الأحد، 1 يناير 2012

المهرجون: بناة العالم

"أنا بخاف من المهرّجين"- قالت هذه الجملة وهي تمشي بسرعة نحونا لتحتمي بنا بعيداً عمّن ارتدى قبّعة ملوّنة لأحد فرق كرة القدم. كنّا قد بدأنا بالحديث عن أمور لا أذكرها. مجرّد حديث ليس له معنى بين رجلين في الساعة الرابعة والنصف صباحاً- حتى جاءت تلوّح بيديها الصغيرتين أمام وجهينا اللذين تخدّرا بابتسامتين بلهاء. لكنها لم تكن تنظر إلينا. كانت عيناها معلّقتان بخيط يتحّرك ببطء في الفراغ: جوفاء، تعكسان هاوية سوداء.
لم يكن توسّع عيناها أسودَ تماماً؛ كان لوناً يطمح إلى ما هو أكثر قتامة من الأسود. كانت بالفعل مفزوعة. وبقيت أفكّر في أنني لم أر سواداً بهذا العمق قبل الآن، بينما تهتزّ خصلات شعرها الشقراء الداكنة فوق جبينها العريض، ويلتوي طرف شفتها إلى زاوية مكسورة لليمين.
كنا، أنا والرجل الإيطاليّ، لا نزال نبتسم. ولم يفكّر أحدنا في طمأنتها. حتى أن ذهبت، نظر الإيطاليّ إلى زجاجة البيرة في يده، وصار يلوّح بها ببطء إلى الأعلى والأسفل.


"تعرف؟ أنا أخاف من المهرجين أيضاً. أو ربّما ليس خوفاً حقيقيّاً، لنقل أنني لا أشعر بالراحة وأنا معهم في مكان واحد."
كنت أحاول أن أبذل جهداً كبيراً في إبداء الاهتمام، أو حتى الإنصات بشكل جيّد. كان قد مرّ على مللي 12 ساعة تقريباً وأنا أحاول تطوير حاسّة اجتماعيّة تحميني من الاندفاع إلى الغضب بكل طاقتي.
أفلتت مني شحنات غضب مرتين، وكلتاهما باتجاه نفس الشخص. في مزرعة خارج عمّان أشعلنا حطباً في الفاير بلايس، وشربنا كل ما استطعنا أن نحمله معنا من نبيذ قبل الساعة العاشرة مساءً.
كنتُ أحاول أن أبدو هادئاً. لكن لحظات الغضب كانت تفلت مني في الحوارات التي أكون أنا في مركزها.
في المرة الأولى صرخت بوجهها، وتابعتها وهي تنهزم وتذهب لتحرّك الحطب الذي تجمّر في الفاير بلايس. وبعد أن انتهى الحوار، حاولت إقناعها بأنها انزعجت مني بدون جدوى.
بعدها بأكثر من ساعة كنا نتحدّث مع صديقها الذي جاء من سيناء عن الحلف بين قبيلتيّ الحويطات والترباني اللتان ساندتا لورنس العرب ضد العثمانيين. 
كنا نرتجف من البرد تحت عدد هائل من النجوم. وعكس ضوء نصف القمر طرفي وجهيهما بدون أن أدرك وقتها أنه يعكس وجهي أمامهما. وتمنيّت لو أنني أرى وجهي من مكانهما: ملتحياً، شاحباً. ببقايا الدم المتحجّر من جرح على أنفي، وعيني الغائرتان من كثرة ادّعاء الابتسام.
فجأة انتبهت إلى أنها لا تمرّر السيجارة التي خرجنا لتدخينها ثلاثتنا، فصرخت بها. إلا أن الموقف تحوّل إلى غزل خفيّ بينهما عندما قال لي الترباني بخجل من بين أسنانه البيض: "لا تتكلم مع صديقتي بهذه الطريقة".
لكن الإيطالي كان لطيفاً، ويتحدّث بودّ عن أمر شخصي جداً. كان مندفعاً، ويتكلّم عن نفس الموضوع بأربعة عشر طريقة. عرفت ذلك عندما بدأت بعدّها في المرة الرابعة وأنا أحاول أن أشاركه ليقطع نصف جملتي: "well I have the same disturbing feeling, but".
حتى هدأ فجأة على صوت أغنية "سوينغ" أخرى تنبعث من غرفة مغلقة أسميناها: غرفة الرقص المؤقت.
"أشعر بنفس الشعور المزعج، لكن تجاه الأشخاص الذين يغمرون المكان بشخصيتهم المسيطرة. أعني أولئك الذين يتمتّعون بالطاقة التي تجبر الآخرين على الاستماع. الذين يبدو طرحهم كاملاً وغير قابل للنقض. أميل للأشخاص المعطوبين، المشوّهين عاطفيّاً، الشّاردين، الذين تخفت طاقتهم وهالتهم إلى درجة غير مرئيّة. لا أشعر بأنني معنيّ بإيجاد طرق للتواصل مع المُبهرين، ولا أعتقد أنه بإمكانك بناء شيء معهم".
"هذا صحيح تماماً" - يبتسم بعمق كأنه عثر على خاتمة مثاليّة لهذه الليلة: "المهرجون بالنسبة إلي هم الأشخاص الذين تصفهم بالضبط: إنهم بكل بساطة مزيّفون، إنهم يمثلون طيلة الوقت بتلك الابتسامة المرسومة وكل التصرّفات المستعارة والإضافات المتكلّفة على مظهرهم".


في غرقة الرقص المؤقت رقصنا على "إنت عمري". رفيقتي في الرقصة قالت وهي تبتسم: "مش معقول، لم أرك منذ عدة شهور وكنت أتوسّل إليك حتى ترقص معي. ما الذي حدث وغيّرك؟"


في الطريق إلى المنزل في سيارة "تاء" كالعادة، كان نصف القمر ينحدر إلى زاوية غبيّة. موهومان بأننا سعيدين: تكلمنا كثيراً عن خطط السنة الجديدة.


عندما وصلنا إلى منزلي، خرجت من السيارة لأرمي أكياس القمامة في الحاوية على زاوية الشارع. كانت السماء تنفتح على ضوء يتسرّب من باب تركه أحدهم موارباً. وكانت "تاء" من وراء الزجاج الأماميّ تنظر إلى خيط يتحرّك ببطء في الفراغ. مفزوعة، بلون عينين أخفّ سواداً، تلوّح بيديها الصغيرتين، مودّعةً، أمام وجهها الشّاحب.


ولم أنسَ، كما أفعل عادةً، أن أخلع الأنف الأحمر والقبعة الملوّنة قبل أن أنام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق