفى للحظة في حزام من الظل، ثم ظهر لينزلق تحت فضّة سطح المياه المسبوغة ثم اختفى.
نهض بسرعة وهزّ رأسه وأخذ يحدّق في الماء. ذرعت سمك المنوة التيّار كأنّها صواريخ معطّلة، وتزحلق عنكبوت مائي على السّطح.
كانوا باللونين الأسود والأبيض، كانوا باللونين الأسود و.. ما عدا واحداً أسود بالكامل. عبر الجسر وغادره، ثم توقّف. عندما التفت توسّعت عيناه وابيضّت. عاد وانطلق عبر الجدول على طول الطريق الذي انحنى فوق الضفاف الجرفيّة، باحثاً في المياه وهو يمشي. جرت أخاديد صغيرة عبر ممرّات من نبات البقلة المغمورة بالمياه لتتدفّق في مجرى الجدول، على طول الصخور حيث نبتت معرشّات متعقّدة. اندفعت جرادة بحر من تحت ساق شجرة حور متشابكة. وقبعت فردة حذاء يتعذّر تفسير وصولها هنا في بركة من المياه.
كان التيّار يحوم بشكل أسرع لدى انحناء الجدول أسفل المكان الذي يمر أسفل الجسر المستدق، وكانت المياه عميقة. ومن أثر انعطاف الجدول، كانت الشمس الآن في عينيه ولم يتمكّن من الرؤية في الماء. سارع إلى القمّة واجتاز جسراً خسرانيّاً صغيراً، وشقّ طريقه نزولاً إلى الجانب الآخر بعصىً. وعندما وصل إلى الجدول كان يقف على ضفّة عالية، حيث يرتطم التيّار ويهدر بشكل مفاجئ، وحيث تتموّج المياه وتلتوي. وفي الأسفل، في أعماق المياه المكفهرّ، كان بإمكانه رؤية كيس داكن من الخيش. فجلس ببطء مخدّراً ومكروباً. وبينما كان يحدّق، ظهر رأس صغير من فتق في الكيس. انكفأ بهدوء للحظة، ثم ظهر شيء صغير بالأبيض والأسود مسحوباً من زاوية التيّار وهو مجعّد كأنّه ولد للتو. كان ذلك يشبه مشاهدة ولادةً تحت الماء لكائنات رائعة. تمايل متردّداً لبرهة قبل أن يستدير ليختفي عن مجال الرؤية في التيّار السريع.
لم تكن ثمّة دموع، فقط شعور بالفراغ الهائل الذي، عندما جلس هناك، انزاح ليأخذ مكانه شعوراً متزايداً بالغضب. وقف حينئذٍ وسحب غصناً طويلاً من شجرة صفصاف وبدأ يضربه به ركبته محاولاً أن يفلقه إلى قسمين، لكنّه كان قاسياً، وبعد فترة استسلم. شق طريقه عائداً عبر الأغصان إلى الطريق وإلى الجانب الآخر حيث كان ثمّة سياج. مشى على طوله حتّى وجد سلكاً مفكوكاً. بدأ بجذبه وثنيه حتّى تحرّر الطرف الصدئ. عاد إلى الجدول وقد ثنى طرف السلك ليحاول أن يصطاد الكيس من قاع الجدول. لم يستطع التحكّم بالسلك لطوله، وكان التيّار سيسحبه معه. أخذه الأمر نصف ساعة قبل أن يشبك السلك بالكيس. لفّ السلك في بده، وعندما سحبه تبعه الكيس الثقيل والرّخو. حمله إلى الضفّة ورفعه بحذر إلى الشاطئ. صدرت عنه رائحة فاسدة وكريهة. وعندما فتحه كان هناك جرو واحد داخله فقط، وكان ذلك الجرو الأسود وهو ملتف حول نفسه بين حجرين، وكانت جرادة بحر تحفر طريقها عبر بطنه الناعم والرطب. ربط سلكه بجرادة البحر وسحبها للخارج، ما أخرج وراءها أنبوباً من الأحشاء الخضراء المتعفّنة. حاول دفع الأحشاء إلى الداخل بمقدّمة حذائه. عاد إلى الطريق مرّة أخرى مستكشفاً الخنادق على جانبه حتّى وجد كيساً ورقيّاً ليعود ويضع فيه الجثّة الصغيرة بأصابع مرتبكة. ثم اندفع عابراً الأجمّة الكثيفة ليصل إلى الساحة ليعبرها قطريّاً ويدخل الغابة على بعد بضع ياردات فقط من طريق العربات. سار في الطريق، وكانت الحقيبة الصغيرة القذرة تتأرجح على جانبه. كان يمشي، بعينين فارغتين، بشكل آلي وكأنّه يسير في نومه.
عندما وصل إلى المنزل، أسرعت سوزي عبر الفناء لملاقاته. تجنّبها ودخل من الباب الخلفي ليغلقه بحذر وراءه. توقّف ليستمع في المطبخ. لكن المنزل كان هادئاً، حتّى أنّه كان قادراً على سماع قلبه وهو يخفق بصوتٍ عالٍ. ملأ ضوء دافئ الألواح الزجاجيّة التي كانت فوق الحوض. ثم سمعها تسعل- كانت تسعل دائماً- وأنصت عن قرب. كانت في الحمّام. أنصت لدى الباب ثم واربه بهدوء. كانت الستائر مسدلة، وحيث ضربتها الشمس، تخضّبت بتوهّج برتقالي شاحب تخلّل الهواء الذي ترطّن برائحة نتنة وحميميّة لبول الطفل الخافتة، ورائحة البطانيّات.
وقف في المدخل لدقيقة. وما دفعه للقيام بالحركة القادمة كان تتويجاً لجميع المخطّطات التي بدأت بالاختمار، ليس فقط أثناء المسير من الجدول، لكن من لحظة مجيء الطفل. تصارعت وطفت عدد لا يحصى من الأفكار المرفوضة أو المنقّحة أو المنكرة في مكان ما من خبايا عقله الداخلي. رفع الكيس المنتّن ونظر إليه. كان يرشح بالماء، وعبر تشقّقاته من الأسفل نتأت شعيرات سوداء كسيقان عنكبوت. بعد التفكير في الأمر، لم يبدُ أنّه قام بعبور الغرفة إلى سرير الطفل في الزاوية، إذ قام بإخراج البطانية الزرقاء، وألقى الجرو إلى جانب الجسد الصغير والمتغضّن النائم، وفرد البطانيّة عليهما. تذكّر أنّه شاهد الأحشاء الخضراء وهي تنزّ على الشرشف بينما كانت البطانية تنطوي.
بقي ينتظر عودته إلى المنزل مع اقتراب موعد العشاء. يجلس الآن في على سريره وهو يفكّر بجدار بلا أبعاد يحتوي فقط على شكل رمادي يتجدّل كبصمة ضخمة ويتذبذب ببطء. ذهبت أمه مرّة واحدة إلى الغرفة بهدوء، لكن الطفل لم يستيقظ. بقي ينتظر عودته إلى المنزل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق