تخلّفت عن دفع إيجار المنزل لثلاثة أشهر حتى الآن. لا أعرف كيف حصل ذلك. كأنّني كنتُ أركض بحياتي بخطين متوازيين: "أ. ز" الذي يعمل ويكدح طيلة النهار في ورشات الميكانيك، و"أ. ز" الذي يدّعي أنّه سليل مقاهي وبارات عمّان. ورغم أنّني استقلتُ من عملي في الورشة، إلا أنني مهووس بمراقبة ردود فعل أصدقائي، الذين تصدر عنهم رائحة جميلة أضطّر معها لتجنُّب الالتصاق بأحدهم، عندما يعرفون عملي الحقيقيّ.
كنتُ أركض بحياتي بخطّين متوازيين: أحدنا كان ينهي عمله ويذهب إلى تيرتل غرين بملابسه الباهتة من الغسيل السيء والسريع، والآخر كان يتسلّل إلى المنزل في آخر الليل كي لا يصطاده "أبو وائل".
بنى "أبو وائل" البناية في أواخر التسعينيّات، بعد أن تقاعد من عمله كمترجم في السعوديّة. حمل الستّينيّ نموذجه الكادح في الخليج ليموت في بنايته التي خصّص منها شقّتين لأولاده: "وائل" المصاب بمرض عصبيّ، أظنّه التوحّد، يمنعه من العمل، و"أحمد" الذي يحتل منصباً إداريّاً في مصنع بسحاب.
لا تستحق شخصية "أحمد" أن تملأ فراغ جسده ومحيطه. لكن توتّر "وائل" المستمرّ في ارتجاف جسده وطريقة كلامه، إضافة إلى شعره الرمادي وبياض بشرته الباهت وعلاقة كل ذلك بداستن هوفمان في فيلم Rain Man، يغمرني في كل مكان أجده به بالصدفة.
وكثيراً ما أصادفه.
مرتدياً قميصاً وبنطلوناً فاتحي اللون. يتمتمُ وينظر إلى الأرض وهو يصعد الشارع القائم بزاوية حادة إلى البناية. يمشي بخطوات صغيرة ومتوتّرة بصورة لولبيّة: من يمين الشارع إلى يساره. أو حاملاً شنطةً في الجامعة الساعة السابعة والنصف صباحاً، يحييني ويبرّر وجوده بأنه ذاهب إلى المكتبة ليقرأ. أو على باب البناية ملقياً عليّ التحيّة بالاسبانيّة، متحدّثاً عن سعادته بفوز ماريو فارغاس يوسّا بنوبل الآداب.
بعد فترة، أخبرني "أبو وائل" أن إيجار شقّتني يذهب مباشرة إلى يد "وائل". هذا ما جعلني أشعر بأنني، بشكل ما، مسؤول عن توفير حياة الأخير. لم تتغيّر علاقتنا. حتى وهو يتّصل بي مطالباً بالإيجار بكل خجل. أو عندما يرسل لي مسجاً يتمنّى لي فيها مساءً سعيداً. لكن بعد أن تخلّفت عند دفع الإيجار، أمرني "أبو وائل" بألا أتحدّث مع أحد غيره، على أن تكون العلاقة مباشرة معه.
لم أعد أتلقّى هواتف "وائل" ولا مسجاته. وأصبحنا نكتفي بالإيماء عندما نلتقي، كأنّ شرخاً حدث بيننا. شعرتُ بالذّنب لأنني اعتقدتُّ أنّه أراد صديقاً يمكنه أن يساعده ويتحدّث معه بنفس الوقت.
لم أعد أسمع أخباره. إلى أن أخبرني "أبو وائل" أن زوجته أنجبت طفلاً ثانياً، وأنّها تعرّضت لنزيف أثناء الولادة. في الواقع، لا تلبث أن تتحوّل المكالمة اليوميّة التي يطالبني بها بالإيجار إلى حفلة تذمّر من كل شيء: الأحفاد الذين جاؤوا مع بناته من دبيّ، الهاتف الذي أتاه بنص صلاة الجمعة يطالبه بـ1700 دينار، المياه التي لا تأتي من البلديّة بموعدها، الجو الحار، النباتات التي تموت رغم كلّ شيء، وزوجته التي ماتت رغم كل شيء.
هذه الشكاوى تتحوّل إلى عبء كبير عندما نتحدّث أمام باب شقّته. حينها، يتعاظم شعوره بالاستسلام والكبت والحاجة إلى البكاء.
في إحدى المرّات التي أوصلتني بها "تاء" إلى المنزل، تحدّثنا عن الكآبة التي تسيطر على حياتنا رغم خطوط الدّفاع الكثيرة التي نحفرها حول مساحات إشغالنا الخاصّة. أخبرتها وقتها أنّنا ببساطة بحاجة إلى الآخرين، رغم أنّني لم أكن مقتنعاً بذلك. ولكي أذهب لأبعد من مجرّد المناقشة، أخبرتها عن فيلم Crash، وكيف تشعر فيه الشخصيّات بالحاجة إلى الآخر في مدينة قاسية مثل لوس أنجيليس. الحاجة إلى الآخرين تتعاظم من الكبت وادّعاء القوّة، حتى لا يجد أحدهم طريقة للتواصل مع الآخرين إلا بالتصادم.
لاحقاً، أخبرتني "تاء"، ونحن في نفس الطريق، صامتين وكئيبين، بأنّ ما قلته لها موجع. معترفةً ضمنيّاً بأنّه صحيح.
ربّما لذلك، تجرّأتُ على اقتحام مساحة "أبو وائل" الخاصّة، وشعرتُ بالحاجة لأن أضع يدي على كتفه. عندما فعلتُ ذلك ونحن نتحدّث أمام باب منزله سكتَ فجأةً، ولم يعد قادراً على النظر إليّ.
كنتُ في تلك اللحظة سجّاناً قرّر أن يتعاطف مع ضحيته. وهكذا، كنتُ دوماً سجّان حياتي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق