الأربعاء، 18 يناير 2012

وينظر إلى قدميه اللتان تلمعان الآن في عمود الضوء. وينظر إلى قدميه اللتان تلمعان الآن في عمود الضوء.

غرفة مستطيلة بشبّاكين: أحدهما في الجهة الغربيّة، والآخر في الجنوبيّة الغربيّة. الشّمس الآن تقطع المسافة بين الشبّاكين، إلا أن طرفها لا يزال يستعمل الشبّاك الجنوبيّ الغربيّ. 
يقع عمود من الضوء الباهت على طرف صوفا زرقاء كالحة ليمسّ طرف جينز  داكن [بأزرار] ملقى هناك.
ثمّة جينز آخر فاتح [بسحّاب] خارج عمود الضوء. البنطالان ملقيان فوق بعضهما، ويظهران، من اتسّاع خصرهما، حوضاً ممتلئاً لصحابهما.
ثمّة قميص صيفيّ كحلي مخطّط بالأبيض، ألقي فوقه جاكيت بدلة أسود لا تظهر تفاصيل قصّته.
على الطرف الآخر من الصوفا معطف حمّام أصفر نصف مبلول [بدليل اتجاه الوبر]، ملقى إلى جانب منشفة خضراء فاقعة. فوقهما كومة ملابس يتدلى من جانبها طرف معطف أنيق، وكمّ قميص كاروهات صغيرة جداً.
يكاد طرف المعطف أن يلمس فردة حذاء لا تزال أشرطته مربوطة. أما معطف الحمّام فيغطّي طرفه مقدمّة بوط بعنق متوسطة. مقدّمة الحذاءان تتجه إلى الجدار الذي رسم على منتصفه، بقلم رصاص، خط يتلطّخ ليترك بقع رماديّة.
مؤخرة الحذائين تتجه إلى مدفأة غاز مضاءة على شعلتين. وعلى سطح المدفأة الملطّخ فوطة صفراء عليها مفتاح غاز، وسكّين كبير يشير نصله إلى ثلاث صور معلّقة على الجدار المقابل لتوم وايتس، فرانسوا ساغان، ومارلين مونرو.
توم وايتس يحمل عصا المايكروفون بالتوازي مع رجله اليمنى. قبعته تكاد تختفي وراء يده اليمنى المرفوعة لتحمل المايكروفون، وجهه يتدلّى إلى الأسفل مغمض العينين.
ساغان مستلقية على بطنها في غرفة من الأربعينيّات، بشعر قصير وملامح تمنح الشعور بأنها لا تزال في السادسة عشرة، ترتدي تنورة كاروهات وبلوزة مقلّمة. تنظر مباشرة إلى الكاميرا وهي تضع أصبعها الأوسط على الآلة الكاتبة.
مونرو تلفّ نفسها بشرشف أبيض. لا يظهر من جسدها شيئاً إلا يديها التي تكسر بيضة في كأس حليب موضوع بصينيّة على طرفها الأيسر، ورجلها كاملة: من زاوية الحوض إلى أصابع قدمها التي تستند إليها.
مقابل جدار الصور يجلس "أ. ز"، وهو يكتب على اللابتوب، على صوفا زرقاء أقل بهتةً، قدماه مرفوعتان على طاولة صغيرة عليها فنجان أبيض متوسط الحجم موضوع على قطعة ورق مقوّى مرسوم عليها غاندي. ومطفأة تحتوي على تسع سجائر عكفت فلاترهم بنفس الطريقة، ملقط حواجب، ولاعتان: خضراء شفافة، وزرقاء صغيرة. وعلبة سجائر "كنت" عليها ولاعة صفراء.
يداه الاثنتان على اللابتوب، حاملاً سيجارة يكاد رمادها أن يسقط على الكيبورد. يرفع رأسه كل قليل ليصف المشهد الذي يراه ليكتبه.
وكل دقيقة يرفع نظره عن الشاشة ليفكّر، ناظراً إلى قدميه اللتان انحسر عنهما البنطال المخطّط بالأسود والرمادي والأبيض على جوارب رماديّة وخفّ بنّي ثقيل.
كل 10 دقائق يمدّ يده اليمنى إلى جانبه من دون أن ينظر ليلتقط زجاجة ماء ويشرب منها وهو ينظر إلى أكوام الكتب المصفوفة بعناية إلى الطاولة المتوسطة إلى يمينه: كتابان لأبير كامو بالإنجليزيّة، كتابان لستيفان تسفايج، كتاب لخالدة سعيد، وديوان سليم بركات، ورواية Naked Lunch لويليام بوروز، وكتاب لجون بيرجر، وكتاب قصص قصيرة لمحمد خير، وكتب لساغان وكونديرا ومي غصوب وشوماكواندو وعبد الكبير الخطيبي وماتي أونت وعلي الشوك وربيع جابر. وكتابان ضخمان لأومبرتو إيكو وجورجي أمادو. إلى جانب علبة مناديل وغطاء علبة وشاحن اللابتوب وعلبة سجائر أخرى وشوكة متّسخة.
يلمع موبايله الموضوع على حجره ليلتقطه ويقرأ عنوان الرسالة ويمسحها مباشرة.
يكتب كل شيء بمجرّد حصوله، ويصف كل شيء بمجرّد أن يتحقّق. وعندما تمشي الغيمة التي وصفها قبل قليل، يعود إلى ما كتبه ويعدّله حتى تختفي تماماً.
هنا يقع في المشكلة التي لطالما حاول تجنّبها: يفكّر في المشكلة، واضعاً يده الباردة على شعره القصير ليشتم رائحة عرق من تحت إبطه، ويتذكّر "تاء" التي قالت بأنها تحبّ رائحة عرق الإبط.
يفكّر في المشكلة وهو يقرّر أنه لن يكتب عن أي شخص آخر، حتى "تاء".
يفكّر في المشكلة وهو يقرّر أنه لن يكتب عن أي شخص آخر، حتى "تاء".
يكتب الجملة مرتين، ويقرّر أنه سيتخلص من كل هؤلاء الأشخاص عندما يكتب عنهم مرتين. 
ويعود ليفكّر في المشكلة وهو يشعل سيجارة أخرى.
ويعود ليفكّر في المشكلة وهو يشعل سيجارة أخرى.
ويحاول أن يمرّن نفسه على ألا يصف شيئاً سينمائيّاً أو مسرحيّاً، ويقرّر الاعتماد على الأفكار.
ويحاول أن يمرّن نفسه على ألا يصف شيئاً سينمائيّاً أو مسرحيّاً، ويقرّر الاعتماد على الأفكار.
يتفقّد يده المليئة بالجروح، ويعدّها: أربعة. ويحاول أن يستهلك الوقت بالكتابة كي يمرّر إحساسه بالموسيقى التي يستمع إليها بسمّاعتين صغيرتين. وينفر من شخصية الفرقة المتضخّمة التي تختار اسمها: Riding Alone for Thousands of Miles.
في البداية، كان يحاول كتابة مسرحيّة. لم يقرأ مسرحيات كثيرة رغم ولعه بصمويل بيكيت. لكن الفكرة جاءته حالما فتح عيونه صباحاً، وتخلّص من الأفكار التي انحسرت عن وعيه كما لو كان يزيح عن جسده أكوام قطن ناعم.
لكنه اكتشف لاحقاً أنه يريد فقط أن يستهلك الوقت كغيره. لذا، أقصى كل القصص التي يمكن أن يكتبها ويشوّهها، وكل الأفكار التي أراد كتابتها عن هيغل.
واكتشف أيضاً أنه يريد أن يتخلّص من الدهشة في الكتابة. أراد فقط أن يكتب بدون أن يترك أثراً. 
وينظر إلى قدميه اللتان تلمعان الآن في عمود الضوء.
وينظر إلى قدميه اللتان تلمعان الآن في عمود الضوء.
في الواقع، أراد أيضاً أن يتخلّص من الكتابة عن الماضي. وكلمات مثل: "في الواقع". ولأنه الآن يشعر بأقل ثقل للوقت، قرّر ألا يكتب عن ليلة الأمس، رغم أنه يرغب بذلك بشدّة.
هو، في الواقع، في الواقع، يريد أن يتخلّص من أي شعور من أي شخص تجاهه. ربما يتحسّن ذلك، كما قال لـ"أ" وهو يفتح علبة سجائر أخرى.
أولاً: ينزع غلاف البلاستيك الذي يغلّف طرف العلبة.
ثانياً: يفتح العلبة وينزع غلاف القصدير عن أطراف السجائر.
ثالثاً: يكوّم طرف غلاف البلاستيك، ويلفّ باقي الغلاف عليها.
رابعاً: يمسك كرة الغلاف البلاستيك بأصبعين، ويلفّ القصدير عليها.
خامساً: يضع الكرة في المنفضة.
ولأن المحادثة الأجمل تجري مع "أ" فقط، يخبره أنه سيتحسّن. لكنه سيعود دوماً إلى هذه المنطقة. لذلك، أرسل على رقم موبايله رسالة ليلة الأمس ليلة الأمس، وهو يفكّر في أن يخبر أحداً عنها أم لا.
لكنه يفكّر أيضاً في أنه سيختتم بها ما يكتبه.
لكنه يفكّر أيضاً في أن بوكوفسكي كان أيضاً غاضباً.
لكنه يفكّر أيضاً في أن بوكوفسكي كان أيضاً غاضباً.
وأنه يعتقد أن الطريقة الوحيدة لإنهاء كتابة هي أن يصبح المرء هادئاً فجأةً.
و"أ" يعتقد بأن "أ. ز" يجلس ليكتب لأنه لم يعد في مخيلته أحد ليتكلم معه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق